رغم التاريخ الحافل للمخرج الدانمركي الكبير Lars Von Trierفي عالم الفن السابع طوال سبعة وثلاثين عاماً من العطاء، ورغم اعتباره الابن المدلل لمهرجان كان السينمائي الذي يحتضن إطلاق أعماله الجديدة، إلا أن خيبات الأمل رافقته كثيراً بابتعاد السعفة الذهبية عنه في الأمتار الأخيرة بضع مرات، ليفاجأ عام 2000 بنيله الجائزة المرموقة عن تحفته الخالدة Dancer in the dark التي أنهى بها ثلاثية القلب الطيب Breaking the waves, 1996 وThe idiots,1998 .
يرجع بنا الفيلم إلى منتصف ستينيات القرن الماضي في منطقة ريفية بالولايات المتحدة الأمريكية، ليرصد حياة المهاجرة التشيكوسلوفاكية Selma و(تقوم بدورها الممثلة والمغنية Björk) وكفاحها المرير لكسب قليل من النقود عبر عملها الشاق في مصنع كبير للحديد والصلب، حارمة ابنها الوحيد Gene من كل شيء تقريباً بحجة إرسالها المال إلى والدها المريض في تشيكوسلوفاكيا، بينما تخفي في أعماقها عن العالم كله سراً محزناً: إنها تفقد بصرها تدريجياً وبعد فترة لن تعود قادرة على الرؤية مجدداً، يعود ذلك أساساً لمشكلة وراثية لعينة، لذا لا بد من إجراء عملية جراحية لابنها Gene في عيد ميلاده الثالث عشر، وإلا سيلاقي مصير أمه التي كانت أنانيتها أكبر من كل شيء عندما أنجبته مع علمها الكامل بشبح العمى الذي يتربص به طوال حياته، ولذلك السبب فقط تركت بلدها الأم قاصدة الولايات المتحدة المتقدمة طبياً وعلمياً.
تقضي Selma معظم وقتها في العمل سامحة لنفسها بقليل من المتعة في دور السينما مع صديقتها المخلصة Kathy (تقوم بدورها الممثلة المعروفة Catherine Deneuve)، مفجرة شغفها للأفلام الموسيقية الكبرى بمشاركتها في مسرحية محلية، حاصدة بابتسامتها الدائمة وبساطتها المفرطة قلوب الآخرين ومحبتهم، لتعود كل ليلة إلى بيتها (مقطورة في فناء ضابط الشرطة المحلي Bell ) وتعمل في طي بطاقات المعايدة الصغيرة بأجر زهيد، ومع زيارة Bell المفاجئة لها في إحدى الليالي تكشف له سرها الدفين لتخفف قليلاً من أحزانه نتيجة إفلاسه التام، لكن Bell يخونها ويستغل حالة ضعف بصرها ويسرق مدخراتها كلها في اليوم الذي تطرد فيه من عملها في المصنع لتعطيلها إحدى الآلات دون قصد منها.
بعد أخذ ورد، تضطر Selma لقتل Bell كي تسترد نقودها وتتجه فوراً لتدفع بها أجور عملية ابنها، قبل أن تقع في قبضة الشرطة وتعامل في قاعة المحاكمة لاحقاً كشيوعية مجرمة، ومع إصرارها على إخفاء سرها عن الجميع يصدر بحقها حكم بالإعدام شنقاً بتهم السرقة، الخيانة والقتل العمد، وتوضع في سجن الولاية بانتظار تنفيذ الحكم، ورغم انكشاف الحقيقة لأصدقائها المخلصين في النهاية، ترفض Selma إعادة فتح قضيتها كي لا تجبر على دفع أجور المحامي من مال عمليو ابنها Geneمفضلة الموت بكل شجاعة كي يستعيد ولدها نظره ويتمكن من رؤية أحفاده.
في ضوء ذلك، يطرح الفيلم مجموعة كبيرة من المشاعر والأحاسيس، ما يدفع نسبة كبيرة من متابعيه للبكاء بشكل هستيري مع تفاصبله الكثيرة، خاصة في النهاية عندما تبدأ Selma بعدّ الـ 107خطوات التي تفصل زنزانتها عن قاعة إعدامها، قبل أن تنفجر دموع المشاهد بحرقة مع مشهد الإعدام القاسي الممتزج بأداء باهر من Björk وصوتها الذي تنشد به أغنية أخيرة من وحي حياتها المأساوية.
وفي سياق متصل، أتت الأغاني المصاحبة للفيلم في أوقات شديدة الحساسية، لتعمل على صعيدين مختلفين، الأول تخفيف حدة الفيلم في نقاطه المفصلية التي تنقله من بعد لآخر، والثاني للتعبير عن الأفكار التي تدور في عقل Selma كونها تحدث كأحلام يقظة تمدها بالقوة وتساعدها على تحمل واقعها القاسي، ففي أحد المشاهد وبعد أن تقتل Bell، تغرق Selma في أحلامها وتتخيل جثة Bell تنهض لترقص معها وتحثها على الرحيل بسرعة قبل أن تأتي الشرطة إلى المكان، وفي مثل هذه التفاصيل يتخطى الفيلم الكلاسيكية السينمائية التقليدية ويعلن انتماءه بشكل صارخ لمدارس ما بعد الحداثة في الطرح والتفكير.
من جهة أخرى اعتمد Von Trier بشكل كبير على قواعد سينما الدوغما التي ابتكرها عام 1995 لكنه خرقها متعمداً في بضع نقاط، فصحيح أنه يصور الفيلم بكاميرا محمولة باليد ما يضفي تأثيرات توثيقية على الأجواء، إلا أنه استخدم 100 كاميرا رقمية لتصوير مشاهد الأغاني المختلفة، ليختار أفضل اللقطات لاحقاً ويضمها للفيلم، ورغم نبذ الدوغما لمشاهد العنف، إلا أن مشهد قتل Bellصوّر كما هو: ست رصاصات وأربع وثلاثون ضربة بصندوق حديدي على الرأس، أما ظهور أيقونة السينما الفرنسية Catherine Deneuve في الفيلم فهو خرق آخر للدوغما التي تفضل الاعتماد على أسماء مغمورة كي لا تضفي تأثيرات معينة على الأحداث.
استكمالاً للنقطة الأخيرة، تلعب دور البطولة في الفيلم نجمة الغناء الأيسلندية Björk في تجربتها التمثيلية الوحيدة، لتخطف بها جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي من أيدي كبرى ممثلات العالم، حيث أدت الدور بحساسية مفرطة وعاطفة جياشة، بينما أتى صوتها في الأغاني وأسلوبها الموسيقي الذي نقلته للفيلم تلحيناً وكتابة، ليضفي بعداً آخر على مأساوية الأحداث، وبدت طوال الفيلم كأنها لا تمثل، وربما يعود ذلك أساساً لكوننا لا نعرفها كممثلة من قبل ولا نعرف حركاتها الاعتيادية كما هو الحال مع نجوم التمثيل، لكن انفعالاتها على صعيد حركات الوجه وارتعاشة الصوت وخاصة في مشهد الإعدام الأخير كان خارقاً للطبيعة ومذهلاً وموازياً للحالة النفسية التي يعيشها المتلقي في تلك اللحظات.
ما يلفت الأنظار في الفيلم أيضاً هو طريقة القفز الزمني المتبعة في عرض الأحداث، فلا وقت للتركيز على أشياء ثانوية، ويتم عرض كل شيء كنتيجة حتمية لما سبق: تلقي الشرطة القبض على Selma في مسرح المدينة الصغير وتنتقل الأحداث فوراً في المشهد الموالي دون أي تأثيرات بصرية إلى قاعة المحكمة، وفور نطق الحكم ننتقل إلى سجن الولاية، وهكذا قفزات زمنية متتابعة بتتال منطقي شديد الإتقان ولا متناه في الواقعية.
تجدر الإشارة أيضاً إلى الحالة النفسية المعقدة لبطلة القصة، إذ تعاني Selma من عقدة الذنب وتعتبر نفسها سبب مصيبة ابنها فتحاول التكفير عنها طوال الفيلم لحد نكران الذات، بينما يعتبر شغفها بالأفلام الموسيقية إضافة رومانسية لشخصيتها الطيبة وقلبها الرقيق، وتشكل أحلام اليقظة المتنفس الوحيد لها من الضغط الذي تحمله على كاهلها دون مساعدة أحد، دون أن ننسى إخلاصها للآخرين والسذاجة التي تتظاهر بها لإخفاء ما يدور داخلها، أما الانهيار الذي يحدث لها في النهاية فليس سوى دليل على الضعف المختزن وراء أقنعة القوة التي تختبئ خلفها.
وعلى هذا الصعيد، يمكن القول أن Von Trier أبدع في كتابة النص وتحديداً في تحليل النفس البشرية، وساعده ذلك كثيراً في نقل الفيلم إلى الشاشة الكبيرة دون معاناة، فالفيلم شديد البساطة إلى حد كبير (باستثناء مشاهد الأغنيات)، وهناك تركيز واضح على الشخوص نفسها بعيداً عن الاهتمام بالمؤثرات البصرية والغرافيكية الشائعة في زمننا إلى حد الابتذال.
Dancer in the dark فيلم شديد الروعة، متقن إلى حد الكمال، ولا أبالغ إن وصفته بالأفضل على الإطلاق، محرك للمشاعر، مثير للأحاسيس، ومثال سينمائي عن فلسفة القوة والضعف في الحياة البشرية، وتحفة فنية يجب على كل شخص عاشق للفن السابع مشاهدتها دون تردد.
من مواليد دير عطية، سوريا،
17 مارس / آذار 1988
درس الإعلام في جامعة دمشق
يعمل حالياً كاتباً صحافياً في جريدة المدن الإلكترونية، قسم الميديا
يحضر حالياً لنيل درجة الماجستير في الإعلام من جامعة بيروت العربية