بقلم : د. روحي عبدات
يقف حائراً وسط جموعٍ غفيرةٍ من المسافرين واليتيمة إلى جانبه، تتطلع عيناه المتعبتان هنا وهناك، لعل أحدهم يرشده إلى المجهول.
يحمل أوراقه في كيس شفاف، وتحمله عصاه القديمة بين حين وآخر. إنه مسنّ سبعيني، أو قد يكون ثمانينياً -لا أعرف- ولكن ما أعرفه أنه مرهق، وشبه تائهٍ وسط الزحام.
لم يشفع له زيّه التقليدي الجميل بأن يحظى بمساعدة استثنائية. قمباز أظن فوقه جاكيت، متجانس مع جسد نحيل ينحني على عصاه. وفوق هامته كوفية بيضاء وعقال متين يحميها من السقوط. مشهد لم يعد مألوفاً في عصرنا هذا بل يكاد ينقرض وسط آخر صيحات الموضة.
الكل مشغول هنا بحقائبه ووثائقه، لا يكاد أحد يرى سوى طريقه نحو إجراءات ليست سهلة في انتظاره، أُسرٌ كاملة تلملم أطفالها، وآخرون يودعون أحباءهم، نعم، الكل مشغول هنا وعلى عجل يعتريه القلق.
نظر مرة أخرى يميناً ويساراً، صامتٌ عيناه تتكلم، تمسح الجموع، محاولةً استيقاف بعض المتعجلين، ظلت كذلك حتى اصطدمت بعيني. لم أستطع تجاهل نداء الاستغاثة فتقدمتْ.
لا أذكر إن كان قد تكلم بشيء، لكنني فهمت ما يريد، فالمعاناة واحدة لدى الجميع، كل ما هو مطلوب الآن هو وضعُ الملصق على الحقيبة، والتحقق من استيفاء الوثائق، وكلمات طمئنة بأن كل شيء على ما يرام. فعلتها وأعدت طي الأوراق، ووضعتها برفق في مهدها الشفاف الدافئ، ثم في كيسٍ آخر أكثر دفئاً، بالطريقة ذاتها التي أرادها لها الحاج –لا أعرف إن كان حاجاً أم لا- حتى يطمئن أكثر فأكثر.
طلبتُ منه أن يترك اليتيمة مكانها للحمّالين، وطمأنته بأنها ستكون بخير، ليكسب الوقت ويواصل مسيره نحو مزيد من الإجراءات، متمنياً في داخلي أن يصطدم بآخرين يفكون له طلاسم المحطات الأخرى. يبدو أنه شكرني لكنني لم أسمع كلمات بالكاد يتمتمها فمه، ففي موقف كهذا بالنسبة لمُسنّ كهذا يبقى استنشاق الهواء أهم من الكلام.
وقفتُ للاطمئنان على حقائبي ولأضمن وضعها على العربة، ولمّا حصل ذلك، هممتُ بالانصراف مستعداً للمرحلة القادمة، لكنني استدركتُ يتيمة الحاج التي لا زالت تراوح مكانها، فكل من حولها يُقلع نحو العربات، والبقشيش أيضاً نحو جيوب الحمّالين، إلا يتيمة ذلك الحاج.
تدور عجلات العربات التي يجرها الحمالون واحدة تلو الأخرى، وتكاد العربات تصطدم باليتيمة، فقد غادر صاحبها بصمتٍ دون أن يميل نحو الحمّال ويهمس في أذنه، ودون أن يضع يده في جيبه. بقيت اليتيمةُ وحيدة كجزيرة في البحر، بل هي واحة في الصحراء، تُخبر أقمشتها الملونة المربوطة عليها بحكايات قديمة، وتعرجاتها توحي بكثرة أسفارها. لكنها خفيفة، نعم، خفيفة جداً، عرفتُ ذلك حين صافحتها، لعلها تحتضمن قمبازاً آخر للحاج، أو مسبحةً وسجادة صلاة، أو تنتظر بعض الهدايا لأحفاده.
في تلك اللحظة، دارت في مخيلتي ألف حكاية محتملة عن “الختيار” وشبابه حين كان قوياً يساعد الآخرين، وعن أبنائه الكثيرين وأحفاده، وعن نيته الذهاب للعلاج، وعن كل العجولين الذين يذهبون سريعاً نحو الشيخوخة دون وقفة تأمل في منتصف العمر.
عدتُ من خيالي بسرعة وأدركتُ أن عليّ تذكير أحد الحمالين بأن تلك اليتيمة للختيار، تركها على أمل اللقاء بها بعد حين. ودون أن يطالعني، حمل الحقيبة اليتيمة بتثاقلٍ ورماها فوق حِمله، وصرخ نحو أحد زملائه منبهاً إياه باتباع الدور والحفاظ على النظام.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011