منذ سنوات طلبت منى صديقتي أن أكتب، أن أسكب وجعي، أعجنه بحروفي، أغرسه في الأحرف والكلمات. توالدت الأسئلة: إن قدّر ربي غرس نبتي في صحراء الصمم هل أتركه يذبل؟ هل أترك يأساً يجرف حلمي؟ ورجالي حلمي الأكبر؟!!، وفاجأني تحول الدمع أنهارا تروي الآمال والأحلام، فنبتت أزهاري رغم صحراء الصمت، وبدأ القلم ينثر حروف أمله لدعم صموده وصمود الآخر، تلك كانت بداية قلمي كأم لخمسة من الذكور، اثنين منهم من فاقدي السمع.
اليوم أجد من الضروري أن أطل على ما كان، وكيف أصبحنا كأسرة من أسر الأشخاص ذوي الإعاقة، وكيف أسهمت الإعاقة في ميلاد حرف وربما كاتبة! وتوهمت أن أحرفي ستفيض وتغرق الصفحات في لحظات، لكني ما إن شرعت أطرق نافذة الذكرى حتى انهالت صخور من الآلام خشيت أن تعوقني عن إتمام الطريق؛ فكم من دموع ضببت دربي إلى الأوراق، وكم من أحداث ومرارات أسرت القلم ولو إلى حين..
معلومات عن الأسرة:
تحيا أسرتي في دلتا نيل مصر حيث تعلمنا أن القطن الأبيض ينبت من الطين الأسود، لكنه لا يستر إلا بالجهد الممزوج بالعرق وربما الدموع، رب الأسرة طبيب في أمراض النسا والتوليد، أما الأم فحاصلة على الدكتوراه في بناء التواصل مع الأشخاص الصم المكفوفين، وعضو باتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب الإنترنت العرب، والأبناء هم (أحمد) من فاقدي السمع العميق وهو حاصل على بكالوريوس الفنون التطبيقية ويعمل كمصور وفنان تشكيلي وصانع أفلام، (عمر) طبيب بيطري، (كريم) حاصل على بكالوريوس علوم الحاسب ويستكمل دراسة البرمجة وهو من فاقدي السمع الشديد، (مصطفى) بالفرقة الثالثة كلية العلاج الطبيعي، و(عبد الرحمن) بالفرقة الاولى في كلية طب الأسنان
خصوصية الأسرة:
تبدأ الخصوصية حين لاحظتُ أن أحمد وهو في عمر ثلاث سنوات لا يفهم أوامري، ولا يلبي طلباتي فحين كنت أطلب منه شيئا (كوبا مثلا)..كان ينتظر كثيرا.. يتأمل.. أكرر طلبي مرات وقد أصرخ!، يذهب أحمد ليحضر شيئا يختلف كثيرا عما طلبت (طبقا مثلا)، وكنت أغضب؛ لم أكن أعي أنه لا يسمع الكلمة أو أنه يسمعها بصورة تختلف كليا عما ننطق، بدا عدوانيا كثير الصراخ، كان ينطق الكلمات بصورة غير مفهومة، بدأت أشك في عدم قدرة طفلي على السمع الجيد.. كذبني المحيطون ؛ فلا تزال ثقافتنا أن فاقد السمع أو الأصم هو من لا يسمع كليا، بعد ستة أشهر كاملة من الشك لجأت الأسرة إلى الفحص الطبي الذي أكد وجود فقد سمع عميق.
اكتشاف فقد السمع وتأثيراته:
أعود إلى ما دونت بعد سنوات عن لحظة الاكتشاف حين أخبرني زوجي بأن طفلي الأول (أحمد) سيحتاج لارتداء سماعة طبية (يحتاج سماعة).. ألقاها، وغادرني إلى غرفة النوم لاستبدال ملابسه، ربما ليحاول أن يستبدل مشاعره في تلك اللحظة، وحينها ولأول مرة في حياتي أدرك مدلول مقولة أدبنا الشعبي (الحزن دخل قلبي) فحتى تلك اللحظة لم يكن للحزن ـ كما شعرته ـ أي مرور في حياتي، ولم أستشعره بعدها بذات الحدة رغم تعرضي لتكرار تجربة اكتشاف فقد سمع ولدي (كريم) ورغم ضغوط وأحداث ومرارات، وكأنني فقدتُ أعز عزيز. صمتُ وزوجي تماما، لم نتحادث.. كنا نكتفي بالابتسام كلما تلاقت أعيننا وكأنها رسالةُ دعم للآخر…. حين اكتشفنا الفقد السمعي لكريم شعرنا بالحزن لكنه الحزن ممزوجا بالرضا.. ربما ترسخت ثقتنا بقدرتنا على المواجهة…
الإعاقة والأمومة والحروف
وبقدر ما كان حلم الأمومة لأطفال (أصحاء) يمارسون كل الحياة بقدر ما كانت صدمة فقد سمع أطفالي قوية، اضطربنا كثيرا ونحن نعجز عن تحديد خطوتنا…. أعترف أننا وبرغم انتمائنا إلى قمة المجتمع من حيث المستوى التعليمي إلا أن وعينا بالإعاقة عامة والسمعية خاصة وما قد تؤثر به على حياة طفلنا وحياتنا كان معدوما… في البداية لم يكن وعينا بحجم المشكلة كاملا، توهمت أن الأمر يتوقف على ارتداء سماعة وتستمر الحياة.. وحين ارتدى أحمد سماعته لأول مرة، راقبته.. كان وسط مجموعة الصغار صامتا ذاهلا لا يلعب.. ينظر لي وعيونه تستصرخني لمساعدته، كنت عاجزة عن إدراك الكيفية التي تمكنني من مساعدته.. لم أكن أعرف شيئا عن التدخل أو التخاطب.. هي مفردات جديدة في حياتي. وليتني وجدت من يساعدني ويمنحني القدرة على دعم طفلي… كانت حيرتنا كبيرة… كل ما عرفته أنني أريد أن يتكلم ابني كلاما صحيحا كسائر البشر. لم يكن لدى حينها أمنية سوى أن يتكلم…) أهملت بيتي وزوجي وأولادي السامعين، وقبل كل ذلك نفسي وذاتي وأحلامي لأربعة عشر عاما قضيتها مع الأمل والحلم (أحمد وكريم) حتى تعلما الكلام واندمجا في مدارس التعليم العام، ومع كثرة الضغوط والأعباء كدت أسقط… وسألت عن ذاتي ووجودي وكانت الإجابة في تواصل عبر شبكة المعلومات من خلال حرف يشع النور بظلمة أيامي وأيام أمهات أخريات، ومن خلال الدراسة ومن خلال المشاركة في الخدمة المجتمعية التطوعية وانطلقت أول حروفي إلى (ماما نور) ونور هي أم لطفلة لديها إعاقة حركية ـ كان هدف حروفي الواعي هو تثبيت (نور) ويبدو أنها كانت حاجتي، وما تمنيت أن أسمعه من طفلي أيضا: ماما حبيبتي.. قوي إيمانك… واصلي حنانك.. إوعي يا ماما اليأس يطولك.. إوعي الضلمة تغطى النور.. شجرة عمرك بكرة هتطرح… نور وإيمان وغنا ومووايل.. وأنا مش هنسى وهفضل أغني.. ماما حبيبتي..
إنه حلم الأمومة الذي منحني القوة والقدرة على المواصلة؛ أمومة لرجال أقوياء يعايشون مجتمعهم ويندمجون به ويشاركون في صنع واقعه ومستقبله (أم الرجال أنا وف قلبي مليووون حلم… النبت الاخضر يرعرع ويوصل للسما…. يوصل لضي الشمس من غير عنا… يقوى ويثبت ينغرس… لا ريح تقدر تقلعه.. ولا حتى زلزال يخلعه)… إلا أن صدمة الإعاقة تنعكس في (لكن… من بين ورد بساتيني لقيت ورده.. إتخيلت انها دبلانه.. خفت عليها تموت أو تتدمر.. أو حد يفكرها مهانة)… إنه الخوف من تأثير الإعاقة ومن اتجاهات المجتمع السلبية، وما يمكن أن يوصم به الشخص أو أسرته.
كان خوفي من اليأس والفشل أكبر مصدر لقلق حياتي.. وكان حاجتى الأولى هي الشعور بقوتي في مواجهة ضعف أعانيه وكان الحرف ملاذي للتمسك بالأمل فكنت أغرس الثبات في كلماتي، وربما كانت ولا زالت محاولة لا واعية / أو واعية للمحافظة على التوازن النفسي أو استعادته في وجه كل تيارات الضغوط فيحذرني حرفي على لسان طفلي: إوعي الحزن يطول أنغامك… إوعي تقولي إني معاق.. ده أنا اتعلمت.. واتكلمت… وقدرت أاقراا شفايف وعيون.. علمتيني بعيني أحس حب الناس.. وبقلبي أسمع تراتيل الكون؛ فأكتب: ولدي… إن غابت شمسٌ عن أرضك… فابحث بمجراتِ وجودك… ارحلْ بمدارات الأرض وفتّشْ… عن أقماركْ… أَشرِق فجرَ علومك يقرأْ… همسةَ ليلك.. صخبَ نهاركْ..
كنت بحاجة للشعور بالقوة لكنها لم تكن حاجتى الوحيدة وكان الحرف أول من يلبي ما أحتاج فكان الحلم في (أحلام أم الرجال) وفي (سفينة الحلم) وفي (اقفز) أحلم بجوادي منتصرا فبآمالي وبأحلامي قد ربيته… وبدمعي الصامد وكياني وبكل وجودي غذيته…
وكانت الشكوى (بدروب قد نُثرت شوكا قد سرنا.. لم يعنينى سيل الدم.. لم أهتم).. وكان القلق: مين يحميني؟ لما الأم إللي بترعاني، وفاهمة حياتي، واحتياجاتي، وحاسة بألمي، ونبض دموعي، وابتساماتي تموت وتغيب؟ مين يحميني؟ لما الشر يلم جيوشه، ويجمع ناسه، وياخد دمعي، وكل إعاقتي، يتاجر بيها؛ يعبي جيوبه، مين يحميني؟
وكان الوصف في لقطات تعبر عن واقعنا في (حين تكلم ولدي) أُنصتُ للأصواتِ بوجْهِكْ…
البسمة همس.. والغضبُ المشتعلُ بعينيكِ الرعدْ..َ كوْني صمتٌ يُظلمُ دربي.. دربي حُلمٌ يرقبُ غيثا.. غيثي صوتٌ يُنبتُ أملي.. هل أَنبُتُ يوما يا أمي؟؟! تصفعني الأحرف يقذفها.. في مرمى القلبِ المطعونِ بكلماته… ويساء لني الدمعُ المخنوقُ دهورا.. والمسجونُ بأصدافِ العزةِ في عمق ثباته.. ما يشبه صوْتُ المطرٍ النابتِ بِذرا يا أمي؟؟ هل يشبهُ دِفءَ دموعي الحافرةِ دروبا.. حين يخيّمُ ليلُ الصمت؟ أم يشبه صفعةَ أمواجِ الجهلِ بظهري تلصقني بالرمل؟؟؟ أُغرِقُ في نهرِ ضفافي كلماته.. أخرسُ رعدي.. أَحبِسُ مطري في غيمِ جفوني.. يهمسُ وجهي: صوتُ المطر هو كفي يوقظُ ومضَ صمودك.. هو حضنُ وجودي لوجودك.
أعترف أن الكتابة كانت لي قبل أن تكون للآخر وربما تمكن الحرف من تحقيق التوافق بين الذوات المتعددة داخل نفسي، فكلما اشتد الوجع أو الصراع كان الحرف، وبعد ميلاده أعود لأطل على شرفة الروح فأتنفس من جديد، وأظل: في مطبخ أوراقي أطهو ألمي.. تنضج كلماتي فوق مواقدِ كل الآاااه.. أفرش مائدة الصبر بألوان الأحرف.. أترقبُ.. مدفع إفطاري..
وهذه (انتظار) لقطة من واقع أمومتى الخاصة نشرت في العدد الأول من مجلة ساقية الصاوي الورقية: على استحياء وبصوت خفيض وبلكنة تشبه حديث الأجانب حين يتكلمون العربية قال: فيه مسابقة للتصوير في ساقية عبد المنعم الصاوي…. تنتظر… يطولُ الانتظار.. تحتوي عيونه المتلهفة لقراءة وجهها وتسأله: عاوز تشارك؟ يهز رأسه موافقا ومسارعا: في فرع واحد.. الأبيض والأسود…تدرك رغبته وحاجته.. تبتسم: هكلم بابا وأجيب لك رسوم المشاركة وتكاليف الطباعة.
كعادته يتأرجح بين الرغبة وعدم الثقة.. بين موجات يأسه وقلقه.. تطارده اتجاهات سلبية نحو الصم.. النظرة الدونية لقدراتهم.. يلاحقها معتذرا: ممكن مش أفوز… تربت على كتفه: ولا يهمك.. المهم تشارك.
رغم مشاركته تراه محبطا.. تبرق في ذاكرتها إجابته؛ في لقاء تلفزيوني سألوه: باعتبارك فاقد سمع يندمج بمجتمع السامعين.. ما الصعوبات التي تواجهك؟ أجاب بلا تردد: الناس تنظر لي بأني لا أستطيع.. أريد أعمل كل حاجة زي (العاديين).
مساء السبت كان هناك في القاهرة… تهاتف صديقه: أسامة.. ألم تعلن النتيجة؟ يجيبها: الطريق مزدحم…. تصلها لكنة صغيرها المميزة بجوار صديقه يستفسر: مين؟ ويأتيها صوت أسامة يحدثه: ماما.. أبلغها حاجة؟ رغم سدود وجبال بينهما يأتيها صوته من بعيد.. شكرا..
على حافة قلقها تنتظر.. تمسك الهاتف وتتركه… تخشى إزعاج صديقه الذي يتولى الرد نيابة عنه؛ فرغم أمومتها يزعجها أحيانا دور المترجم.. تتمنى لو استطاع أحمد أن يجيبها.. آه لو احتوت آذانه دعواتها.. كانت ستمطره دعما.. تكاد تهوي.. تتشبث بالدعاء: ساعده يا رب وفرح قلبه.. يرن الهاتف.. تعلو دقات قلبها على رناته… يأتيها صوت أسامة صاخبا: مبرووووك.. أحمد فاااز.. تنتفض…. تمنت لو وصلته صرختها المبللة بدموعها… تحجبها جبال الصمت.. حائرة لا تدري كيف تحتويه.. تتذكر خوفه وقلقه ويأسه.. تعبر أسوار عجزها وترسل حروفا قد تمطر في رسالة جوال: ألف مبرووك يا حبيبي.. أثق بك.. إنها البداية..
وختاما جاء كتيب (قلوب تفيض) محاولة للغوص في أيامي وآخرين من الأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم، أما ديوانى الوحيد (وحين أورقت) فكان بحثا عن عشب يشبهني، وتظل هذه شهادتي وأنا ألوذ بحرفي مشرقا بالأمل، أرجوه مرآة لذاتي بكل أمواجها وأمومتي بكل تفردها، وانسانيتي بكل ما أدركت وعايشت من آلام وآمال وأسأل الله أن ننجح.
د. سهير عبد الحفيظ عمر (أم الرجال),
- استشاري التربية الخاصة وتأهيل الأطفال الصم المكفوفين.
- حاصلة على أول دكتوراه في الوطن العربي تتناول تنمية التواصل لدى الأشخاص الصم المكفوفين، تجمع بين الدراسة العلمية ـ كباحثة أكاديمية لها العديد من الدراسات ـ والخبرة والممارسة العملية التي تنوعت بين أمومتها الخاصة لاثنين من فاقدي السمع المتميزين ذوي التجارب الرائدة والعمل في مجال تأهيل الأطفال ذوي الإعاقة السمعبصرية.
- تمتد خبرتها العلمية والعملية في مجال الإعاقتين السمعية والسمعبصرية إلى ما يقرب العشرين عاما، تعمل كمستشار لعدد من الجمعيات والمواقع الإلكترونية العاملة في مجال الإعاقة.
- عضو مجلس أمناء مركز القاهرة للتدخل المبكر واتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب الإنترنت العرب.
- محاضر ومشارك في عدد من المؤتمرات والدورات وورش العمل المحلية والعربية والدولية المتخصصة في مجال الإعاقة.