في طريق عودته إلى المنزل اصطدم بعامود الكهرباء وكانت المرة الرابعة التي يحدث فيها ذلك بنفس الطريقة تقريباً مذ قرر التنقل في الحي دون الاعتماد على أحد.
تلمس بكفه مكان الضربه كي يتأكد من عدم وجود دماء، الحمدلله،، سليمة،، قال لنفسه وتابع المسير.
في ذهنه، الطريق واضحة المعالم والخطوات محسوبة بدقة، لكن اعتماده على نفسه كلياً دون مساعدة أحد في الذهاب والإياب أمر جديد وبحاجة إلى بعض الوقت.
تسعون خطوة متوسطة بين باب المنزل وموقف الباص، عن يمين الموقف شارع طويل يفضي إلى الحديقة العامة.
كانت المشكلة في قطع الشارع الضيق بين الرصيف وباب الحديقة لكنه لم يغامر بذلك ولا مرة قبل أن يجد من يؤكد له أن الشارع خال من السيارات.
بصحبة أسرته ذهب كثيراً إلى مناطق عديدة وبعيدة لكن هذه الرحلة التي يقوم بها منذ أربعة ايام إلى الحديقة دون الاعتماد على أحد كانت الأحب إلى قلبه وأكثرها بثاً للسرور والفخر في نفسه.
ضحكات الأطفال أصبح لها وقع مختلف حين يسمعها وهم يلعبون ويمرحون، سلامات الأشخاص اختلف وقعها فصار يشعر بها أكثر احتراماً وتقديراً، لكن بعض التعليقات الجارحة كانت تزعجه حين ينبه أحدهم أولاده أو صديقه قائلاً (انتبه، إنه أعمى)،، كان بوده أن يقول لهؤلاء: يا أصدقاء،، أنا كفيف ولست أعمى،، وأنا من يأخذ احتياطه خلال المسير فما من داع لتحذروا بعضكم بعضاً إذ لا شك أنكم ترونني وبإمكانكم تجنب الاصطدام بي دون هذه التعليقات القاسية.
لم يسمح لهذه المواقف العرضية أن تسيطر على مزاجه وتحول بينه وبين السعادة العارمة التي يشعر بها في الآونة الأخيرة، تلك السعادة التي ولدتها في نفسه قدرته على الاعتماد على ذاته في التنزه بين الناس ومشاركتهم الحياة الاجتماعية ولو في نطاق محدود مبدئياً.
تلمس باب المنزل بعصاه، الرفيقة التي تلازمه في تنقلاته، أخرج من جيبه المفتاح وولج إلى الداخل.
على فراشه استلقى بعد أن تناول طعامه بشهية وهو يشعر أن فرحة أبويه وأخوته لا تقل عن سعادته هذه الأيام.
في اليوم التالي انطلق صوب وجهته بحماسة وحبور،، وقبل أن يصطدم بعامود الكهرباء توقف،، ثم تابع المسير.