في غرفه شبه مظلمة، عارية الجدران، تتوسطها طاولة خشبية تركية قديمة ويتيمة؛ لكنها متماسكة وقد حافظت على هيكلها من التآكل رغم قدمها، واقفة على أرجل غليظة، ليست على استقامة تامة، كأرجل فيل؛ لا يؤنس وحدتها سوى كرسيين متقابلين ومتشابهين وكأنهما توأم، صنعا من الحديد الخام دونَ طلاء أو مساند… جلسَ على أحدهما المحقق كاظم منصور الذي يتمتع برأس كبير وصلعة براقة، كسطح زجاجي نظف للتو؛ تنطق عيناه بنظرات وقحة، متمردة، متطاولة ومتلصصة كتلك التي يشاهدها المرء في عيون منحرف؛ قصير القامة، مكتنز اللحم، وفي صوته رنة خشنة، مخيفة، تبعث الهوس في العقل والخوف في القلب، وترعب وتوقظ حتى التماسيح النائمة؛ في الحلقة الخامسة من عمره، لكنه كانَ يتمتع بلياقة لا تنسجم وهيئة جسمه التي تشبه لحدٍ ما كيس الدقيق ذا فئة مائة كليو غرام! وبلباقة وسرعة بديهية لا يتوقعها المرء منذ الوهلة الأولى أثناء الحديث… وعلى الرغم من ضخامته وسمنته فهو يمتلك يدين صغيرتين مضحكتين وكأنهما لطفل صغير؛ كانَ يتصرف بشكل فظ كامرأة عارية من الكبرياء والخجل! وأهم ما يتميز به هو عندما يضحك، فيظهر أقبح ما فيه… أسنان مثرمة وكأنها لقرد هرم؛ وهو يصرخ بعنف وبانفعال شاطرَ وتغلبَ فيه، على الشيطان في غضبه…
امتلأ جو الغرفة الكئيبة بصراخه، الذي يشبه صراخ قطة شرسة، والشرر يتطاير من عينيه كماكينة خراطة وهي تشحذ قطعة من الحديد؛ وهو يستجوب الشاب ميثم بقسوة حادة وبخبرة عالم في مهنته؛ ميثم الذي لم يبلغ بعد الرابعة عشرة، نحيف الجسم، كلاعب في سيرك؛ ولبشرته لون القمح، خجول كنبض شخص نائم؛ لعينيه لون العسل، وله شفتان ممتلئتان وكأنهما خلقتا للتقبيل حين يأتي وقت العناق عندما ينضج ويكبر! هادئ الطبع، قليل الكلام، متفتح الحواس، مرهف الحس والوعي، يحب القراءة، ومولع بالقصص والحكايات منذ أن تعلم القراءة والكتابة، ويتابع وهو في هذا السن المبكر، كل نتاج أدبي جديد يظهر على الساحة وبمساعدة وتوجيه أمه التي تشجعه وتقتني له كل ما يطلبه بهذا الخصوص؛ ناهيك عن ميزة غلبت على كل طباعه وهي اللطف في المعاشرة…
هتفَ ميثم بلهجة مؤدبة وبكلمات مخنوقة لا تكاد تسمع وباحتجاج عذب يتناسب وصغر سنه:
ـ لا أعرف صدقني؛ لا أعرف لماذا ماتَ معين (وهو يلوح بيده محتجاً) ثمَ صمت وبدا وكأن الصمت يغني بلغة سحرية مجهولة.
– كيفَ لا تعرف يا وغد؛ وأنتَ الذي قتلته! ثمَ قالَ مراوغاً وبلهجة ماكرة غير مرغوب فيها: في حوزتنا هنا ثعابين مسلية كثيرة، إن رغبت جعلتك تلعب معَ أحدها… ثمَ ضحك حتى سعل.
أدار رأسه وداخله شعور بالأسى، خفض بصره وكأنه يخجل، وهبَّ واقفاً والدموع قد غزت عينيه العسليتين دون إرادة، وهو يلقي نظراته التي ليسَ لها معنى صريح على المحقق… ثمَ أردف بصدق:
ـ كل ما فعلته هو أني أردت تأديبه فقط؛..
عندها استولى الصمت على المكان، كالشعور بالإثم؛ ثم أدرك أن هناك شيئاً يود إضافته فقال برنة جدية، وكأنها تعود لشخص بالغ، بعدَ أن خرج من سكوته المشبع بالخوف والرهبة:
ـ لقد كنت خائفاً منه وأنا أضربه!
تنهد المحقق بارتياح عميق، بعدَ أن شعر بقول ميثم الأخير بنصر قريب في القضية التي يحقق فيها…؛ فابتسم وهو يدمدم بقول ماكر مخادع:
ـ سوفَ لن ينساك الله يا ولدي وسأذكر ذلك في التحقيق أيضاً…
ويهز رأسه كالبندول طرباً وانتصارا، لما ألت إليه نتائج التحقيق وبهذه السرعة غير المتوقعة… وأثناء ابتسامه، بانت أسنانه الجيرية المثرمة، فظهرت خلف شفتيه وكأنها ديدان ميتة؛ فوقف هو الآخر ليقابل ميثم الذي بدا أمامه كحمل رضيع، وسأله مباغتاً:
ـ ولكن قل لي: لماذا أردت أن تؤدب معينا؟!
فكرَ قليلاً، وكأنه لم يتوقع السؤال، وأجاب وهو يبعد أصبعه الصغير من فمه:
ـ لأنه كان… أقصد… لم أعد أتذكر…
ثمَ استطرد متسرعاً:
ـ وعليك أن تصدقني!
ردَ عليه المحقق بمكر شيطاني خبيث، وهو يقول:
ـ ولماذا تريدني أن أصدقك؟! (قالَ ذلك وهو يجلس مجدداً، واضعاً رجلاً على رجل).
– لأنني لا أقول إلا الحقيقة… (جلس ميثم أيضاً، كتلميذ مطيع خلف طاولته).
وبنفس الرنة المتمادية في الخبث المبطن، المستفز قال المحقق وهو يبتسم مجدداً، كمن أكل بعد جوع حتى امتلأ:
ـ وما هي الحقيقة يا ميثم؟
ـ الحقيقة… هي أنني…
ثمَ سرد ما في جعبته من كلام دفعة واحدة:
ـ هي إني كنتُ خائفاً منه وأنا أضربه، ولم يأت في ذهني التخلص منه، ولم أخطط لقتله.
ثمَ بلعَ ريقه وكأنه يشهق وتابعَ قائلاً:
ـ أردت فقط تأديبه.
– عظيم، هتفَ المحقق بزهو، ثمَ استطرد متأملاً وهو يسأله مجدداً: إذن تعترف بأنك قد ضربته لأجل تأديبه، وقد كنت خائفاً منه وأنت تضربه (وميثم يهز رأسه علامة الإيجاب) ثمَ تابع بذكاء محنك قائلاً: ولكن قل لي يا ولد: لماذا تمتلك أسنان مكسورة في مقدمة فكك؟!
– لأنها كسرت…! (وهو يقطب بامتعاض واضح).
هوت صفعة من يد المحقق الصغيرة على وجه ميثم وهو يقول بانفعال شديد، تأثراً بالجواب، صارخاً بأعلى صوته: يا ابن العاهرة… أنا أرى ذلكَ جيداً، لكني أسألك عن السبب!!
نظرَ ميثم من خلف دموعه إليه بخوف قاهر وهو يجيب، كغريق يطلب النجاة وقال: لقد سقطت يوماً وأنا أركض (قال ذلك وكأنه يمثل رغم صدقه).
– أين؟ (سأله المحقق بامتعاض وتقزز).
– في المدرسة (أجابه وهو يحاول أن يرنو ببصره بعيداً عن وجه المحقق، الذي بدا له كوجه دب جائع، متوحش).
(من خلال فراسته) شعرَ كاظم منصور بتقدم كبير وهو يستجوب الشاب الذي بدا أمامه كقطة مبللة وخائفة، ثمَ قال متسائلاً برقة مصطنعة ومبالغ فيها: ومن كان يركض وراءك يا عزيزي؟
أعجزته انفعالاته عن النطق، فصمت طويلاً… بعد أن تيقن بأنه أستدرج في حديث لم يشأ أن يخوض فيه…؛ فأعاد المحقق سؤاله بطريقة مختلفة وبرنة (استغرب منها ميثم كثيراً، وسأل نفسه سراً: كيفَ أتى بها؟! ومن أين؟! ثمَ أردف يا له من ساحر، كإبليس… ففي رنته سحر لا يقاوم) وقال مستطلعاً: من كانَ يلعب معك في ذلك الوقت، عندما سقطت وتكسرت أسنانك؟
– أجاب سريعاً دونَ تردد: معين (ثم عض شفتيه الممتلئتين ندما على تسرعه).
تفتحت أسارير المحقق كزهرة عند الصباح، وهو يفرك كعادته جناحي أنفه بحركة من يده اليمنى، إعلاناً منه أنه مشغول في التفكير… وتابعَ بلهجة طالما أتقنها في عمله عندما يأتي دور يمثل فيه المتسامح الرقيق، فقال:
ـ أراك الآن شاباً، مهذباً، وديعاً ومتعاوناً… ثمَ أردف بعاطفة جياشة مليئة بالود: يتوجب عليك مساعدة العدالة، ومن خلال ذلك؛ عليك أن تخبرني بما أريد معرفته دونَ خصام أو صراخ أو ضرب… وواصل كلامه على نفس الوزن من الرقة التي مازجها الجد والابتسام: قل لي الآن إذن… هل معين كان وراء تحطيم أسنانك؟!
ـ نعم (قال ميثم ذلك وهو يقطب حاجبيه).
– جيد جداً، ثمَ استطرد المحقق وهو يفرك يديه سروراً: هذا يجعلنا ننهي عملنا اليوم سريعاً دونَ تأخير! ثمَ تابع مستفسراً: ولكن لم أفهم بعد…ما السبب الذي جعلك في صراع معه عندما أردت تأديبه؟!
– لأنه… لأنه… كانَ يضايقني دائماً، ويهزأ بي، وفي أوقات كثيرة… ثم صمت كالتمثال.
ـ لا عليك يا عزيزي، فأنت إنسان طيب كولدي! وقد سألت عنك في المدرسة، وأكد لي مديرها بأنك طالب مجتهد، تحب دروسك ومتفوق فيها، ولك ميول أدبية رائعة…
ثمَ غير من لهجته المسالمة فجأة وقال بحزم دونَ تودد: لكنه قال أيضاً، بأنك كنت غالباً… صمت برهة وكأنه يجس وقع كلماته عليه وأردف: قيل إنك لا تحضر الدرس الأخير!! ثمَ تابع: بينما أكدت لي أمك، بأنك كنت تأتي إلى منزلكم بعد نهاية الدوام المدرسي بشكل منتظم ودقيق! إذن فسر لي الآن هذه المعادلة البسيطة وبصدق لا يخالطه الكذب…
– سأقول لك الحقيقة كلها… قال ميثم ثمَ أردف بثبات: لكنني لم أنو قتل معين!
– أصدقك يا بني، وما عليك إلا أن تقول الحقيقة، ونحن سننظر إلى أقوالك ونختار الحكم فيها بما ويتناسب وصدق أقوالك الآن! ثمَ قالَ مندفعاً كالطلقة: قل الحقيقة فقط؛ وها أنا أستمع إليك…
احتوى العجز ميثم وخذلته قواه؛ وألتفت محتاراً حول نفسه، وكأنه يبحث عن مخرج من ورطته، ثمَ تجلت من عينيه العسليتين نظرة شعت مرارة وقلق بعدَ أن دار ببصره بضيق في المكان ولم يجد ما يسعفه إلا أن يسرد الحقيقة التي كانت جاثمة على صدره كجبل من الهموم… فقال برنة خفيفة وبنظرة دامعة وبتصميم وتحد لا يساوم عليه: سأعترف بكل شيء ولكن يجب أن تعرف أولاً وكما قلت سلفاً: أنا لم أنو قتله، بل قصدت تأديبه فقط…
(المحقق ينظر له بعمق وحدّة دونَ أن يطرف، وهو صامت لا ينبس، وكأنه يشجعه بسكوته على الكلام).
بدأ ميثم في سرد حكايته معَ معين دونَ أن يبلع ريقه، بمهارة في الحديث دلت على وعيه المتفتح، وأسلوبه الأدبي الجميل… فتردد كلامه من فمه هادراً كالموج: لقد زاملني معين في الصف منذ الابتدائية، كان يمتلك حاجبين مخيفين وكأنهما لشيطان، لقد ظلَ يهددني بالقتل دون سبب واضح، لقد أصبح بمرور الوقت محل رعب، وقد خفت منه كثيراً وحاولت أن أتجنبه أو أتجاهله دونَ فائدة تذكر… فقد كان عازماً على قتلي أو ترهيبي في أقل تقدير… خاصة عندما كان يقول لي سأصطادك بعد انتهاء الدوام المدرسي… وسأنفرد بك دونَ رقيب… لذلك كنت غالباً ما أهرب من المدرسة قبل نهاية الدوام الرسمي وأختبئ حتى يحين موعد الخروج فأذهب إلى منزلنا وكأني رجعت للتو من المدرسة! ناهيك عن سقوطي على الأرض بسببه عندما هجمَ علي يوماً في ركن مهمل ومركون في المدرسة وهددني بالقتل، فهربت من قبضته وأثناء ذلك سقطت وتحطمت ثلاثة من أسناني وكما ترى، حتى أني ما زلت أعاني من التهابات حادة في اللثة، من جراء ذلك…
صمتَ قليلاً ليأخذ نفساً بعد أن شعر بحاجته إلى ذلك وهو يسترق النظر إلى المحقق الذي بدا كالصنم… ثمَ أردف بتأثر وحزن قائلاً: لقد سألت عني وعرفت بأنَ أبي قد مات وأنا ما زلت طفلاً رضيعاً، ولم يكن لي أخوة، ولم أعرف في حياتي سوى أمي التي أعبدها، لكنني كنت خائفاً جداً من معين وأشعر بالرعب كلما أقترب مني… لذلك قررت أن لا أفصح عن مأساتي لأحد، حتى أمي… ثم بكى وهو يسرد حكايته بعفوية وصدق وألم… واستطرد: لم أقل لأمي بأنه كان السبب وراء تحطيم أسناني… وهذه كانت غلطتي الوحيدة، التي لن أسامح فيها نفسي أبداً… وأسترسل بذات الرنة والحزم: استمرَ الحال هكذا لأكثر من أربع سنوات… حتى طفح كيل صبري؛ فقررت معَ نفسي في أحد الأيام أن أضع نهاية لمأساتي وبثقة وإصرار… ثمَ تابع منفعلاً دون وعي: أردت أن أوقفه عند حدوده في حال تطاوله أو الرجوع مجدداً إلى تهديدي… وجاء ذلك اليوم الذي ضربته على خاصرته بقوة الخائف، وبعزم لا يعود لي ولا أعلم من أين أتتني تلك القوة وذلك التصميم الخارق… لقد كانت ضربة واحدة بقدمي اليمنى… ولم أره بعد ذلك واقفاً أمامي مرة أخرى وإلى الأبد… ثم صمت، وكأنه مات.
… استوقفته أمه في هذه اللحظة المؤثرة، وقلبها يخفق بابتهالات لا حدود لها؛ بعد أن اجتاحتها موجة عارمة من الفرح والغبطة غرقت فيها ودموعها تنهمر على خديها حارة وسخية وهي تقبله بقوة وحنان، قائلة:
ـ (لقد أثبت لي اليوم بأنك كاتب قصة قصيرة بارع، ثمَ تابعت بصوت مرتجف: وسوف يشهد المستقبل ولادة جديدة، بل عبقرية فذة تهز الأوساط الأدبية العربية بموهبتك يا حبيبي وعزيز قلبي)… وهي تلثم وجنتيه بدفء وحرارة خالطتها الدموع الملتهبة الفرحة، الفخورة بابنها الوحيد، وهما ما زالا جالسين حول مائدة الطعام في منزلهما الصغير عندَ الغداء… وميثم يقرأ عليها قصته الأخيرة والتي كانت تحمل عنوان: جريمة قتل.
من مواليد بغداد 1965
مهندس زراعي، مقيم في ألمانيا منذ نحو 24 عاماً
متزوج ولي ولدان،
أصدرت عن دار شمس بالقاهرة مجموعتين قصصيتين هما:
- الهروب إلى الجحيم
- الموتى لا يتكلمون
ولي نتاج قصصي ثالث تحت التأليف بعنوان عجائب يا زمن.