مقدمة
تواصل الكاتبة الدكتورة سنا الحاج في هذه المساحة نشر ذكرياتها (ذكريات طفلة ذات إعاقة) في فصلها الثالث الذي سيتضمن ثلاثة عناوين هي: (شجرة برية، الحلم، ولقاء) ونبدأ بالشجرة البرية، على أن نواصل نشر العنوانين المتبقيين من الفصل الثالث في الأعداد القادمة من المنال بإذن الله.
شجرة برية
(ألا وأن الشجرة البريّة أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات العديّة (البدوية) أقوى وقوداً وأبطأ خموداً( )علي بن أبي طالب(.
جعلتني هذه الحكمة أتامل مليّا وأتذكر تلك الشجرة التي قد ينطبق عليها هذا القول، ألا وهي شجرة الخروب التي عشقتها في طفولتي وكان سمعي قد تعلق بها قبل ناظري.
ففي يوم من أيام الصيف نادتني ابنة خالتي من باب بيتنا في القرية وكان الوقت باكراً فقالت بحماس:
ـ هيا قومي نلحق بخالي إلى قطاف الخروب.
قلت باستغراب:
ـ وهل بمقدوري أنا قطف الخروب وكيف سأفعل؟
هزّت رأسها وقالت:
ـ طبعا تستطيعين.. هيا قومي فالمكان ليس بعيداً من هنا.
دون حماس مني قمت وقلت لها:
ـ حسناً سأرافقك..
سرنا معاً ثم انحدرنا من ساحة القرية في طريق فرعية ضيقة جداً (طريق قدم) وعلى جانبيها أشجار الصبار، فمشينا وراء بعضنا كي لا نحتك بأشواك الصبار، وفي أول دربنا كنا نسمع أصوات أقدامنا على الأرض بالإضافة إلى صوت العكازتين في يديّ، وشيئاً فشيئاً بدأت أصوات جديدة تضاف إلى مسامعنا وتعلو كلما تقدمنا، فسألت أمينة:
ـ ما هذه الأصوات هل نحن ذاهبتان إلى عرس؟
قالت وهي تضحك:
ـ أجل إنه عرس، صبراً جميلاً..
ثم تعالت أصوات التصفيق أكثر ترافقها زقزقة العصافير مما زادها رونقاً وجمالاً، موسيقى خلابة تخرق صمت البريّة البكر مع كل تلك الروائح الشهية من التراب إلى رائحة الأرض والخروب النفاثة التي حملها إلينا ذاك الهواء المنعش.
وصلنا إلى المكان وإذا بخالي وأبنائه يتوزعون على أشجار الخروب يصفقون قرون الخروب بقصبة طويلة لكي تتساقط على الأرض، أما النساء والأبناء والأحفاد فكانوا يلتقطون قرون الخروب المتساقطة ويضعونها في أكياس، ليأخذونها فيما بعد إلى المعصرة.
وقبل أن أنضم إلى فريق العمل وقفت بعيدة لشدة اندهاشي بمنظر الخروبة الكبيرة الوارفة الظلال والمرتفعة الشامخة نحو السماء في آن، هي عروس حقاً بفستانها الأخضر… رميت العكازتين من يدي ورحت أتدحرج تحت تلك الخروبة وأصرخ مبهورة بجمالها ورائحتها الزكية وقلت:
ـ لماذا لم تأتوا بي إلى هنا من قبل؟
أعجبت بهذه الشجرة البرية وهي التي كانت نبتة صغيرة بين الصخور، فنمت وارتفعت، قاومت الحر والجفاف والعواصف باعتمادها على مياه الأمطار دون أي تدخل من قِبل الإنسان في رعايتها، وبقيت خضراء طرية على مدار فصول السنة، وقد تشتعل إذا طالتها نار دون أن تحترق لشدة خضرتها وطراوتها، فلا تموت ولا تتحول إلى رماد.. شجرة تتفرع أغصانها وتعلو في الفضاء، وأغصان أخرى تمتد وتتسع لتستظل بها عائلة كبيرة بكاملها، هي تعطي أكثر مما تأخذ، ولا تنتظر رعاية، تستقبل ما تجود به السماء عليها فتختزن في حناياها كل الحب والأمل وتجعله ثماراً، والثمار تهديها بدورها إلى من يمرّ بطريقها فتفرغ فيهم مما فيها.. لتعود وتمتلئ من جديد.
لقد جعلت من هذه الشجرة مرآتي وحاولت أن أتمثّل بها كلما عصفت بي رياح، وكلما عبرت من تجربة إلى أخرى.. أحمل صورتها ومعانيها في كل أسفاري.
أما أولى حكاياتي مع هذه الشجرة وحكمتها كانت في رحلتي صوب ذاك الحلم الذي سار قلبي إليه، حازمة أمتعتي ولهفتي وحماسي وأفكاري وتفاصيلي الصغيرة، وكل ما اختزنته من خيال جميل في مرحلة الطفولة والمراهقة حزمة واحدة ومشيت نحو حلمي شبه مستطلعة حذرة.
انتهت الحرب الأهلية في لبنان فشكرت الله ودعوته أن لا تعود. وانصرفت إلى شؤوني الخاصة كباقي الناس، منها متابعة تحصيلي العلمي والعودة إلى العمل. غير أنني ما استطعت أن أنسى تلك الأسياخ الصلبة التي زرعت في جسدي أثناء عملية تقويم العمود الفقري، لقد مرّت خمس سنوات على زرعها في ظهري، تحملت ثقلها وعانيت ما عانيت منها في الحرّ والبرد طيلة سنوات، كنت أشعر بأن أسلاكاً كهربائية تبرق على مساحة ظهري عند أدنى حركة أقوم بها، وكيف لا وأنا المفرطة في النشاط وفي العمل أمشي، أقوم وأقعد وأصعد السلالم، وكانت حركاتي سريعة بالرغم من الآلام.
وتمر الأيام قاسية صعبة حتى وصل بي الألم إلى درجة لا تطاق وكان لا بد من العلاج. أخذت موعداً من طبيب أزوره لأول مرة لأن طبيبي المعالج كان مسافراً خارج البلاد، كانت مغامرة أن أقوم بزيارة الطبيب دون علم أهلي وخاصة أبي، رافقتني صديقتي المقربّة جداً مني (نور) لإجراء صورة شعاعية أخذناها وتوجهنا إلى موعدنا عند طبيب مشهود له بالخبرة والسمعة الطيبة، وما أن وضع الصورة على الضوء حتى ساد الصمت ورأيت أنا بوضوح قبل أن يتكلم الطبيب كيف كان أحد الأسياخ مكسوراً في ظهري، عندها التفت إليّ وسألني إذا فهمت ما قد رأت عيناي، قلت له يبدو لي أن هناك سيخاً مكسوراً، قال نعم، وآمرك بدخول المستشفى غداً دون تأخير لإجراء عملية على الفور ونزع كل الأسياخ والمسامير المثبتة وتوابعهما من ظهرك،.. وعلينا فوراً نزع تلك الأجسام الغريبة من جسدك هذا!!!! كما وعليك أن لا تنزلي الدرج عند خروجك من العيادة خوفاً من هبوط أحد طرفي الأسياخ نزولا وضرب أي وتر أو عصب في المنطقة المحيطة به.
ثم حرر طلباً لإدارة المستشفى لاستقبالي كحالة طارئة.
غادرت وصديقتي العيادة صامتتين، ثم حاولت نور التخفيف من هول الصدمة عليّ وراحت تخبرني عن خبرة الطبيب الواسعة ومهارته، كما وأنني سأتحرر من تلك الأثقال في ظهري وأعود أتحرك بحرية وحيوية. لم أجب بأية كلمة ودمعت عيناي، فسألتني:
ـ مما أنتِ خائفة؟ أعرفك قوية.
عندها انفجرت بالبكاء وقلت لها:
ـ لست خائفة من هذا، ولكن قولي لي كيف سأخبر أبي بالأمر فهو الذي لم يعد قلبه الضعيف يتحمل خبراً بهذا السوء.
دخلت المنزل قبل آوان عودة أبي من العمل، أخبرت أمي أولاً بالأمر أو بالأحرى صدمتها لا أدري، ثم حاولت طمأنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وقلت:
ـ أجسام غريبة عن جسمي يخرجها الطبيب وأرتاح، وأطلب منك أن تساعديني في طمأنة أبي عند إخباره.
وبقينا باقي الوقت في صمت مطبق إلى أن جاء أبي وتناولنا العشاء معاً، وكل ذاك الوقت وأنا أكرر وأستعيد في رأسي كل العبارات الممكن أن أستخدمها عند إخباره، إلى أن تمكنت أخيراً من الافصاح وقلت له:
ـ لقد نصحتني نور بمراجعة طبيب مختص ماهر للكشف على وضع ظهري أثناء غياب طبيبي المباشر، وقد عملت بنصيحتها وزرت هذا الطبيب اليوم وتبين بعد الكشف على الصورة الشعاعية بأن وضع عامودي الفقري جيد، وأن مرور خمس سنوات على وضع الاسياخ يعتبر مدة كافية لالتحام العظمة التي زرعها الطبيب السابق، لذا علي الآن نزعها لعدم حاجتي إليها، وقد حجز لي لدخول المستشفى يوم غد، وهو طبيب مشهود له بالخبرة وأنا قد اطمأنيت له.
ساد الصمت للحظات ثم حدّق بي حزيناً بعد أن بهت لون وجهه، ثم تلاحقت أسئلته، وتابع معاتباً:
ـ لماذا لم تخبريني بأمر الطبيب ولماذا لم تطلبي مني مرافقتك؟ وكيف حصل كل ذلك بهذه السرعة؟
تجاهلت الكثير من أسئلته محاولة طمأنته بأن العملية بسيطة جداً وأنا لست خائفة، ثم قمت إلى جانبه وأخذت يده قائلة:
ـ أرجوك لا داعي للقلق فأنا بصحة جيدة وستكون عملية أبسط وأسهل بكثير من العمليات السابقة.
وازداد اضطرابي وخوفي على أبي لأنه كان يفوقني خوفاً وقلقاً ووجعاً، بالرغم من أنني أنا صاحبة الداء ولكنه هو صاحب قلب ضعيف بعضلة تعمل فقط عشرين بالمائة بعد إصابته بنوبة قلبية حادة قبل سنتين. هكذا كنا نتبادل أدوار الخوف ومداراة بعضنا الآخر.
رافقني أبي وأخي في الصباح الباكر إلى المستشفى، قاموا بجميع اجراءات الدخول. وبقي أبي ملازماً لي حتى المساء. اطمأن على جميع الفحوصات التي تجرى قبل إجراء العملية. في اليوم التالي أجريت العملية واستغرقت سبع ساعات بالإضافة إلى ساعتين في غرفة الانعاش، سبع ساعات لعملية على أساس أنها بسيطة، عادوا بي إلى غرفتي وأنا شبه نائمة تحت تأثير التخدير، حاولت تفحص الوجوه لأرى وجه أبي وأطمأنه أني بخير، خيّل لي أنه فوق رأسي، حاولت جاهدة أن أبتسم ولا أدري إن كنت فعلت، ثم عدت وغبت مجدداً.
صحوت في اليوم التالي على صوت الطبيب الذي أجرى لي الجراحة قائلاً:
ـ لقد كسرتِ لي يديّ سبع ساعات وأنا أحاول قشر ونزع طبقة كثيفة من العظام كانت قد نمت فوق الأسياخ، وها أنت الآن قد تحررت منهما فالحمد لله على سلامتك.
شكرته كثيراً فهو كان إضافة إلى لطفه وعنايته، خائفاً من مرور يوم إضافي على حالتي السابقة.
بعد اسبوع صرّح لي الطبيب بمغادرة المستشفى، جاؤوا لي بكرسي لأجلس عليه، فرفضت ونزلت من السرير واقفة حملت العكازتين وخرجت مشياً على قدميّ، نظرت إلى أبي وجدته يبتسم لي مشجعاً وقد عاد لون وجهه إلى طبيعته.
كاد الضجر أن يقتلني بعد مرور أسبوعين من النقاهة في البيت، بالرغم من تكرار زيارة الأصدقاء لي، كما وكان أحد زملائي في العمل قد أعطاني جهازاً لاسلكياً لكي أتواصل معهم أثناء غيابي عنهم، أو في حال احتجت إليهم في شيء، وهذا الجهاز كان وسيلة بدل خط هاتف المنزل المعطّل من أيام الحرب. وبسبب ذاك الضجر قلت لأمي هذه المدة تكفي من الكسل والخمول وغداً صباحاً سأنطلق إلى العمل مجدداً.
يتبع في العدد القادم: الحلم
الاسم : سنا أحمد الحاج
مواليد بيروت 4 نيسان / أبريل 1965
الشهادة العلمية:
دكتوراه في الفلسفة ومقارنة الاديان ـ الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن).
العمل والنشاطات:
- ـ رئيسة دائرة الدراسات والبحوث في وزارة الاعلام اللبنانية – مديرية الدراسات والمنشورات.
- ـ عضو تحرير الصفحة الالكترونية لوزارة الاعلام.
- ـ عضو هيئة تحرير مجلة "دراسات لبنانية".
- ـ ممثل وزارة الاعلام في لجنة وضع خطة توجيهية لتسهيل ذوي الاحتياجات الخاصة في العمليات الانتخابية الصادرة عن مجلس الوزراء اللبناني.
- ـ مشاركة في مجلة "تحالف الحضارات" الصادرة عن "البيت اللبناني – الروسي".
- ـ مشاركة في مجلة «المنال» ـ مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- ـ مشاركة في مجلة طبيب الجمال.
- ـ مشاركة في مجلة أحمد ـ كاتبة قصص اطفال
- ـ كاتبة للعديد من المقالات والملفات والمقابلات والدراسات في عدد من الصحف اللبنانية.
- ـ مؤلفة كتاب بعنوان «ماهية الانسان وعوامل تكامله في الفلسفة والدين» الصادر عن دار فكر للأبحاث والنشر.
- ـ متعاملة سابقاً مع مديرية السينما والمسرح والمعارض اللبنانية.
- ـ موظفة سابقاً في وزارة الثقافة اللبنانية.
- ـ العمل سابقاً في مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية في لبنان ـ عضو لجنة إعداد دليل تصنيف المكتبة.
- ـ المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات والمعارض وورش العمل