مقدمة
تواصل الكاتبة الدكتورة سنا الحاج في هذه المساحة نشر الفصل الثالث من ذكرياتها (ذكريات طفلة ذات إعاقة) والذي تضمن ثلاثة عناوين هي: شجرة برية (نشرت في عدد المنال 286 لشهر يونيو 2014)، حلم (نشر في العدد 288 لشهر سبتمبر 2014)، وننشر في هذا العدد القسم الثالث والأخير من الفصل الثالث وعنوانه: لقاء.
لقاء
انتظرته في حديقة الجامعة مقابل المدخل الرئيسي، دقائق قليلة مرّت قبل وصوله كانت كأنها دهراً، بعد تفقدي لمظهري وجلستي، حاولت أن أرسم له وجهاً جميلاً كصوته، وفجأة انتابني شعور بالقلق والاضطراب وبدأ كل شيء يتخبط بي، قلبي ازداد خفقانه، وعقلي استنكر وجودي في مكان ليس لي، وراحت الاسئلة تتزاحم بين عقلي وقلبي، ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وماذا سأجني من هذا اللقاء سوى التورط في حب لا مستقبل له؟ وإن تعلقت به أكثر كيف سأتحمل غيابه وعدم رؤيته باستمرار؟ ما هذا الضعف الذي أنا فيه بعد إن كانت الشجاعة سمتي، والمغامرات هوايتي؟ عندها شعرت بالألم ودمعت عيناي، مشاعر مضطربة متضاربة جعلتني أتهيئ واقفة للهرب قبل مجيئه، ثم عدت وجلست وتذكرت المثل الذي يقول إن هبت أمراً فقع فيه. وبعدها ما لي وللمستقبل، وأنا التي أعيش ليومي أقول دوماً اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا وأحمده وأشكره على كل شيء مهما كان قليلاً..
وإذ بي ألمح شخصاً يدخل من البوابة الكبيرة عن بعد أمتار لا يحمل كتباً، قلت ها هو يتقدم نحوي بخطوات بطيئة خجولاً دون أن يلتفت إليّ محدقاً في الأرض، شاب وسيم نحيل طويل القامة، هذا كل ما استطعت أن أراه في نظرتي الأولى بالإضافة إلى نظارته الطبية وسيجارته في يده مما أكد لي بأنه هو، أوحى لي بأنه سيمر من أمامي ويتابع سيره، لكنه رفع رأسه ونظر إليّ ثم توجه نحوي، وكنت قد وقفت لاستقباله فتكون علامة ليعرفني من العكازين، وقف أمامي مبتسماً وألقى التحية، بادلته السلام واقترحت عليه بأن نبدل المكان فمشينا إلى الداخل حيث الاشجار العالية والكثيفة التي تعشعش فيها العصافير المزقزقة، جلسنا هناك وكأننا في هذا العالم وحدنا بالرغم من أن الساحة مكتظة بالطلاب.
تجنبت النظر في عينيه مباشرة، لكني حاولت أن أحفظ صورة لوجهه الذي سررت برؤيته جميلاً ومشرقاً، جماله كان ظاهراً وجذاباً ومتناسقاً، بوجهه وبنيته الجسدية، بشعره الأسود الناعم، بشرته بيضاء، وعيناه الواسعتان بالإضافة إلى خفة ظله ولطفه الذي أزال عني كل توتر واضطراب، تحدثنا في مواضيع كثيرة منها العمل والبيت والأهل في العموميات أكثر من الخاص، لم نتحدث عن أنفسنا ومشاعرنا، بعد ساعة من الوقت تأهب ليغادر ويعود إلى عمله، قمنا معاً خرجنا إلى الطريق العام أوقف لي سيارة أجرة وودعني.
كنت عائدة فرحة رشيقة، وصلت إلى مدخل المبنى الذي أسكن فيه ووجدت الكهرباء مقطوعة وعليّ أن أصعد السلالم حتى الطابق السابع، صعدت وأنا أستعيد بعض ملامحه وكلامه وإذ بي أصل حتى باب السطح في الطابق الثامن، لقد مررت من أمام باب البيت دون أن انتبه وأكملت، لم أشعر بثقل جسدي ولا بتعب يديّ، ولا بالوقت، كان اللقاء به هو مركز اهتمامي، ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي يحدث فيها مثل هذا الفعل، فكلما كنت أستعيد حواراً دار بيننا أو كلمات شدتني إليه كنت أنسى نفسي وتختل موازين الزمان والمكان لدي. سألني أحد أصدقائي منذ فترة: متى تدركين أنك في حالة حب؟ أعطيته هذا المثال قائلة أنه عندما أغيب عن نفسي وعن المكان والزمان المحيطين بي، وأغيب في الآخر حتى لا أجد نفسي.
عدنا في مساء ذاك اليوم إلى دردشاتنا وكل منا يسأل كيف وجدتني اليوم وما هو انطباعنا؟ وكنت قد كتبت بعد لقائي به بضع كلمات فتلوتها عليه بصوت خفيض:
اقتفيت وقع خطوك بحواسي كلها
فلاح لي وجه كأني ما رأيته
مشعاً متوهجاً.. من أي فجر انبثقت؟
ليفيض كل هذا البرق
برق خطف بصري.. وعقد لساني
أهو فرح اللقاء؟
في ذاك اليوم الذي نسيت فيه نفسي وكل ما يتعلق بي وأصبح هو وجهتي وتفكيري، تحدثنا كثيراً وكانت سعادتنا غامرة، وبالتالي نسيت أن أسأله عن إعاقتي وكيف وجدني، وهو الذي تجاهل هذه المسألة تماماً عند رؤيتي. مما زادني قوة وضاعف من طاقة جسدي، لكن هل هذا حقيقة أم خيال؟ أو طيف سيختفي في يوم من الأيام لا أدري، ما أدركه أن حياتي بدأت تتغير، وأشعرني بأنني أنثى جميلة وجذابة، وأني أستحق هذا الجمال كما وأستحق هذا الحب غير المصرّح عنه بعد. هذا بالرغم من أنه لم يفصح ولم يعبر عن جمالي ولم يثن علي إلا ببضع كلمات موحية وغير مباشرة عبّر بها عن ارتياحه بعد اللقاء بي، وعن صورتي التي طابقت نوعاً ما الصورة التي رسمها لي في خياله سابقاً.
كنا نسير على خط واحد وباتجاه واحد نتحدث لساعات دون التعرض للمستقبل، كنا نسير معا دون بوصلة، نعيش اللحظة، وأنا عن نفسي كنت أريد أن أبقى أكلمه العمر كله، هكذا هو الحب يأتي عرضاً دون مقدمات ودون تخطيط. كالقدر ربما، أقول كالقدر لأني حاولت وقاومت وهربت وتراجعت مراراً وتكراراً لفك هذا السحر وهذا الارتباط، علني أنعتق منه فلم أفلح.
أرسلت رسالة ذات يوم إلى أحد الفقهاء، رسالة تتضمن سؤالاً واحداً حول شرعية علاقتنا، أو الحكمة من هذه الأحاديث الليلية بين اثنين غير مرتبطين شرعاً ولا مستقبل لعلاقتهما معاً. بعبارة أخرى استحالة تطوير هذه العلاقة في المستقبل إلى الزواج، فكان جواب القضية مختصراً بعبارة واحدة: (رب أكلة منعت أكلات)..
ناقشنا معاً هذه العبارة وفهمناها، لكننا حولناها كما يحلو لنا وقلنا معاً بما يشبه الاتفاق: فلتكن أكلة واحدة لذيذة وشهية تجلب لنا السعادة والارتواء، أفضل من أكلات كثيرة لا طعم لها ولا لون.
بالرغم من تسليمي لقوة الجذب تلك، إلا أني عشت مشاعر متضاربة ممزوجة بالحزن مرة وبالفرح أخرى، لمت نفسي أحياناً وبكيت ليالي طويلة، وكنت أسأل نفسي ما ذنبي في خفقان قلبي هذا اللاإرادي، وتلك المشاعر التي تجتاحني ونبض قلبي المتزايد، وكيف لي أن أترك هذه الأكلة التي كنت قبلها كالآلة تشتغل صباحاً وتطفئ ليلاً، أيام وليالٍ متشابهة تماماً. وفي أكثر من مناسبة كنت أقول له:
ـ ألا ترى معي بأننا على شفير الهاوية (ووقعتنا) ستكون مؤلمة ونهائية؟
ليرد علي بقوله:
ـ اتركي الأيام تمر بسلام ولا تفكري كثيراً ولكل حادث حديث.
تركت الآتي يأتي وتركت نفسي تمتلئ بأحلامها فحلقت عالياً، وأردت أن أبقى العمر كله أتحدث إليه، وفي غمرة هذا الانجذاب وبعد أقل من أسبوعين على لقائنا الأول جاءني بخبر أسقطني به من ذاك العلو الشاهق إلى عمق وادٍ لا قرار له، جاء الخبر في سياق حديثنا كأنه خبراً عادياً:
ـ زوجتي حامل!!!..
انتفض الجهاز في يدي ورميته جانباً مذعورة كأن أفعى لسعتني، وبدأت شرايين رأسي تنتفض مما أشعرني بدوار، هي دقائق قليلة فقدت فيها توازني ثم أخذت نفساً عميقاً.
جاء صوته مجدداً:
ـ أين أنتِ؟
ـ أنا هنا… مبروك…
إجابتي كانت في ظاهرها جاهزة في كلمة مبروك، أما الحريق الذي اشتعل في داخلي كان كبيراً بحجم تلك السقطة الرهيبة، قلت مبروك وصمّت أذناي عن سماع كلامه التالي، ثم أدركت وتذكرت بأنه لا يحق لي حتى أن أتأثر بالخبر، فمن أكون أنا بالنسبة إليه؟ وما لي حتى أفجع هكذا؟ فهذه حياته وهناك عائلته وتلك زوجته وهذا أمر جد طبيعي، أما أنا فمجرد فتاة يملأ وقته بالحديث إليها من خلف سبعين حجاب وحاجز يمنع علاقتنا من التطور، وإن كان ما بيننا حباً فإن هذا لن يغير بالأمر شيئاً.
استعدت كل هذه الأفكار في دقائق قليلة علّها تبرّد قلبي واستجمعت قواي وشجاعتي وحاولت متابعة حديثي معه ذلك المساء دون أن أشعره بما ألمّ بي من جراء هذا الخبر، لكنه لاحظ بتغير لهجتي ونبرة صوتي فسألني:
ـ ما بكِ ما بال صوتك قد تغير؟
ـ لا شي اليوم تعبت كثيراً في العمل ورأسي يؤلمني، سآخذ مسكناً وأحاول أن أنام.
استأذنته وأنصرفت عنه مدعيّة الهدوء.
أقفلت الجهاز ورميته في الخزانة، لتبدأ مراسم النحيب، كأن عزيزاً لي قد توفي للتو، غفيت قبل الصبح بقليل بعد أن ابتلت وسادتي بدموعي، وما أن استيقظت حتى ظهرت المصيبة أمامي مجدداً فتمنيت لو أعود للنوم دهراً، ثم تذكرت أن هذا اليوم هو يوم عرفة وسيليه عيد الأضحى، وكان لهذا اليوم وقع خاص في نفسي كنت أنتظره كأنه رأس السنة بالنسبة لي، أتزود بما يفيض به الله عليّ من النعم والرحمة من عام إلى عام، قمت من فراشي وتوجهت للإغتسال استعداداً لإحياء أعمال عرفة، وقبل وصول الماء إلى رأسي كانت دموعي تغرقني في بحر مالح طعمه، ما بال هذه المياه المالحة تزيدني لهيباً، وأين حلاوة المياه التي ستغسلني وتذيب عني كل ما علق بي من أوهام، ولتطهرنّي وتعيدني حرّة لا عبدة لما يسمى بالحب؟
حلّ الزوال وقفت من بيتي مع الواقفين هناك على جبل عرفة مع حجاج بيت الله الحرام، كنت وحدي في البيت فصليت الظهر وأخذت بدعاء يوم عرفة وأنا على أمل بأنه سيكون سفينتي للنجاة وبرداً وسلاماً على قلبي المشتعل بنار لا إرادة لي فيها ولا ذنب، فرجوت الله أن تكون نهاية هذا اليوم انعتاقاً لي مما وقع في قلبي من حب موجع وما أعانيه وأتخبط به، كما يعتق الواقفين هناك في عرفة من ذنوبهم.
تمسكت بكتاب الدعاء وتوجهت إلى خالقي ورجوته أن يوفقني لإحياء هذا اليوم وأن يعود عليّ بما يصلح أمري، وقبل أن أغرق في البكاء مجدداً فتحت الكتاب ورددت: (إلهي لا تبتلني، ونعمك فلا تسلبني، وإلى غيرك فلا تكلني، إلهي إلى من تكلني؟ إلى قريب فيقطعني، أم إلى بعيد فيتجهمني، أم إلى المستضعفين لي؟ وأنت ربي ومليك أمري أشكو إليك غربتي وهواني، فلا تحلل عليّ غضبك فإن لم تكن غضبت عليّ فلا أبالي سواك).
تلاشت روحي مع تلك الكلمات والعبارات وتابعت مع مقطع من الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين التي يدعو فيها الله فيقول: (إلهي هبْ لي لحظةً من لحظاتك تكشفُ عني ما ابتليتني به، وتعيدني إلى أحسن عاداتك عندي واستجبْ دعاء مَنْ أخلص لكَ دُعاءَهُ فقدْ ضعُفتْ قُوّتي، وقلّتْ حيلتي، واشتدت حالي، وأيستُ مما عند خلقك فلمْ يبقَ لي إلاّ رجاؤكَ عليَّ. إلهي إنَّ قدرتك على كشف ما أنا فيه كقدرتك على ما ابتليتني به). رددت هذه العبارات مع ما غشي عيني من الدمع الذي منعني من رؤية الكثير من الكلمات والجمل التي تحكي نيابة عني وتتلمس وجعي، فأتوقف عن القراءة وأخاطب الله شاكية راجية بأن لا يردني خائبة، وأن يعينني على نسيان من أفتقد وأن لا ينتهي هذا اليوم إلا وقد استجاب لي ورحمني.
قبل اتمام قراءة الدعاء تزاحم الضباب في رأسي وأصابني خدر شديد كاد أن يغمى عليّ، فتداركت جسدي وأخذت نفساً عميقاً حتى استطعت الانتهاء من التلاوة. ثم قمت بدلت ملابسي وذهبت إلى صديقتي (نور) التي كانت على علم بتفاصيل حكايتي ووحدها ستتفهم وتشعر بهول ما أنا فيه، وصلت إليها أجهش بالبكاء كما لم أبك في حياتي كلها، صدمت (نور) بي وهي لم ترني من قبل بهذه الهشاشة والضعف، أمسكت بي وعانقتني طويلاً وبهدوئها المعتاد أجلستني وقالت:
ـ إهدئي قليلاً وأخبريني ما أصابك؟
اخبرتها ما حدث مع تعثر كلماتي واختلاطها بدموع استمرت بعدها لشهرين متتالين دون انقطاع، كل هذا وجهاز اللاسلكي مرمياً في الخزانة لم أحاول إخراجه أو النظر إليه. أتحين كل فرصة للبكاء والنحيب، مرة أقف على شرفة المنزل عند غروب الشمس واستمع إلى أذان المغرب من المسجد القريب، أدعو الله في ذاك الوقت من كل ليلة طالبة منه أن يدخل السكينة على قلبي الملتهب بالحزن والأسى، وأسأله أن يعطيني القوة التي بها أمضي في قراري ولا أعود إلى محادثته مجدداً.
وفي غروب يوم من تلك الأيام، وبينما أنا ألتفت إلى الشارع وإذ بي أراه يمر من أمام المبنى ثم يذهب ويقف في باب أحد المتاجر الذي يعود لصديقه قرب المسجد في حينا، ومن هذا الباب يرى شرفة منزلنا لكنه لا يستطيع أن يميزني عن غيري من بعيد ولعلو البيت، لكني رأيته أثناء مشيه ووقوفه هناك مما يدل على أنه يراقب شيء ما، أو ربما ينتظر أن يشاهدني أمرّ في الشارع صدفة. أما أنا فاشتعلت النار فيّ من جديد، وقلت في نفسي ها هو قلق عليّ لا يدري ما حصل معي حتى انقطعت عنه فجأة، ما الذي فعلته به؟ هل يحق لي هذا؟ كان علي أن أخبره.
وهكذا بقيت التساؤلات والتبريرات والقلق والجزع والشوق والخوف، كم هائل من المشاعر والاحاسيس المتناقضة قلبت حياتي رأساً على عقب، لا طعم لما أكله وأشربه، ولا لون لما ألبسه وأراه، أبكي في كل المناسبات السعيدة منها والحزينة، حتى لاحظت أمي بأن أمراً ما أصابني وبدأت تحوم حولي وتسألني عمّا بي وما الذي جعلني دائمة الحزن والدموع في عيني طوال الوقت؟ كنت أنسحب فوراً من أمامها وأنا أجيبها بقولي: لا شيء.
ماذا أفعل بنفسي؟ هل أنا حية الآن؟.. بل الكثير مني ميت.
هل سأموت دونه فقط لأني أحبه؟
لماذا كل هذه المرارة والأنين؟
جلست استقرئ حالتي بدءا من ساعة انقطاعي عن محادثته حتى اليوم.. وخاطبت ربي قائلة: هل يرضيك ما أنا به؟ هل أنا أفعل الصواب الآن؟ ها أنا منذ شهرين أحاول أن أنساه، ودعوتك أن تخلصني من تلك المشاعر والكف عن التفكير به، لكني ما زلت اختنق به يوما بعد يوم، والحسرات تتوالى عليّ كالمطر، وأنيني ما زال يؤلمني، وحلّت الاوجاع على جسدي بأكمله… ربي لقد حاولت وفشلت.. فشلت.. فشلت.
لذا أرجوك يا إلهي أعطني إشارة من لدنك، إشارة تدلني على طريق آخر، فأنا بت عل يقين بأن ما أنا عليه من عذاب لا يرضيك ولا طاقة لي بعد على المضي فيه، فها هي الأيام والليالي تتوالى وشوقي إليه وحنيني يزداد أكثر فأكثر، وهذا دليل على أني أقسو على نفسي وأعذبها دون جدوى، فاسلك بي أنت سبيلاً آخر يرضيني ويرضيك.. فأنت قلت بأنك عند المنكسرة قلوبهم، وأنا أدعوك بأن تجبر هذا القلب فقد آن الاوان.. (أمّنْ يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) أجبني وساعدني لفتح الباب مجدداً والخروج من هذا السجن الخانق.. احتاج لذاك الهواء..
أعدك يا إلهي وأعد نفسي بأني في حال رجعت إلى من أحببت وحادثته سأرضى بالقليل، أعدك أن لا أخرّب عليه علاقته بعائلته ولن أكون سبباً في تزعزع تلك العلاقة، وسأرضى بأن ينجب أولاداً آخرين…لن أسبب له الإحراج، ولن أطالبه بأي شيء اتجاهي إلا ما يمنحني هو إياه، سأكتفي به حلماً كبيراً، وأنا أثق بأنك يا إلهي معي فأنا أسلمت أموري كلها إليك، ومهما تأجلت أحلامي فلن تنساني، وأعلم بأن كل ما يحصل لي له سبب وهو خير (لعلّ الذي أبطئ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور).
في اليوم التالي اتخذت قراري بالعودة لمحادثته وسؤال وحيد يضج برأسي: هل سيكون موجوداً؟ وهل سيرد عليّ إذا ناديته؟ ربما طريقة اختفائي أغضبته ولن يسامحني، وهل عانى هو مثل ما أنا عانيت؟ ربما.. لا أدري. لكن كيف سأبرر له انقطاعي هذا؟
ومع اقتراب المساء ازدادت دقات قلبي واضطرابه، لكني لم أكن حزينة بل كنت بطريقة ما سعيدة وكأنني عدت مجدداً إلى الحياة، ورأيت الأمور أكثر وضوحاً من قبل، ربما الدموع غسلت عيني وجلتها وبدأ الحزن يتبدد شيئاً فشيئاً، وقبل أن أكلمه عادت أنفاسي المكبوتة دفعة واحدة استجمعتها وحاولت ترتيب أفكاري وقلت المهم أن يكون موجوداً ويجيبني والباقي يأتي في حينه..
أخذت جهاز اللاسلكي وأدرته على موجتنا المتفق عليها وناديته.. ثوان وجاء صوته هادئاً خافتاً كمن استيقظ لتوه من النوم:
ـ أهلا بكِ ومرحباً، هل أنت بخير؟ أين اختفيت كل هذا الوقت ولماذا؟
ـ اشتقت إليك كثيراً.
قال بحزم:
ـ دون الاشواق أخبريني أين كنتِ؟
ـ حسناً، وبصراحة مطلقة إني كنت قد اتخذت قراري بالابتعاد عنك لعدة أسباب منها: خوفي من التورط معك في علاقة لا مستقبل لها، فقلت لنفسي ابتعدُ الآن قبل فوات الاوان.
ـ جيد وماذا بعد؟ ما هي الأسباب الأخرى؟
أجبته بصوت منخفض كأني في قفص الاتهام:
ـ السبب الآخر أني فتاة ضعيفة جداً لكن عواطفي قوية، وأخاف الاستغراق في حب قد يتملك بي ويزيد في تعذيبي وشقائي، ومثلك لا أستطيع مقاومته.
ـ أنا أكيد بأن هناك سبباً لم تذكريه بعد، هيا ماذا أيضاً؟
قلت في نفسي ما هذه الورطة كأنني في تحقيق بوليسي، أخذت نفساً عميقاً وقلت:
ـ ومن الأسباب التي جعلتني أقدم على الانسحاب فوراً وبشكل مفاجئ هو مشاعر الغيرة التي اشتعلت في قلبي يوم علمت بأن زوجتك حامل، في البداية كانت بمثابة الصدمة لي مع علمي بأن هذا غير مبرر لي.
ضحك كثيراً قبل أن يعلّق:
ـ مدهشة أنت!!! ما دمتِ تجدين لكل تصرف قمتِ به سبباً ومبرراً فلماذا هربتِ؟ وأين أنا من هذا القرار؟ ألا يتعلق الأمر بي وبكِ؟ وهل يحق لك التفرد بهكذا قرار؟ ليس من باب الواجب، بل من باب أخد العلم بانسحابك ليس إلا.
أخذت نفساً عميقاً مع ابتسامة عريضة هو لن يراها من خلال الجهاز، وتيقنت بأن هذا قدري وأن ما مرّ بي جعلني أدرك قيمة ما كنت سأخسره لو استمريت في الهرب، ثم قلت:
ـ هذا ما حصل حتى خرج كل شيء عن سيطرتي فكان قراري ذاك، وها أنا عدت الآن بعد أن قسوت على نفسي طيلة شهرين كاملين وعانيت الكثير، فتألمت حتى لم أكن أنا هي التي تعرفها، كنت هشة ضعيفة، مريضة، نصف ميتة، كنت أراك في كل شيء، في اليقظة والمنام، وفي كل دعاء ومناجاة كنت أنت المحور وأنت السر والسحر والحلم الذي أردت أن أهرب منه وإليه، كنت برفقتي في الشارع والعمل، في طعامي وشرابي، في كل زاوية من زوايا الغرفة، حتى في الخزانة التي لم أكن اجرؤ على فتحها، الخزانة التي تحتوي الجهاز، حاولت أن أنساك مع الوقت، أن أقتل الحب بالوقت، لكن الوقت كاد أن يقتلني، هل يرضيك أن أموت؟
بنبرة حزينة قال:
ـ كلامكِ هذا يزيد في تعذيبي وحزني بالرغم من نيتي بعدم إخبارك عن حالتي بتلك الفترة، الا أني لم أكن أقصد أن أثير كل هذا الإرباك لك.
وبنبرة حزينة وبتردد أراد أن يشرح لي وضعه في نهاية حديثاً، وليته لم يفعل، فتابع قائلاً:
ـ دعيني أخبرك شيئاً يختصر حالتنا ونظرتي إلى علاقتي بك، فأنا كالطفل الذي يحلم بأن يشتري له أبوه يوماً ما دراجة، ولا ينفك يطالبه ويتمنى عليه أن يفعل، وأبوه يؤجل شراءها لقصر حالته المادية. وطال انتظار الطفل حتى كاد يفقد الأمل، وفي يوم من الأيام عاد الأب من عمله فرحاً سعيداً يحمل دراجة لابنه، وما أن دخل إلى بيته حتى وجد ابنه ميتاً. أنا هو هذا الطفل، وأنت هي من أتمناها، لكنك أتيت في ظروف وأوقات غير مناسبة وللأسف.
اعتصر قلبي بهذا التشبيه، ثم حاولت الخروج من هذا الجو الحزين وقلت له:
ـ قصتنا ليست موجعة إلى هذا الدرجة، على كل أنا أخبرتك وسأخبرك أيضاً بأني في أفضل حالاتي الآن، وقد تعلمت واختزنت الكثير من أحاسيس الرضا والقبول بما قد تتيح لنا هذه العلاقة من تقارب، وبما تسمح به ظروفنا معاً، مع اقتراحي بأن نبقى كلانا أحراراً من أي وعود للمستقبل ونعيش سعادة اللحظات الآنية، دون التفكير في مشاريع بعيدة ومستحيلة، ولكن ستسمح لي بأن أحلم كما يحلو لي فالأحلام خارجة عن إرادتي، قرأت اليوم عبارة لـ طاغور يقول فيها: (إن المستحيل يعيش في أحلام العاجز) وحبي لك واقعاً وليس مستحيلاً إذن أنا لست عاجزة. فالحب شيء والمشاريع المستقبلية شيء آخر أليس كذلك؟
وهكذا كان:
كرسول أتاني صوته أيقظ أحلامي المؤجّلة، وفجّر في أرضي العطشى ينابيع خامدة.. كأنه الحلم الذي اختبئ دهراً وعلى غفلة مني هزّني وأدهشني بحضوره، سرت إليه بكلي فبعثرني، تقلبت في اعتقادي واحتمالات هذياني.. تقدم نحوي فأحاطني، قلت له:
ـ ابتعد أنت لست حلمي،
ـ قال بلى. أنا خيالك الذي تبتعدين فيه عن واقعك الحياتي ومرارة الألم والضعف.
أنا عقلك الذي يتمّ بخياله ما يراه ناقصاً في وجودك الإنساني،
وأنا حلمك الذي سيأخذك إلى حيث ترسمين وتشرقين بأزهى الألوان..
هيأني للدخول في رحاب قلبه، أوسع لي مساحات وفضاءات، ثم أشار إلى ما وضعه الله فينا من الميل والهوى والجمال والشوق والعطش إلى الحب.
هكذا كان الحلم أول ما جاءني لم يكن يكفيه حب عادي، وبرغم خوفي من شقاء الحب وعذاباته مشيت إليه بكلي لأعيش حياة أخرى، حياة رديفة لحياتي في الواقع المحكوم بالزمان والمكان.
… واستمرت العلاقة بيننا على مدى عشرين عاماً، ألخصها ببضع عبارات لعدم استطاعتي سرد تفاصيل عمرٍ في بضع وريقات: كنا على توافق غير تام، أي في حركة صعود وهبوط وانتظار وشوق دائم، لقاءاتنا كانت قليلة ومتباعدة زمنياً، ولكن على تواصل دائم عبر الهاتف، قلت له مرة مشبهة نفسي بالفلسطيني المبعد عن وطنه الذي غنت له فيروز: (أحترف الحزن والانتظار.. أرتقب الآتي ولا يأتي).
لقد ذقت معه مرارة الانتظار والقلق الممزوجة بحلاوة الحب وفرحه.
وخلال تلك السنوات الطوال كان هو ظلي البعيد.. القريب في آن، ووسيلتي للبقاء على قيد الحياة الذي رسم معي مستقبلي أنا، حيث كان دافعي في متابعة دراستي درجة درجة وسنة بسنة ابتداء من السنة الاولى في الجامعة ونيلي الإجازة الجامعية، ثم وبتشجيع منه تابعت الماجستير وصولاً إلى نيل شهادة الدكتوراة في الفلسفة.
أما اليوم وأنا أعيد ترتيب تلك الذكريات لأكتبها، وبالرغم من كل الايجابيات التي ذكرت، وبعد إطلاعي على الكثير من الدراسات والآراء لبعض الأطباء النفسيين حول التعلق العاطفي، اكتشفت أن تعلقي بدانيال كان حالة مرضية، لأن التعلق بشخص بعاطفة قوية والتي تفقد أحد الطرفين الاتزان تصبح مرضاً ومشكلة عاطفية غير متزنة وغير طبيعية، حيث يصب على الشخص المتعلق به وبشكل حصري كل الاهتمام، ويبرر له كل تصرفاته.
وهكذا كنت حتى أصبحت كل تصرفاتي عمياء متطرفة وأصبت بحالة ادمان وكنت أعتقد أنني بدونه لا أستطيع أن أستمر في الحياة، لأن حاجتي إليه كبيرة وغير محصورة برغبة فقط. حيث كنت أتصوره مخلّصي الذي لا سلبيات فيه ولا سيئات له، بل أكثر من ذلك كنت أحوّل السيئات إلى حسنات حتى لو اعترف هو بها مثل اعترافه بأنه جبان ودائم التأجيل في الاتصال بي أو رؤيتي، وفي كثير من نوبات الغياب وبعد أن أحترق من طول الانتظار وأذوب من شدة البكاء وتتملكني حالة الغضب من شدة قساوته وفي قدرته على الغياب الطويل، وعندما تراودني حالات الشك والقلق كنت أحاول مراراً وتكراراً بيني وبين نفسي أن اتخذ قراراً وأنهي هذه العلاقة، لكني كنت أفشل وأتراجع عند أول اتصال له وسماعه مبرراً لي غيابه فأعود وأرضى، ومع كل هذا بقي استثناء وأنه الشخص الذي لا بديل له.
خيبة أمل جديدة أضيفت إلى خيباتي السابقة التي تلقيتها خلال عشرين عاماً في اكتشافي لهذه الحقيقة اليوم ولعدة أسباب منها: أن الاخر الذي تعلقت به عاطفياً لم يكن ملاكاً بل كان إنساناً عادياً يخطىء ويصيب له سيئاته وحسناته.
وأن تعلقي به حالة مرضية ربما بسبب إعاقتي وإحساسي بأن وجود شخص آخر مثله في حياتي سيكون نادراً إن لم أقل مستحيلاً، وأنني لن أحظى بحب آخر غيره في المستقبل لأن طريقة معرفتي به كانت استثنائية ولن تتكرر بالشكل نفسه، فهو تقرب مني وأحبني قبل أن يعرف بإعاقتي وقبل أن يراني، في وقت أن كل من يتعرف عليّ مباشرة سيرى عكازاتي قبل وجهي وعقلي، وقد يعجب بي وبشخصيتي فنكون أصدقاء وفقط، لذلك كله اعتقدت بأنه شخص استثنائي ولن يتكرر.
وبالرغم من كل ذلك فأنا اليوم راضية ولست نادمة على أي يوم من تلك الأيام، وأرى أن علاقتي هذه كانت انتصاراً لحلم طفولي كبر مع الأيام، وانتصاراً لما يسمى بالإعاقة الجسدية التي لم نلحظ ـ كلانا ـ وجودها حينها، والحلم الذي تحقق لتتكامل فيها نفسي الإنسانية مع مكمل حقيقي ألا وهو الإنسان الذكر والأنثى كما يقول يوسف زيدان في روايته ظل الأفعى أن: (الذكوري هو نصف إنساني ناقص الإنسانية) وكذلك الانثى تبقى ناقصة الإنسانية بعيداً عن ذاك الذكوري.
الاسم : سنا أحمد الحاج
مواليد بيروت 4 نيسان / أبريل 1965
الشهادة العلمية:
دكتوراه في الفلسفة ومقارنة الاديان ـ الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن).
العمل والنشاطات:
- ـ رئيسة دائرة الدراسات والبحوث في وزارة الاعلام اللبنانية – مديرية الدراسات والمنشورات.
- ـ عضو تحرير الصفحة الالكترونية لوزارة الاعلام.
- ـ عضو هيئة تحرير مجلة "دراسات لبنانية".
- ـ ممثل وزارة الاعلام في لجنة وضع خطة توجيهية لتسهيل ذوي الاحتياجات الخاصة في العمليات الانتخابية الصادرة عن مجلس الوزراء اللبناني.
- ـ مشاركة في مجلة "تحالف الحضارات" الصادرة عن "البيت اللبناني – الروسي".
- ـ مشاركة في مجلة «المنال» ـ مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- ـ مشاركة في مجلة طبيب الجمال.
- ـ مشاركة في مجلة أحمد ـ كاتبة قصص اطفال
- ـ كاتبة للعديد من المقالات والملفات والمقابلات والدراسات في عدد من الصحف اللبنانية.
- ـ مؤلفة كتاب بعنوان «ماهية الانسان وعوامل تكامله في الفلسفة والدين» الصادر عن دار فكر للأبحاث والنشر.
- ـ متعاملة سابقاً مع مديرية السينما والمسرح والمعارض اللبنانية.
- ـ موظفة سابقاً في وزارة الثقافة اللبنانية.
- ـ العمل سابقاً في مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية في لبنان ـ عضو لجنة إعداد دليل تصنيف المكتبة.
- ـ المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات والمعارض وورش العمل