استيقظت في ذلك اليوم مبكراً أكثر من عادتي، وارتديت ملابسي وأسرعت نحو باب الدار لانتظر خروج مازن ابن الجيران من بيته، لقد كنت أنتظر رؤيته على أحر من الجمر بعد أن عاد من لبنان خلال الليل، لقد كنت ومنذ أيام أحلم بمشاهدته وقد صار يمشي مثلنا، وفُتح باب الجيران وخرج منه مازن زحفاً، شعرت أن الدنيا قد دارت بي، أحسست بإحباط شديد لم أعرف مثيلاً له من قبل.
لقد كان مازن صديق الطفولة الذي أحببته كثيراً، ولطالما لعبنا سوية رغم معاناته من ساقه الضامرة، كنت سعيداً باللعب معه أكثر من غيره لذكائه المتميز.
لقد ولد مازن ولديه تشوه بساقه، وقد قالت النسوة لأمه إن عليها أن تدع النحل يلدغه، وفعلت أملاً بشفاء لم يحصل، كنتُ أتألم لبكاء صديقي من علاجات لم أكن أفهمها.
أخذوه إلى أشخاص عرفت فيما بعد من هم، وناله منهم ما لا يستحقه، لقد كان الصديق المسكين حقل تجارب، أما الأطباء وكما كنت أسمع فإنهم كانوا يقولون: لا يوجد علاج لدينا هنا، خذوه إلى لبنان.
كانت كلمه لبنان ترن في أذني ولا تفارق مخيلتي، وكنت أفكر بها قبل النوم وبعد الصحو، وما بينهما في الحلم أراها مرة على شكل حديقة وأحياناً غرفة كبيرة، وتارة تكون على شكل صخرة يجلس عليها الناس، ولكنها جميلة كيفما كانت ففيها علاج صديقي.
تحادثت أنا ومازن مرة حول لبنان: فقلت له: لقد ذهبت إلى المدينة مع والدي منذ أيام وأخذني إلى صاحبه الخياط، وبجوار الخياط كان هناك سوق كبير، والشارع قربه مكتظ بالناس، ورأيت شخصاً ساقه مثل ساقك، ولكن لديه عكازتين، وأظن أن تلك السوق هي لبنان، فرد عليّ وبجعبته جواب آخر: لا يا علي، لبنان هي بحر كبير تعيش فيه الأسماك الكبيرة وفيه سفينة عليها علم أحمر، وعندما يصل المريض إلى هناك يركب على ظهر السفينة ويدلي رجليه في الماء، فتأتي السمكة الخضراء وتعض الساق المريضة فتعود سليمة، وإذا كان الشخص كذاباً فإن السمكة البيضاء تأكل ساقه، أذهلني بروايته، فقلت له: أصحيح ما تقول يا مازن؟، من قال لك ذلك؟، فرد عليّ: نعم، هذا ما قالته لي جدتي عندما سألتها عن لبنان ولماذا سيأخذونني إلى هناك..
ودّعت مازناً وذهبت مسرعاً إلى جدي العائد لتوه من البستان، وسألته: هل ذهبت إلى لبنان يا جدي؟، فأجابني: لا، ولا أريد أن أذهب، يا ولد أنت خرجت من البيضة منذ يومين وتعرف لبنان، صار شعري أبيض ولم أعرف لبنان، جيل آخر زمن، ولكن تعال يا علي إلى هنا وانظر إلى تلك المجلة الموضوعة على الرف هناك، إنها من لبنان كما يقول والدك، ركضت نحو الرف ووضعت كرسياً صعدت فوقه وأحضرت المجلة التي طلاها الغبار، لقد كنت حديث عهد بالقراءة ولذلك لم أفقه إلا ما ندر، ولكن كان هناك الكثير من الصور رجال ونساء وجبال وحدائق، وتوجد أيضا صورة سفينة، وعليها علم أحمر وأبيض وعليه شجرة خضراء، ولا بد أنها السفينة التي حدثني عنها مازن، أنا الآن رأيت لبنان قبل مازن، أخذت المجلة رغم تحذيرات جدي بأنه سيعاقبني إن أضعتها، وركضت بها نحو بيت مازن، دخلت إليه وكان منهمكاً بصنع بيت صغير من الطين والأخشاب، وقد جهّز علماً أحمر ليضعه أعلى البيت، قلت له هذه هي لبنان وقدمت له المجلة، صُعق الصديق مازن، وحملق في المجلة وصار يقلب صفحاتها بسرعة، قلت له هذه هي السفينة التي ستركب عليها، ولكن قل لجدتك إن العلم ليس كما قالت، وفي تلك اللحظات دخل والد مازن وسمع حوارنا فضحك، وجلس يقلِّب المجلة، فسألته هل لبنان جميلة؟ قال لي: والله يا بنيّ لا أعرف، لم أزرها في حياتي، وقفز مازن قائلاً: ولكن جدتي تعرفها، ضحك أبو مازن أكثر، وقال: جدتك الختيارة عندها حكايات حلوة، ولو سألتها عن الواق واق لأسمعتك ألف حكاية حولها، جدتك لا تعرف الضيعة المجاورة حتى تعرف لبنان.
في إحدى الليالي كنت أجلس إلى جوار والدي الضليع بالأسفار ومعه العديد من رجال القرية، وسمعتهم يتفقون على الذهاب إلى لبنان في صباح الغد، وكنت أتمنى لو يأخذني والدي معه، سهرت طويلاً، واستيقظت على حركات تجهيز الرحلة في المنزل قبل صلاة الفجر، لقد ركب والدي ومازن ووالده ومختار الضيعة في السيارة الصفراء القديمة المتجهة نحو المدينة، وعلمت أنهم من هناك سيذهبون إلى لبنان.
كان دليلهم والدي الذي أوصلهم إلى المستشفى العجيب الذي رقد به مازن، قال لي مازن: لقد ربطوا رجلي بحبل فيه أثقال مثل ميزان أبي علي بائع الخضار فكانت ساقي تؤلمني وكنت أبكي، وكلما يزداد بكائي يحتضنني والدي أكثر، يأتي إليّ وينتظر ذهاب الطبيب والممرضة ويزيل الحبل، فكنت أستريح، وأعجبتني أفكار والدي الذي صار يعرف أوقات الأطباء والممرضات فيفك الحبل أو يربطه حسب ما يستدعي الأمر، ولكنهم كانوا يزيدون الأثقال كل يوم، وكنت أزيد من بكائي لأزيد عطف والدي عليّ فيسرع بتخليصي من الحبل.. كنت لا أطيق زيارة والدك يا علي والمختار لأن والدي يضطر أن يربط الحبل وقتها، وهما يطيلان الزيارة، وبعد مرور أسبوع أصبح يزورني أطباء آخرون، وشعرت أن والدي لم يعد يعرف أوقاتهم بالضبط، وعندما سألهم لماذا يريدون أن يجروا التحاليل في ذلك المساء أجابوه بأن العملية ستكون غداً، سكت والدي وانتظر خروجهم، فك الحبل من قدمي، وأخرج كيساً صغيراً مربوطاً بخيط كانت قد صنعته له أمي، أحصى النقود، ونظر من الشباك، ثم خرج من الباب، وبعد نصف ساعة عاد وحملني على كتفيه، وذهب إلى الشارع الآخر، ومن هناك بدأ يركض، وكلما أنهى شارعاً كان يقف ليسأل أحدهم عن المواقف تحت الجسر، وبعد ساعة أو ساعتين وصل إلى تلك المواقف، وركبنا سيارة متجهة إلى هنا ووصلنا إلى البيت بعد منتصف الليل، سكت مازن برهة ثم اغرورقت عيناه بدموع سخية وهما تنظران إلى صورة المرحوم والده على الجدار وإلى عكازته المستندة على الجدار، ثم قال: يرحمك الله يا والدي… يرحمك الله.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.