كانت الساعة تشيرُ إلى الثامنةِ صباحاً، ونسرين على كرسيها ذي العجلات في غرفتِها، تنظرُ إلى صورِها المَوضوعة على مَكتبتها والمُعلقةِ على جدران غرفتِها، كل صورة كانت تحكي قصة سعيدة عن مُناسباتٍ لنسرين مع عائلتها أو صديقاتِها.. انحبست عبراتها وهي تتطلعُ إلى تلك الصور وتسترجعُ ذكرياتها السعيدة، ثم أخذت تسحبُ كرسيها نحو النافذة وهي تنظر إلى الشارع، فتحسرت لرؤيةِ المَارة، خاصة الطلبة وهم يتوجهون إلى مَدارسِهم في ذلك الصباح المُشرق خلال فصل الربيع الجميل، فأخذت دموعها تنهمر، وهي ترددُّ مع نفسها بصمت قائلة: يا إلهي كم أشتقتُ إلى السير والنزهاتِ، إلى الركض واللعبِ والرياضة، أشتقتُ إلى مَدرستي وصديقاتي، أشتقتُ إلى الطبيعةِ الجميلة والشوارع المُزدحمة بالناس.
ثم رفعت رأسها إلى السماء مِن خلال النافذةِ وهي تدعو الله القدير قائلة: أرجوك يا إلهي أن تساعدني على الصبر والتحمل، وأن تنتقم لي مِن الذي كان سبباً في إعاقتي وبترُ ساقي، حتى أصبحت أسيرة هذا الكرسي وسجينة هذه الغرفة، يارب ساعدني على هذه المِحنة.
أخذت نسرين تمسحُ دموعها ثم نظرت إلى تقويم التاريخ المُعلق على جدران غرفتها، فوجدت أنَّ اليوم هو أول أيام شهر أبريل، فأزدادَ حزنها وأنهمرت دموعها مرة أخرى وهي تتذكرُ ذاك اليوم الكئيب قبل عام، حينما كانت بصُحبةِ صديقاتها في رحلةٍ مَدرسية إلى إحدى المناطق الجبلية القريبة مِن مَدينتها، وقد كانت هذه المَنطقة قبل سنين مَضت مَسرحاً للنِزاعات، وكان حينها مزروعة بعشرات الألغام في تلك المنطقة المُتنازع عليها، وبعد إنتهاء النِزاع أصبحت تلك المنطقة مِن أجمل الأماكن السياحية لقضاءِ النزهات والرحلات المَدرسية والسياحية فيها، لِما فيها مِن مَناظر ساحرة وطبيعة خلابة، ورغم تمشيط المنطقة من الألغام بعد حَل النِزاع، إلا أنه لم يتم العثور على جميع الألغام المزروعة سابقاً، فكانت تتسبب في بعض الأحيان في إصابات للناس الأبرياء خلال نزهاتِهم ورحلاتِهم، وشاء القدر أن تكون نسرين وصديقاتها مِن ضحايا تلك الألغام دونَ ذنب من خلال سفرة مدرسية.
أخذت نسرين تبكي بحرقة وهي تتذكرُ ذلك اليوم الحزين حينما كانت بصُحبةِ صديقاتها ناز ولانا وهنَّ في قمة سعادتهن، يلعبنَّ ويمرحنَّ على الحقول الخضراء ويركضنَّ وراء الفراشات، وفجأة وقعَت قدم نسرين على شيءٍ غريب، وفي ثوان أنفجرَ لُغمٌ تحت قدميِّها، فأصيبت نسرين وصديقاتها ناز ولانا إصابات بالغة، وتحول الفرحُ إلى حزنٍ وبكاءٍ وصياح، وتحولت السفرة إلى ذكرى مؤلمة، حيث كانت إصابة نسرين بالغة في إحدى قدميِّها ما أدى إلى بترها، وفقدت صديقتها ناز سَمعها، ولانا بصرها، فكان يوماً مُحزناً في ذاكرة نسرين وناز ولانا وعائلاتهن والمدرسة.
وبينما كانت نسرين تستعيد ذكرى ذاك اليوم وهي تبكي بحرقة، سَمعت أمها صوت بُكائها فأسرعت إليها وحضنتها بشوق وحنان والدموع تنهمر من عينيها، فشعرت نسرين بالذنبِ، وأخذت تمسحُ دموعها ودموع أمها وردَّت بحزن قائلة: لا عليكِ يا أمي، أنا فقط تذكرتُ أنَّ اليوم هو ذكرى ذاك الحادث المؤلم، والله يا أمي لا أعرف أيَّ قلب كان يملكُ ذلك الشخص الذي زرعَ تلك الألغام، ألم يكن حينها يشعر بأن هذه الألغام ربما تنفجر يوماً بأختهِ أو ابنتهِ أو أحداً مِن أقاربهِ؟! فيصابُ بهذه الإعاقة كما أصبت أنا وصديقاتي.
فأجابت الأم والحزن يملأ قلبها قائلة: حبيبتي الغالية أشعرُ بمُعاناتكِ ولا أعرفُ كيف أواسيكِ أو أساعدك يا عزيزتي الصغيرة، و يا ليت ما أصابكِ قد أصابني أنا بدلاً عنكِ.
… قاطعت نسرين أمها بغضب قائلة: لا تقولي ذلك يا أمي، بعد الشر عليكِ ألف مرة، أنا فقط أرى نفسي عاجزة ولا أستطيع أن أفعل شيئاً مُفيداً، فكل يوم عندي أصبح مثل اليوم السابق، أصبحتُ لا أشعرُ بطعم الحياة وأنا أسيرة هذا الكرسي وهذه الغرفة، أتمنى أن أنسى المَاضي وما حصل، أريدُ أن أفعل شيئاً يا أمي أستطيعُ مِن خلالهِ أن أشغل نفسي وأشعر بالحياة، فإذا كانت لديكِ أيَّة فكرة أو نصيحة يا أمي أرجو أن تخبريني بها.
فأجابت الأم بحنان قائلة: والله يا عزيزتي فكرة رائعة! هيا يا حبيبتي لنفكر معاً بما نستطيع القيام بهِ لتحقيق رغباتكِ.
ساد الصمتُ بين نسرين وأمها، وأخذت الأم تفكر، وبعد صمت قصير أجابت الأم بلهفة قائلة: لقد راودتني بعض الأفكار يا عزيزتي عسى أن تعجبك.
فصاحت نسرين بسعادة قائلة: هاتِ ما عندكِ يا أمي أرجوكِ؟
فأجابت الأم قائلة: اسمعي يا حبيبتي، أنتِ بارعة بالكتابةِ والإنشاء تستطيعين أن تكتبي بعض المقالات والقصائد والقصص أو ترسمي عن أولئك الذين تعرضوا مِثلكِ ومثل صديقاتك لهذهِ الحوادث، فهناك العديد مِن الناس ممن تعرضوا لهذهِ الأحداث المؤلمة مِن خلال الحروب والنِزاعات أو حتى من خلال حوادث السير، اكتبي يا عزيزتي كل ما يَجول في خاطرُك مِن أحداثٍ ومَشاعر، وأخبري صديقاتك أيضاً ناز ولانا، وانشرن مجهوداتكن في المَجلاتِ والصُحفِ وعبرَ الأنترنت، كما وبإمكانكنَّ الحصول على صور الأشخاص الذين تعرضوا مثلكن لهذه الإصابات، واقمن مَعارض للصور الفوتوغرافية لتلك الأحداث والكوارث أو الرسم، ويوماً بعد يوم سوف يكبر إنجازكن، وسيشارك العديد مِن الناس ضد هذه الأعمال غير الإنسانية، لتضعَ حداً للنزاعات والحروب وإنتاج الأسلحة التي تدمر البشرية والطبيعة على أرضنا.
فأجابت نسرين بقناعة قائلة: والله يا أمي أقتراح رائع وأعجبتني الفكرة! وسوف أعملُ عليها منذ الآن وسأخبرُ ناز ولانا أيضا حتى نقوم سوية بهذه النشاطات.
شعرت الأم ببعض الراحة ثم أسرعت لتجلب القلم والأوراق لأبنتها، وقدمتها لها وطلبت منها بثقة قائلة: خذي يا عزيزتي وأبدئي مِن الآن ولا تؤجلي أفكاركِ طالما أنتِ مُتحمسة لها، أتمنى لك كل التوفيق، وأنا متأكدة أن الله سيُبارك عملكن، وأنا سوف أذهب لأعمل لك عصيراً طازجاً ليساعدك على التفكير والإبداع.
فأجابت نسرين بابتسامة قائلة: شكراً يا أمي وأنا آسفة إن كنت قد أزعجتك بهمومي وخدمتي.
قبلتها أمها بكل حنان قائلة: عزيزتي الصغيرة أنتِ أغلى ما أملكُ في الحياة وكل أملي أن أراكِ دائما قوية ومُتفائلة في الحياة.
فأجابت نسرين بقناعة قائلة: حسنا يا أمي سأحاول بإذن الله أن أكون عند حسن ظنك دائماً.
أخذت نسرين تفكر كيف تحارب الظلم؟ ليعيش الناس بأمان واستقرار وسعادة، وأخبرت صديقاتها ناز ولانا بمَشروعها، فرحبتا بالفكرة ووعدتا نسرين بالمشاركةِ.
ظلت نسرين تعمل بجد وهي تحاول القيام بهذا العمل، فكتبت مَقالات وقصائد وقصص مؤثرة عن مُعاناتِها ومُعاناةِ صديقاتِها وعن الذين تعرضوا مِثلهن لتلك الحوادث، وقامت بنشرها عَبرَ المَجلات والصُحف وعَبرَ شبكات الأنترنت.
بدأت نسرين بأول مَقالة لها بعنوان – رسالة نسرين الى العالم – ذكرت فيها ما يلي:
تحية إلى كل مَنْ يُحب السلام والأمان ويبغض النِزاع والدمَار، إلى كل مَنْ يَملك المَشاعر الإنسانية، إلى مَنْ يَعشقُ الأبتسامة في عيون الأطفال، إلى مَنْ يقدسُ الطبيعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، أناجيكم باسم ملايين الناس الأبرياء مِمَنْ قتلوا وشردوا وعوقوا في الحروب والنزاعات، أستنجدُ بكم يا رؤساء الدول، يا مَنْ لديكم مَفاتيح السلام والأمن والاستقرار والحياة الكريمة في العالم جمعاء، أنا نسرين في السادسة عشرة من عمري، فقدت قدميِّ بسببِ شخص لا يَملكُ الضمير والاحساس، زرعَ لغماً في أحدِ الحقول الخضراء بدلا مِن أن يزرع شجرة أو زهرة، فكنا الضحايا أنا وصديقاتي، وأصبنا بأنواع الإعاقات.
أستنجدُ كل دول العالم المُحبة للسلام أن يمنعوا هذه الأسلحة ويتعهدوا بتدميرها، والعمل على رفاهِ شعوبهم وتوفير الأمن والأستقرار والسعادة، والاهتمام بالعلم والمعرفة والثقافة، ونشر السلام والمَحبةِ في العالم أجمعِ.
هكذا كتبت نسرين وصديقاتها عشرات المَقالات والقصص والقصائد، وأفتتحن مَعارض للصور الفوتوغرافية والرسوم التشكيلية لمُعاناة أصحاب الحوادث المؤلمة، فتوافدَ الناسُ والصُحفيين إلى تلك المَعارض، وكتبوا عنها عَشرات المقالات مُتحدين مع نسرين ضد الحروب وإنتاج الأسلحة.
ومرت السنين وأصبحت نسرين شابة تعملُ بجدٍ ونشاط في عدةِ مُنظماتٍ خيرية وإنسانية تساعدُ فيها الشعوب التي تتعرض بلدانهم للحروب والنكسات، وأصبحت سفيرة السلام وأعمال الخير في بلادِها، وكسبت مَحبة الناس، وهي تنتظر ذلك اليوم الذي سوف يَسمع صوتها أصحاب الضمائر الحية ليتوقفوا عن إنتاج كل ما هو ضد الإنسانية والبشرية والطبيعة وضد الأمان والسلام.
كاتبة عراقية من أبرز مؤلفاتها:
- كتاب، صالح اليوسفي صفحات من حياته مع ديوانه الشعري الكامل 2009
- مجموعة قصص قصيرة (نبوءة حلم) 2010
- مجموعة قصص قصيرة للأطفال والناشئة (حلم الطفولة) 2012
- جائزة تقديرية في مسابقة جليل القيسي للقصة القصيرة ـ العراق – عن قصة (سر سعاد) 2009
- الجائزة الثالثة وشهادة تقديرية في مسابقة نور للأدب العالمية للشعر عن قصيدة: (إلى غزة.. والى محمود درويش.. وأطفال الحجارة) ـ فلسطين – 2010.
- الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة الثانية في ديوان النيل والفرات الادبي ـ العراق – عن قصة (حلم الطفولة) 2010
- شكر وشهادة تقدير في المسابقة الثالثة لديوان النيل والفرات، العراق – عن مسرحية (الأمير نور الدين والشيخ الحكيم) 2011
- جائزة تشجيعية وتقدير مع جائزة مالية في المسابقة الإبداعية لكتابة قصة للأطفال من المدينة المنورة ـ المملكة العربية السعودية – عن قصة (حكاية ريم) 2010 ـ 2011.
- الجائزة الثالثة وشهادة تقديرية في مسابقة نبع العواطف الأدبية الرابعة عن قصة (يارا وناصر وعهد الوفاء) 2013.
- شكر وتقدير في مسابقة الكويت الدولية لتأليف قصص الأطفال في مجال الوقف والعمل الخيري والتطوعي للأوقاف عن قصة (صابر والحياة نحو الأفضل).
- الجائزة الثالثة في مسابقة نور السادسة عن قصة (حلم الدراجة) 2014.
- (نور وسموم الغربة) من قصصي التي رشحت للفوز في مسابقة المبدعون ـ مصر ـ 2010
- (صديق من كوكب آخر) من القصص التي رشحت للنشر في مسابقة ناشري للخيال العلمي ـ الكويت – 2010
- (العمارة بين الحقيقة والأساطير) من المقالات التي رشحت للفوز في مسابقة الألوكة الأدبية ـ المملكة العربية السعودية – 2011
- (الرحلة والحلقة المفقودة) من القصص التي رشحت للفوز في مسابقة الألوكة الأدبية ـ المملكة العربية السعودية ـ 2011
- دعوة حضور الى مهرجان مسابقة (معبر المضيق) للقصة القصيرة عن مشاركتي في قصة (رحلة طارق بين الماضي والحاضر) ـ أسبانيا ـ 2010
- دعوة لحضور المهرجان الشعري الأدبي (ميزوبوتاميا) للقصيدة عن مشاركتي في قصيدة (إلى أبي الشهيد) – جمهورية صربيا – 2012
- مقابلة وحوار شخصي مع جريدة التآخي العراقية.
- مقابلات شخصية في فيلمين وثائقيين عن سيرة والدي (الشهيد صالح اليوسفي)، عن قناة (روداو الفضائية)، وفلم وثائقي للمخرجة فيان مائي والمخرج نجاة نروي.
- مشاركات أدبية وثقافية عديدة في شبكة الألوكة الثقافية، وشبكة أورنينا الثقافية، وشبكة كتابات في الميزان، ومركز نور، ومدونة حي بن يقظان لأدب الأطفال