(فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)! ظننا بك خيراً يا كريم؛ فعلى قدر الإحسان من المخلوق يكون الإنعام من الخالق جل جلاله. إن حسن الظن بالله عبادة قلبية صِرفة تعني توقع الجميل من الله برجاء ما عنده بطاعته وترك معصيته. وتبين الطريق الملتبس ما دام الأمر خيراً، فحسن الظن بالله في جميع أمورك هو عظيم التفاؤل وتحقيق المراد.
في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تفاءلوا بالخير تجدوه)، الحث على التفاؤل الذي هو باب السعادة الرئيسي، انطلاقاً من معرفة ذاتك وتسخير ما عندك من مقدرة، حتى ولو أبسط الأشياء التي لا تكلف جهداً ولا مالاً. ويقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) و(تَبَسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ صدقةٌ).
انطلاقاً من هذا المفهوم، فإن المسلم يحمل رسالة دائمة وتكليفاً لا ينقطع، فمن السهل أن يسخر كل ذلك لسعادته وسعادة الآخرين بما لديه من إمكانيات. ويجب أن يكون إيجابياً في حياته تدفعه نفسه الخيّرة إلى قياس كل فعل برضاء الله وصلاح مجتمعه، وعند قيامه بهذا الفعل سوف يشعر تلقائياً بالسعادة والسرور. فمن خلال تجربة متاحة جداً، عندما اُعلم اولادي كيف يرأفون بالمحتاج، فأنت تصنع في قلوبهم السعادة، وعند اعطائهم مالاً ليتبرعوا أو ليعينوا فقيراً، أو يشاركوا في عمل خير… فكيف سيرجع لك هذا الابن بعد قيامه بذلك العمل الجليل؟ بلا شك مبتسماً يعبر عن نفسه الخيرة بأنه ساعد محتاجاً، او أماط أذى عن الطريق، لاحظ السعادة بنفسك، من ذلك الموقف. إن صيانة النفس والسلوك أمر بمقدورك القيام به، لك أو لمن هم في مسؤوليتك تحت تشكيل النفس.
وفي موضوع السعادة والتفاؤل نتعرض لبعض الأمثلة يقول جميل صليبا: السعادة هي الرضا التام بما تناله النفس من الخير. والفرق بينها وبين اللذة أن السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأن رضا النفس بها تام. إذ من شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تاماً ودائما. في حين أن (اللذة) حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وإن رضا النفس بها مؤقت.
وإذا كانت السعادة هي حالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للرغبات يتسم بالثبات، فإنه متى سمت إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر، أصبحت غبطة، وإن كانت هذه أسمى وأدوم.
وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة: فمنهم من يقول إن السعادة هي في إتباع الفضيلة (أفلاطون)، ومنهم من يقول إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية كالمدرسة (القورينائية) (من المحرر: القورينائيّة أو القورينية، مدرسة تقول بمذهب اللَّذَّة في الأخلاق، هي المدرسة الثانية – بعد المدرسة الكلبيّة – التي ظهرت متأثرة بسقراط الذي كانت (السعادة)، تحتل الصدارة في فلسفته، وكان يعدها هي الغاية التي تستهدفها أفعال الإنسان)، أما أرسطو فانه يوحد الخير الأعلى والسعادة، ويجعل اللذة شرطاً ضرورياً للسعادة لا شرطاً كافياً. وعين الأمر يقول به أبيقور الذي اعتبر اللذة هي غاية الحياة، وإن كان هو يقيم فروقاً بين اللذات. أما الرواقيون فإنهم يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، وهي – أي السعادة – في نظرهم غير ممتنعة عن الحكم، وإن كان طريقها محفوفاً بالألم.
تناول افلاطون موضوع العمل الجماعي من أجل السعادة بصورة رائعة من خلال قوله: ان السعادة ليست شأناً شخصيّاً بقدر ما هي قضيّة تتعلّق بالمدينة ككلّ وبالتّالي لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. «إننا لم نستهدف في تأسيس دولتنا جلب السعادة الكاملة لفئة معينة من المواطنين وإنما كان هدفنا أن نكفل أكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها» السٌعادة بالنٌسبة لأفلاطون إذن هي سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالانسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الشهوانية فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة… إلخ. أما إذا لم يحترموا هذا النظام فإننا «نحض حراسنا وحماتنا بالوعد أو نرغمهم بالوعيد كما نفعل مع غيرهم من المواطنين على أن يؤدوا على خير وجه ما يصلحون من الوظائف» فبذلك تتحقق العدالة «وعندما تزدهر الدولة بأسرها… نترك لكل طبقة أن تتمتع بالسعادة على قدر ما تؤهلها لذلك الطبيعة».
بينما لا يذهب ارسطو طاليس عن ذلك المفهوم بعيداً مؤكداً: أنَّ السعادة ترتبط بتحقيق الخير، حيثُ تتحدد باللذة، وهي الفضيلة التي تقود الفرد إلى السَّعادة بقوىً إراديّة من خلال اتباع الاختيار الذي يدفعه إلى التأمل، وأكد أن السعادة الحقيقية تتحول إلى العشق الميتافيزيقي وإلى السعادة الفكريّة والروحيّة، ويرى بأنّ السعادة عبارة عن مسألة جماعيّة وليست فرديّة.
ومن وجهة نظر الفارابي أنّ السعادة ليست في السعادة الشخصيّة، وإنما في السعادة الجماعيّة، فهو يبحث في الأشياء التي تحقق السعادة لأهل المدن كجماعة؛ لذلك نجد الفارابي يقرُّ بأنَّ المعقولات والأفكار الإراديّة توجد في الروح، وأنَّ الأفكار الطبيعيّة المُنتمية إلى علم المبادئ توجد في الجسد، فالسعادة غاية في حد ذاتها ما دامت تطلب وتأخذ لذاتها بعيداً عن أي نوع من المصلحة، وفي نظره فالسعادة لا ترتبط بالجسد وليست إشباعاً للذة، كما ويطرح الفارابي أنّ السعادة غير متوفرة في عالم الحس وأننا لا نولد سعداء؛ إنما هي في التفكير والفهم والوعي الفكريّ العميق للأشياء، مما يعني هذا أنّ السعادة ممارسة للتفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق بالتمييز بين الصحيح والخاطئ، وقوة التمييز هذه مرتبطة بقوة الذهن على تحصيل الصواب الذي نأخذ به، والباطل الذي نتجنّبه.
تناول الكثير من الأدباء والشعراء وأهل الحكمة موضوع السعادة وتدريب النفس وتعويدها على التأقلم وتدارك المشكلات، يقول الإمام الشافعي (رحمه الله) في التسليم لأمر الله تعالى وعدم تحميل النفس طاقة لا سعة لها بها:
فَخَلِّ الهَمَّ عنّي يا سعيدُ إذا أصبحتُ عندي قوتُ يومي
فإنَّ غَداً لَهُ رِزْقٌ جَدِيدُ وَلاَ تُخْطِرْ هُمُومَ غَدٍ بِبَالي
فَأَتْرُكُ مَا أُرِيدُ لِمَا يريدُ أُسَلِّمُ إِنْ أرادَ اللهُ أمرا
كما يقول إيليا أبو ماضي في هذا الشأن أيضاً، في قصيدته ابتسم:
قال السماء كئيبة، وتجهما قلت: ابتسم، يكفي التجهم في السما
قال: العدا حولي علت صيحاتهم أأسر والأعداء حولي في الحمى؟
قلت: ابتسم، لم يطلبوك بذمهم لو لم تكن منهم أجل وأعظما
قال: الصبا ولّى، فقلت له ابتسم لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال: البشاشة ليس تسعد كائنا يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
قلت: ابتسم ما دام بينك والردى شبر فإنك بعد لن تتبسما
ويقول جبران خليل جبران:
ما السَّعادَةُ في الدُّنيا سِوى شَبَحٍ يُرجى
فَإِن صارَ جِسماً ملّهُ البَشَرُ
كَالنَّهرِ يَركُضُ نَحوَ السَّهل مُكتَدِحاً
حَتّى إِذا جاءَهُ يبطئ وَيَعتَكِرُ
لَم يَسعَدِ النّاسُ إِلّا في تَشوُّقهم
إِلى المَنيعِ فَإِن صارُوا بِهِ فَترُوا
فَإِن لَقيتَ سَعيداً وَهوَ مُنصَرِفٌ
عَنِ المَنيعِ فَقُل في خُلقه العِبَرُ
ويقول مصطفى لطفي المنفلوطي:
حسبك من السعادة، ضمير نقي، ونفس هادئة، وقلب شريف.
وتطرق فاروق جويدة لذات الموضوع قائلاً:
إنني أؤمن عن يقين أن سعادتنا تبدأ داخلنا…
وأن السعادة في العطاء ربما تفوق السعادة عما يعطيه الآخرون لنا.
أما قصيدة محمد بن علي بن عمر الحكمي (ابن عمر الضمدي) في الاستسقاء, فتأتي في ثوب أنيق من الرصانة والأسلوب الشعري الجذاب الذي يدعو للثقة بالله عز وجل، والتفاؤل ورؤية الآمور بعين متأملة راجية من ربها كل خير:
إن مسَّنا الضُرُّ، أو ضاقت بنا الحِيَلُ
فلنْ يخَيبَ لنا في ربِّنا أملُ
وإن أناخت بنا البلوى فإن لنا
ربًّا يُحوِّلُها عنّا فتنتقلُ
اللهُ في كلِّ خَطبٍ حسبنا وكفى
إليه نرفعُ شكوانا ونبتهلُ
من ذا نلوذُ به في كشف كربتنا
ومن عليه سوى الرحمن نتكلُ
وكيفَ يُرجى سوى الرحمن من أحدٍ
وفي حياضِ نداهُ النهلُ والعَللُ
لا يُرتجى الخيرُ إلا من لديه، ولا
لغيره يُتَوقّى الحادثُ الجللُ
خزائنُ اللهِ تُغني كلَّ مفتقرٍ
وفي يدِ الله للسُّؤَّال ما سألوا
وسائلُ اللهِ ما زالت مسائلُهُ
مقبولةٌ ما لها رَدٌّ ولا مَللُ
فافزع إلى الله واقرع بابَ رحمتهِ
فهو الرجاءُ لمن أعيت بهِ السُبلُ
وأحْسِنِ الظنَّ في مولاكَ وارضَ بما
أولاكَ يخل عنك البؤسُ والوجلُ
أما على المستوي الرسمي وتضمين موضوع السعادة في الحياة، فقد نالت دولة الإمارات العربية المتحدة، الريادة في موضوع السعادة بحثاً وتطويراً، حتى توجت ذلك كله بإنشاء وزارة خاصة للسعادة، في إطار جهودها لتوفير السعادة والرخاء والرفاهية لشعبها والمقيمين على أرضها.
يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: (الإيجابية هي طريقة تفكير، والسعادة هي أسلوب حياة. ليس ما تملكه أو ما تفعله هو ما يجعلك سعيداً، بل كيفية تفكيرك بكل ذلك). في هذا المضمون حث على التفكير الإيجابي والنظرة الإيجابية، نظرة تحقق بها ما ترجوه، ولا تتحرى التشاؤم وتتصيد أخطاء الزملاء أو تستمتع بالشماتة عند حصول أمر غير سعيد لأحد الزملاء. فروح الفريق في العمل هي منبع للسعادة إذا ما ترجمت بشكل عقلاني وموضوعي.
المصادر:
www.bacbladi.com
- [email protected]
- باحث ومترجم، مهتم بالقضايا الاجتماعية والعمل الإنساني ومناصرة قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة.