إن العمل المشوق والحزين الذي أخرجه بهمن قوبادي عام 1999 يدين القهر ويرفض تدمير الجمال الإنساني مجسما في الطفولة، وهي أفكار شغلت المخرج وقدمها سابقا في افلامه الوثائقية.
(زمن الخيول المخمورة) A Time for Drunken Horses أول فيلم روائي طويل للمخرج، قدم فيه عالماً مليئاً بالقسوة وروح الطفولة المعذبة، على خلفية مجتمع الأكراد في منطقة ايرانية وعرة على الحدود العراقية.
حصل الفيلم على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2000، ومخرجه بهمن قوباي من أصول كردية ايرانية ولد على الحدود الايرانية – العراقية، درس التصوير والاخراج السينمائي، وصور مجموعة من الافلام القصيرة عن الشعب الكردي.
ضربات موجعة للطفولة
ورغم القدرة الابداعية الرائعة التي أخرجت الفيلم وهي متصلة بالمخيلة الخلاقة، فإن ما يرويه الفيلم لا يتصل بالمتخيل أبداً، فزاوية رؤيته هي زاويتنا التي نراها في العالم الثالث، في تلك المناطق الأشد فقراً والأكثر قسوة، والمسقط الذي يرى منه المخرج الأحداث يشكل معبراً إلى وقائع حقيقية. فنحن نستعيد هنا مع كل مشهد، ما يوجه للطفولة من ضربات موجعة.
فيلم روائي من ساعة وربع يتميز بالوضوح القاسي، والأصالة في تجسيد حياة أهالي قرية على الحدود، وبهذا الوضوح وتلك الأصالة صنع لنفسه مكانة في السينما العالمية.
يسرد الفيلم قصة عائلة مكونة من خمسة أطفال في قرية (سرداب) الكردية بمنطقة جبلية وعرة غارقة في الثلوج، تموت أمهم في زمن سابق، كما يموت والدهم بانفجار لغم أرضي، في النصف ساعة الأولى من الفيلم، الأطفال يتسللون مع آخرين في سن مقاربة لهم للعمل على الحدود العراقية، في أعمال تفوق طاقتهم، وليس أمامهم من سبيل آخر لإبعاد شبح الموت جوعاً.
تلتقط الكاميرا بلا رحمة مشاهد هؤلاء الأطفال وهم يتدافعون على متن شاحنة لنقلهم إلى العراق للعمل في السوق أو العودة منه، تلتقطهم أيضاً وهم يتصارعون مع الواقع على منحدرات الجبال المغطاة بالثلوج لتهريب البضائع على ظهورهم، ونقل الإطارات الثقيلة على البغال التي يسقونها الخمر حتى تتحمل البرد المروع، وعبر وديان مزروعة بالألغام الأرضية، غير التهديد من قبل الدوريات العسكرية وإطلاق النار خارج الكاميرا.
صورة كئيبة يبدأها المخرج بشاشة سوداء في بداية الفيلم وحوار لا تظهر أشخاصه، كتمهيد لما سوف نراه من الألم العاطفي والجسدي الرهيب الذي يتحمله الأطفال.
الشخصية الرئيسية والأشد تأثيراً هي شخصية الصبي (أيوب) الذي يبلغ من العمر اثنتي عشر عاماً التحق بعمل في مجال تهريب السلع عبر المنطقة الحدودية بين إيران والعراق أثناء فترة الحرب بين الدولتين، من أجل رعاية إخوته وعلاج أخيه المعاق (ماضي) الذي لا تفيده العلاجات بالأدوية بل يحتاج إلى جراحة.
أخت أيوب (روجين) توافق مضطرة بطلب من عمها على الزواج من رجل كردي، ويكون الاتفاق هو علاج الطفل ماضي بدلاً من الحصول على المهر، لكن بعد الزواج تتنصل عائلة الزوج من الاتفاق، وللتعويض تعطيهم بغلا كمهر، يأخذه ايوب حاملاً أخيه ماضي على ظهره في رحلة وعرة في الثلوج إلى العراق لبيع البغل والحصول على تكاليف العملية لآخية المعوق.
شخصية أيوب رغم صغر سنه، تظهر متحلية بالصبر على المعاناة، ومحملة بالكرامة الذاتية والاعتزاز بمسؤوليته بعد وفاه أبيه، فهو يعد أخته الصغيرة (آمنة) بإحضار دفتر لواجبها المدرسي وينفذ وعده، ويساعدها في الدراسة، ثم يقف وقفة شامخة أمام عمه متسائلاً لماذا تجاهله ولم يخبره باتفاق زواج أخته (روجين) رغم أنه أخوها، وكفرد من العائلة كان عليه إخباره، وهو موقف انتهى بإذلاله، بصفعة على وجهه من قبل عمه، ورغم الاذلال والغضب الذي انتابه، إلا أنه سار في موكب أخته المتزوجة ليوصلها مع عمه إلى عائلة زوجها.
يعلق في الذاكرة مشاهد جهده المضني في حمل البضاعة على ظهره والسير بها على منحدرات التلال، وتعبه في قطع الأشجار لتوفير الدفء للبيت.
وكان اصراره على خوض حرب مع الواقع والطبيعة من أجل علاج أخيه هو قمة التضامن الأخوي وصورة إنسانية شديدة التأثير في النفس.
بوستر الفيلم جاء معبراً عن رحلة الصبي في جو عاصف، وسط مكان موحش ممتلئ بالفزع والقلق والوحشة والبرودة. الثلج له حضور طاغ، وهو علامة على اختفاء الحياة والحب، بل هو قرين الظلم، والظلم بارد كالثلج.
برودة الثلج واتساعه يطبق على الصبي. غير أن هناك ما هو أعظم من البرودة. إنه قلب الإنسان. وفي ذلك المكان الموحش المقفر تدور معركة شرسة بين الحياة والموت، والصبي الصغير في رحلة الحياة تلك، يكافح مطلقاً أنين الوجع؛ يسحقه قانون الإنسان، قانون لا يعرف العدالة، مجرد تعذيب وظلم.
تمثيل عفوي ومشاهد مؤثرة
المذهل في الفيلم قدرة الأطفال العفوية على التمثيل، ناسبوا أدوارهم وامتلكوا التلقائية. نستطيع الاقتناع بأدائهم بسهولة في مشاهد الحركة والعاطفة، البعيدة عن الخدع والمؤثرات البصرية، إنهم لا يمتلكون أي تاريخ في التمثيل لكنهم قدروا على توصيلنا إلى الجانب الإنساني والدرامي، وظهروا في مشاهد عديدة بشكل رائع ومؤثر.
المشاهد التي تعلق في الذاكرة كثيرة، أحدها تلك التي يقف فيها أيوب وحيداً في الثلوج، تنهمر منه دموع قاسية ومريرة. وهو يشاهد أخته الحنونة (روجين) تبتعد عنه على بغل متجه إلى عائلة زوجها على الحدود.
الطفل الذي فقد أمه، ثم أبيه، يصاب مرة ثالثة باليتم، ويفقد آخر صلة له بالحنان في تلك الأخت التي كانت تحنو عليه وعلى إخوته الصغار، الذين اعتبروها جميعا أماً صغيرة ترعاهم وتطبخ لهم الطعام وتنظف البيت الصغير.
الطفل ماضي ذو الإعاقة، يتحمل عبء وجود أكثر من اللازم، في مشاهد وحدته المرتعدة وسط الثلوج، بعيونه البريئة التي تعكس العذاب، أو وهو يبكي عندما يتلقى الحقن اليومية، لكنه رغم الضعف والبكاء والمرض، فهو يتميز بقدر من الصلابة.. إنه يتحمل المعاناة، وفى رحلة الثلوج الوعرة يستجيب لحنان أخيه.
أكثر المشاهد تأثيراً وهو مشهد مشحون بالإيحاءات، عندما نرى الطفل وهو يعانق شاهد القبر في المقبرة المغطاة بالثلوج ودموعه تتساقط، وبجواره أخته آمنة الصغيرة ترفع يديها للسماء وتدعو بحرارة لشفاء أخيها المعوق.
ان المشاهد القوية والمؤثرة للأطفال، متحملين الارهاق والجوع وسط الثلوج، تضعف تأثيرات مشاهد الكبار في افلام اخرى، يظهر فيها هؤلاء الكبار في مشاهد مؤلمة، فمشاهد عذابات الطفولة لا تضاهيها مشاهد اخرى.
أغاني وألوان وأزياء
الأغاني المصاحبة للفيلم تعبر عن التراث الشعبي الكردي، كما تعبر عن عدم الحياة الآمنة للأطفال والسؤال عن مصيرهم المجهول، مع موسيقى مصاحبة لنهاية مفتوحة.
الحوار في الفيلم قليل وبسيط بلا غموض ولا تأويل، لكن المخرج عبر عن الكثير من خلال ملء الشاشة بلون الثلج الناصع البياض، والأشجار العارية من الأوراق بلون أسود متدرج للرمادي. ألوان متناقضة لكنها معبرة عن بيئة شديدة الوعورة.
المخرج يلفت نظرنا إلى اللون الأسود المتدرج للرمادي بالشجر العاري على خلفية البياض الناصع، لقد أجبرنا على التركيز في هذا اللون الذي يشعرنا بالكآبة، وبقسوة الحياة، وربما أيضاً بقلوب الآخرين التي لا تحمل أي شفقة أو حنان تجاه الطفولة.
لكن وسط هذه القسوة والعراء الموحش تطالعنا مشاهد الدفء الأسري بين الأطفال من خلال مشاهد الاحتضان الحاني لبعضهم ومن خلال مسانده أحدهما للآخر، والحب الذي يشرق كشعاع من الشمس في يوم بارد.
مزج الفيلم بين الأزياء الحديثة، والزي التقليدي الكردي، أي الزي القومي الذي يلبسه الأكراد الرجال ويتكون من سروال فضفاض وسترة من نفس لون السروال وحزام عريض وغطاء الرأس الذي يشبه الكوفية الفلسطينية. هذا المزج ربما يشير إلى تراجع الزي القومي الكردي ليفسح المجال للأزياء الحديثة.. كما حدث في مناطق عديدة من العالم.
ولعل هذا الفيلم المفصلي في تاريخ مخرجه يشكل معبراً نحو الحقيقة، والتي ستكون واحدة من تجلياته الكثيرة، بدءاً من آليات سرد الفيلم، وصولاً إلى الأدوات والعناصر التي وظفت للغوص عميقاً في الحياة بمناطق وعرة.
سعيد رمضان على، إسكندرية، مصر
عمل في شمال سيناء، زار غزة عدة مرات ثم أقام فيها عدة سنوات وحاليا مقيم في الإسكندرية.
أصيب بالصمم في سن مبكرة، كان من أثره تركه الدراسة المنتظمة، فلم يستكمل تعليمه النظامي، لكنه استمر في الدراسات الحرة.
الأعمال والتكريم
- روح هائمة، رواية، دار نشر ميدلايت 1990، القاهرة.
- الأرض والنهر، مجموعة قصصية، دار نشر ميدلايت 1991، القاهرة.
- السينما المصرية والإعاقة، دراسة 2005، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- سيناء (الأهمية والمعنى) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2008، القاهرة.
- رواية أمواج ورمال، دار نشر فكرة. 2009، القاهرة.
- مسرحية الانهيارات، دار نشر هفن، 2009، القاهرة.
- السمورة وأنا، سيرة روائية، دار الأدهم للنشر، 2013، القاهرة.
- مقالات نقدية في الأدب والسينما والفن التشكيلي الفلسطيني، نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، وعلى عدة مواقع مختلفة.
- كرم من الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر في مؤتمر الإسماعيلية الأدبي عام 1995.
- حصل على شهادات تقدير من المجلس الأعلى للشباب والرياضة بمصر في مركز إعداد القادة بالقاهرة عن أعماله في القصة القصيرة، والمسرح وذلك عامي 1995، 1996.
- كرمته الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2005 في ملتقى المنال عن دراسته (السينما المصرية والإعاقة)
- استضافه المؤتمر العلمي الأول حول قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة بالقاهرة عام 2009.
نقد ودراسات عنه
دراسة عن روايته روح هائمة للناقد محمد قطب نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي 1995.
دراسة عن مجموعته القصصية (الأرض والنهر) للناقد الدكتور محمد حسن عبد الله نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي عام 1995.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للدكتور نادر عبد الخالق بعنوان البناء والتخطيط في مسرحية الانهيارات نشرت في جريدة الزمان مايو، 2019.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للناقد العراقي صباح الأنباري بعنوان (الانهيارات من بداية السقوط حتى نهاية الهزيمة) نشرت على موقع الناقد على النت.
دراسة في مجموعته الصمت للناقد سيد الوكيل، نشرت في كتاب أبحاث المؤتمر العلمي الأول، هيئة قصور الثقافة 2009، القاهرة.
دراسة عن رواية أمواج ورمال للناقد حاتم عبد الهادي نشرت في نشرة مؤتمر اليوم الواحد بالشرقية.
مقالات نقدية عن بعض قصصه القصيرة للناقد سمير الفيل نشرت بموقع القصة العربية.