(والأقطع الخير زيد) رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين بشائر الخير ومعجزات العلم بالغيبيات المستقبليّة، أمضى عدد من الصحابة حياتهم، بانتظار ساعة الحدث، وهم يعلمون مصابهم، وكأنه يتحقّق على مرأى من أعينهم، يفقدون ما يفقدون، وينالون ما ينالون، برضى وثباتٍ وإيمان.
ومنهم من يعرّج النبض صوبه؛ ليومض بسيرته الطيبة، هو ذاك زيد بن صُوحان بن حجر بن الحارث بن هِجْرِس العبدي، من كناه أبو سلمان.
من العلماءِ العبّاد، كان فاضلاً ديِّنًا خيِّرًا، سيدًا في قومه هو وإخوته صعصعة وسِيحان، ذُكِرَ في كتب معرفة الصحابة، ولا صحبة له، غير أنّه أسلم في حياة النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فأدركه صلوات الله وسلامه عليه ولم يرو عنه شيئًا، كما أدرك صحبه الكرام رضوان الله عليهم وروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
وفي حادثة تدلّ على الإعجاز علمًا بالغيبيّات بما اختص به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه، ما روي من وجوه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسيرة له، إذ هوَّم فجعل يقول: (زَيْدٌ وَمَا زَيْدُ! جُنْدَبٌ وَمَا جُنْدَبٌ).
فسُئل عن ذلك، فقال صلى لله عليه وسلم: (رجلانِ مِنْ أُمَّتِي، أمَّا أحدُهُمَا فَتَسْبِقُهُ يَدُهُ إلى الجنّةِ، ثُمَّ يَتْبَعُهَا سَائِرُ جَسَدِهِ، وأمّا الآخرُ فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً تُفَرِّقُ بينَ الحقِّ والباطلِ).
فلمّا ولي الوليد بن عقبة الكوفة في زمن عثمان، فذكر قصة جندب في قتله الساحر، وأما زيد بن صُوحان فقُطِعت يده يوم القادسية وقتل يوم الجمل، فقال: أدفنوني في ثيابي، فإني مخاصم.
وهكذا.. فقد لحق جسدُ زيدٍ يدَه إلى الجنة بإذن الله، وهو عالم فطن وموقن بما سيحدث ليده، متعفف بنفسه عن أطماع الدنيا، وفي وجهه ألقٌ ونورٌ يظهران على المحيّا والقلب واللسان، صابر محتسب حتى يدرك الشهادة التي وُعد بها.
ولما تميّز به شخص زيد بن صُوحان من سرعة بديهة، وحسن إجابة، فبينما هو يُحدِّثُ بعد أن قطعت يده، قال أعرابي: إن حديثَك يُعجبني، وإنّ يدَك لتُريبني، قال: أو ما تراها الشمال؟ قال: والله ما أدري اليمينَ يقطعون أم الشمال؟ فرد زيد قائلاً: صدق الله: (الأعراب أشدُّ كفرًا ونِفاقًا وأجْدَرُ أن لا يعلموا حُدود ما أنزل الله).
فما برحت له مكانة العلم والسؤدد، وتقدير الصحابة الكرام، إذ ذُكر أنّ وفد الكوفة قدموا على عمر رضي الله عنه فيهم زيد بن صُوحان، فجاءه رجلٌ من أهل الشام يستمدُّ، فقال: يا أهل الكوفة! إنّكم كنزُ أهل الإسلام، إن استمدَّكم أهلُ البصرة، أمددتموهم، وإن استمدَّكم أهل الشام أمددتموهم، وجعل عمر يُرَحِّلُ لزيد وقال: يا أهل الكوفة هكذا فاصنعوا بزيدٍ وإلا عذّبتكم.
وفي رواية تشير لثباته في قول الحق والدفاع عنه، بأن زيداً ارتُثَّ يوم الجمل، فقال له أصحابه: هنيئًا لك الجنة يا أبا سلمان. فقال: وما يُدريكُم، غزونا القوم في ديارهم، وقتلنا إمامهم، فيا ليتنا إذ ظُلِمنا صبرنا.
وبذا، فقد استشهد زيد رضي الله عنه، وهو يساند الحقّ، وقد تحققت نبوءة النبيّ فيه إذ قطعت يده في واقعة جلولاء ولحق جسده بيده يوم الجمل، وهو حامل راية الجهاد، ولما خرّ شهيدًا حمل الراية عنه أخوه صعصعة.
غفر الله تعالى له وأثابه حسن الجزاء.