تصرخ عبير متذرعةً، مبتهلةً بطريقة متوسلة، خاضعة وهي تبكي وتقول: لا أريد الزواج ولا أفكر فيه الآن، فأنا مازلت صغيرة ولم أنته من دراستي الإعدادية بعد، ثمَ يعلو صوتها أكثر وكأنها قد كسرت الخجل فتشجعت، لماذا تصرون على دفعي إلى معترك الحياة وأنا لم أستعد لها؟! ثمَ تشرع بلهجة خاضعة مقهورة أرجوكم دعوني وشأني، لتعيد ما قالته للمرة الألف وبصوت مبحوح، لا أريد… لقد قلت لكم… لا أرغب في الزواج الآن… لا تستطيعون إجباري على الزواج هكذا وبهذه الطريقة، ثمَ ينخفضُ صوتها بعدَ أن بدا عليها التعب والإرهاق فتقول هامسة وهي تنتحب بزفرات متقطعة، مناجية… أرجوكم، أتوسل إليكم، ارحموني، لا أريد الزواج الآن…
يقفزُ أخوها وسام، الهمام من خلفها كالصقر، فينتزع خصلة كبيرة من شعرها، ليتناثر على الأرض كالريش، وهو يدمدم: نحنُ لا نريد أن نسمع رأيك، ومنْ قالَ ذلك؟! بل نريدكِ أن تستعدي للقاء خطيبك، لقد قررنا وانتهى الأمر، وما عليك الآن سوى التنفيذ، ثمَ يصفعها على خدها بقوة، لتصرخ عبير عالياً مستغيثة بأمها الواقفة كالتمثال أمامها دونَ أن تحرك ساكناً، كعادة الآم في العائلة الشرقية! فمسؤوليات كهذه تكون من اختصاص الرجال، ولا شأن للنساء فيها، بينما يبصق أبوها على الأرض وكأنه يتقيأ، وهو يرى منظر ابنته أمامه بتقزز وكأنَ كرامته الإنسانية قد أهينت…! فيعقب على ما يشاهده قائلاً: ما عدتِ تنفعين حتى للزواج يا بنت، وكأنها قد اقترفت لتوها خطيئة جسيمة لا سمح الله! ثمَ يشرع: حرام فيكِ التربية وما قدمناه لكِ طوال هذه السنين وكأنه ينتظر مكافأة لقاء ذلك! ويردف متأففاً، حانقاً بعدَ أن غلى الدم في وجهه فصار بلون الطماطم: يا عديمة الحيلة… فكري قليلاً… يا ما لا نفع فيك أبداً… وواصل قائلاً: احسبيها جيداً، فالزوج غني جداً، وأسرته معروفة، ثمَ يرفع نظارته الكبيرة السوداء من على عينيه لتظهر عيناه الجاحظتان كعيني تمساح، فيقول شارحاً كالمحامي وهو يترافع: صحيح أنه قد تجاوزَ الأربعين عاماً بقليل، لكن لا ينقصهُ شيء، سوى الزوجة التي تربي أولاده، ثمَ يتغير أسلوبه الواثق فجأة، فيصرخ هائجاً كالذي لسعته نحلة، ويقول: ثبتي عقلكِ في رأسك يا جاحدة، انهضي الآن ولا تضيعي مزيداً من الوقت هكذا هباءً فهو في الطريق وسيكون بعدَ قليل هنا معَ أسرته، عندها يرفع يده وكأنه يودعُ أحداً ويستدرك قائلاً: لقد اتفقنا وحسمَ الأمر، فلا داعي للكلام أو المماطلة، ولن يفيدك شيء الآن أبداً… هيا انهضي، ثم يبصق على الأرض مجدداً وهو يتحدث مع نفسه: حرام فيها الأكل والشرب…
تنهار عبير نتيجة الجهد الذي بذلته طوال الوقت، للدفاع عن حريتها وحقوقها الإنسانية التي تراها تغتصب دونَ وجه حق، ولكن من يسمع وأخوها لا يعرفُ طريقة للتفاهم سوى الضرب والشتم والسب، وأمها الخائفة، الضعيفة التي ليسَ لها حول أو قوة، تشاهد منظر ابنتها المروع أمامها بصمت والدموع تطفر من عينيها كحبات المطر، وتقول في سرها: ليعاقبني الله على ضعفي، لكنها بقيت صامتة، مستغرقة في التفكير بكآبة وكأنها تخدع نفسها أو تحتقرها، عندها يسود الصمت فيطبق على كل المكان ليبدو وكأنَ كل الأشياء قد تآمرت عن عمد للتو!
يصل كل من سعيد (الزوج المنتظر) وأمه وأبوه وأخته هناء وهم في نشوة عارمة، بينما تفوح من غرفة الجلوس رائحة كرائحة الخريف؛ فتسأل هناء عن غرفة عبير، فيشير وسام لها بيده هناك…
تتوجه إلى غرفتها، لتصدم بالصورة التي تراها أمامها، فعبير مغشي عليها وأمها تحاول إسعافها بصمت وبذهول وهي تقرب من أنفها قارورة عطر، فتهرع هناء مسرعة إليهم، لتسكب كأس الماء الذي بجانب عبير، فترتعش عبير فجأة ثمَ تجفل ثانيةً بعدَ أن استعادت وعيها، فتحاول الكلام بعجز وكأنها فقدت النطق…
تقترب هناء منها وتسألها بارتباك: ماذا جرى يا أختاه؟!
لا أعلم يا أختي العزيزة، تجيبها عبير بصوت غير مسموع، منهك وكأنها ما زالت تعاني من مفعول المخدر…! ثمَ شرعت: ـ في لحظةٌ ما، لم أعد أسيطر على نفسي، فسقطت على الأرض دونَ شعور، ولم أعرف ما يجري حولي…
لا تتكلمي يا عزيزتي الآن، اهدأي قليلاً وأنا سأهتم بكِ؛ أجابتها هناء وهي تدلك يدها وتنظر إليها بوجل وكأنها في معبد، ثمَ أردفت: ـ ما هذا يا حلوة، نحنُ لا نملك سواكِ، وكم عبير نعرف، أعوذُ بالله، ثمَ ترفع رأسها إلى أم عبير بحيرة وكأنها تسأل عن الطريق بعدَ أن تاهت وتقطعت فيها السبل: أينَ هي سمر، فأنا لا أراها هنا؟
ـ لقد ذهبت إلى المكتبة لاستعارة بعض الكتب، ستأتي حالاً… أجابت الأم برأفة وبقليل من الهمة بعدَ أن رأت ابنتها في تحسن.
تنهض عبير بعدَ أن استعادت نشاطها، لتغسل وجهها الملائكي وتسرح شعرها الذهبي، فتضحك مجدداً ثمَ ترحب بهناء قائلة: أنا آسفة جداً يا عزيزتي، لقد شغلتك معي، فهذا ليسَ وقته، ولكن الموضوع كبير ولم أستطع استيعابه هكذا دفعة واحدة…. في تلكَ الأثناء يدخل وسام وهو يزأر كالأسد، دونَ خجل وبتهور ويقول:
ـ ما زلتِ لم تغيري ملابسك بعد؟! الناس في الخارج ينتظرون قدومك، هيا لا تجعليني أتخذ معكِ أسلوباً آخر، ثمَ أردف باستهتار: أنتِ تعرفينني يا… هيا افعلي ما أمرتك به.
تتقدم هناء منه ببطء كالشرطي وتقول بحماس وصدق: ما هذا يا وسام، انظر إلى أختك إنها لا تقوى على الوقوف، وأنت تطلب منها أن ترحب بضيوفكم! أنا استغرب من تصرفك هذا حقاً، ثم أردفت كالذي يعاتب أحداً: هناك أبوك وأمك، وستأتي أختك سمر قريباً، فلا داعي لوجود عبير إذن، دعها أرجوك، وأنا أعدك سأتكفل بأمرها، أرجوك…
طأطأ وسام رأسه كالحيران وهو يمشي في الغرفة من ركنٍ إلى ركن وكأنه يفكر بمسألة حسابية، صعبَ عليه حلها، عاقداً يديه خلفَ ظهره ليبدو كالمعلم وهو يمشي وسط طلابه؛.. ونظرَ إلى أخته باحتقار وقال:
ـ سأقتلها عاجلاً أم آجلاً، فأنا لم أعد أتحمل تصرفاتها غير المسؤولة، قالَ ذلك بإحساس غريب، كمن يخدع نفسه عن قصد! ثمَ خرجَ دونَ أن يلتفت وهو مكفهر الوجه كالغمامة، يدمدم… الشيطان نفسه سوفَ لن يخلصها مني… سأقتلها… ومن يراه في تلك اللحظة وهو هكذا حانق وقلبه يدق بقوة سيقول بأنَ هذا الرجل مستعد أن يقترف الآثام كلها الآن عن طيب خاطر!
يرحب أبو وسام بالضيوف مجاملاً وكأنه في حفلة فيقول: مرحباً، أهلاً وسهلاً بكم، لقد زارنا السعد والله، يرد عليه أبو سعيد مبتسماً، بشوشاً ووجهه يبدو جميلاً يدخل المسرة والفرحة على كل من حوله كالشجرة التي تغطيها الثلوج شتاء، وهو يقول: شكراً يا أخي أبا وسام، هذا من حسن ذوقك وكرم ضيافتك وعلو وسمو أخلاقك… عندها تدخل سمر المنزل باسمة، فرحة وكأنها تحفظ نكتة تريد أن تقولها… فترحب بالضيوف بحرارة، فيقف سعيد أمامها صامتاً، متأملاً وهو ينظر لها بعيون مفتوحة، مفتونة، واسعة فيقول:
ـ لقد انتظرنا قدومك يا سمر طويلاً. ترد عليه ضاحكة بغنج… وها أنا هنا، ثمَ أردفت: تفضل بالجلوس، وتصمت للحظة وكأنها تريد أن تتأكد من أنَ كلَ شيء على ما يرام، فتقول معتذرة: سأعود حالاً، وتوجهت لرؤية أختها…
دخلت سمر الغرفة لتجد أختها عبير في أحسن حال من الصفاء والانسجام معَ ضيفتهم، فتقترب من هناء وتقبلها وتقول:
ـ كم أنا سعيدة برؤيتك يا أختي العزيزة. ترد عليها هناء بكل أدب، وأنا أسعد يا أختاه.
تبدأ هناء بالاسترسال في الحديث معَ سمر بصوتٍ هادئ كصوت جريان النهر الصغير، ها… ما هو رأيك بأخي؟! تخفض سمر رأسها بينَ يديها وهي تقول:
ـ إنه لا يعاب على شيء، وسيم، متعلم، وسنه يعجبني كثيراً، ثمَ شرعت: الرجل يجب أن يكون قد خبرَ الحياة، كي يستطيع أن يحافظ عليّ،…
في هذه الأثناء انتبهت عبير لما يدور حولها من حديث؛ فصعقت من الذهول، وقفت فجأة وهي تصرخ ماذا أسمع؟ أكاد لا أصدق، فتتوجه إلى هناء وهي في حالة من الفزع والرهبة وتسألها بعمق وكأنها تقف عند كل كلمة تقولها:… أنتم… تريدون… أختي… لأخيك، وماذا عني؟ يا إلهي، شيء غريب يحدث، غير معقول، وبدأت ترطن بكلمات غير مفهومة وكأنها تهذي وقلبها يدق بعنف، ثمَ تردف: ولكن ماذا يعني إصرار أخي وأبي والضغط عليّ لأجل القبول؟ والقبول على منْ وعلى ماذا؟ إن كانَ أخوكِ يريد الزواج من سمر وليسَ مني…؟! ثمَ تردد باستنكار: ردوا على أسئلتي، قولوا لي كلمة واحدة، وماذا يدور حولي… آه… يا ربَّ، رأسي يكاد ينفجر…
تسمع هناء باستغراب شديد كالذي دخلَ منزلاً غير منزله، فتقول بتردد وارتباك: لابد أن هناك سوء فهم قد حصل، ثمَ أردفت دونَ تكلف بعدَ أن تشجعت قليلاً: أخي لا يريد الارتباط بكِ، وهو يحب سمر حد الجنون ومن أول نظرة عندما رآها في الجامعة ذات يوم وهو في زيارة لصديقة، لذلك قررَ أبي في حينها أن يمهد للموضوع، فتكلم معَ أبيك، ولكن قد يكون الأمر لبسهُ سوء الفهم، إذ أننا نجهل اسم سمر إلا منذ فترة قصيرة، لذلك أعتقد بأنَ أباك قد فهم النوايا على أنها موجهة لكِ وليسَ لسمر، ثمَ تضحك بصوت عال وتضحك معها سمر فتضحك عبير هي الأخرى…
يهرع الجميع إلى الغرفة ليتأكدوا مما يجري، وكان الضحك والقهقهات العالية تهزُ أركان المنزل كله وبقوة، كالضحكات التي يطلقها الجنرالات… هئ… هئ… هئ…
من مواليد بغداد 1965
مهندس زراعي، مقيم في ألمانيا منذ نحو 24 عاماً
متزوج ولي ولدان،
أصدرت عن دار شمس بالقاهرة مجموعتين قصصيتين هما:
- الهروب إلى الجحيم
- الموتى لا يتكلمون
ولي نتاج قصصي ثالث تحت التأليف بعنوان عجائب يا زمن.