درجت في الفترة الأخيرة أن أغادر على عجل من أمري، تاركاً الطيور البيض والنهر والأشجار، بعد أن تداهمني هالة الهموم، وأنا في أوج السعادة في اعتيادي اليومي هذا، ومعي صنارة الصيد، حتى الولد الرث الذي كثيراً ما حزنت عليه، لم أعد أرسم له في ذهني صورة العملاق المتحدي، وهو يقود حماره المتعب وعربته المتآكلة، وبدأت أسرع أكثر من اللازم لإخفاء صنارة الصيد بعد انهمار الأسئلة على ذهني، حيث أتيه وعالم الشجرة التي تظللني بأغصانها المتهدلة، وقد أفيق على زقزقات العصافير تتطاير من غصن إلى آخر على أني أعود، فأبحر كل مرة في وجهٍ ملكوتي أتفحصه داخل مخيلتي، وأريد أن أسر له ببعض مما أملك لكنني فوراً أحجم عن هذا، حتى الأغصان أظنها تحاول الإنصات كأن إحساساً غريباً ينتابني وتظل الهموم تهاجمني ـ أنا متأكد ومهما بحثت فلن أجد أحداً يهزّ رأسه أكثر منها علامة الإنصات، قبلها كان رجلاً هرماً أهابه يكرر كلمة رائع، وبمرور الوقت وجدت رائحة الزيف واضحة في كلمة الرجل الهرم، قد لا يعرف أنها مزيفة وهو مسكين ولا يعلم أني كشفت النقاب عنها في حيرة أحد المساءات، لكن (أنعام) بهدوئها الفائض عن الحاجة تستقبل حكاياتي بوجه لا يخلو من الصدق.. منها عرفت زيف الرجل الهرم ومنها أحببت عصافير الشجرة… غير أني ومعادلة شبه معقولة مع انفعال (أحلام) السريع جداً أقف ومئات الحلقات تتداخل أمامي مع التصميم الواثق في اكتشاف المزيد وهذه حقيقة لا أنكرها، منذ زمن بعيد وأنا أستعمل صنارة الصيد، كان أبي ينهرني بشدة، ويعدد مخاطر الأمواج والنهر وعالم الأسماك الغريب ويزيد عليّ بحكايات الغرق وأسماء الذين ابتلعتهم الأمواج..
كان مرّة أمام أخي الذي ابتلعت الحرب الضروس شيئاً منه ـ ألقى عليّ الجملة الكاملة وأوعدني ـ كإغراء منه ـ باختيار إحدى الفتاتين من أقارب أمي وراح أخي الجريح يوصيني هو الآخر في أشد حالات العبوس والتجهم، بيد أني أتساءل وأمارس مهنة الصيد وأرثي لأخي جرحه وأمكث ساعات طويلة، أدعو لأبي بالصبر والسلوان، وحين الرجوع أتحرى الطريق بصعوبة لانغمار المكان بالظلام الحالك..
وبعد مرور الأيام اكتشفت أسباباً إضافية لا أمتلك المزاج الكافي للغوص فيها، لأني في عجلة من أمري خاصة في الفترة الأخيرة، وبدأت أكتفي بإلقاء التحية العابرة على الرجل الهرم، رغم هذا فإني أعيد مرات عديدة سمفونية الرقص اللذيذ على أنغام تحرك صنارة الصيد وانفراج أزمة الصمت وسمكة ذهبية تشاكسني بقوة، فأتذكر وعد أبي وأحاول الثبات، ثم ينتابني الشعور المبهم وهالة الهموم، فأسرع بهجرة المكان..
قمر المساء بعناقه والشاطئ، وانفعال شفيف وسط قرصه يذكرني فجأة بأحلام وحركة أناملها السريعة، وهي تضرب الأوراق على طاولتها الخاصة وترمقني بابتسامة باهتة، غير أني أحب هدوءها المنفعل، وتلكزني ذكراها كلما أخفيت صنارة الصيد وانحدرت والشاطئ يحلو لي أن أكشف سري في ساحة أيّ امرأة، أشدد على الكتمان، وحينما غزتني الهموم وعكّرت مزاجي في الصيد وددت البوح في ساحة أنعام تلك الفتاة المتزنة جداً لكن أحجمت تماماً مثلما أحجمت في المرات السابقة مع أحلام وأحسست بالغربة تشدني إلى شجرة المساء والصبي الرث والعربة المتهرّئة، بيد أن أبي بدأ يأكل سمك النهر الطري ويعيد لي صنارة صيدي، حيث أهمل اختياره الأول…