قال تعالى:
(وَمَنْ يَخْرجُ مِن بيْتِهِ مهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثم يُدْرِكهُ المَوْت فَقَد وَقَعَ أَجْرهُ عَلَى الله).
ما أجلّ ديننا العظيم، تميّز بالشموليّة والتكامل، وحقّق التوازن في كافة مناحي الحياة، فاعتنى بفئات المجتمع مراعيًا ضعيفه وقويّه، فقيره وغنيّه، عليله وصحيحه، أسوده وأبيضه، رغم تباين أحوالهم واختلاف ظروفهم، وأقرّ اهتمامًا خاصًّا وعناية كريمة بذوي الاحتياجات الخاصة منذ بزوغ نوره .
فدعا الإسلام المعاق إلى الصبر، وشدّ من أزره على بلائه، ووعده أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلاً .
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسيّ الذي يرويه عن ربّه تبارك وتعالى أنه قال : (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيْه ـ يعني عينيه ـ فصبر، عوّضته عنهما الجنة).
بيد أن الصحابة رضوان الله عليهم ممن أصابتهم بعض الإعاقات، لم يركنوا إلى إعاقتهم، ولم يستغلوها حجة للخنوع أو الخضوع أو التكاسل، أو التقهقر، رغم ما رُخِّص ويسِّر لهم، وما خُفِّف ورُفِع عنهم، فكانوا السبّاقين في ساحات الوغى، المناطحين لسحائب المجد، المبارزين لصناديد الأعداء، المحاذين جنبًا إلى جنب مع غير المعاقين، الحريصين كلّ الحرص للمشاركة في ميادين الجهاد خروجاً إليها واستشهادًا في سبيل الله تعالى.
وفي ذلك أمثلة جمّة لا نكاد أن نحصيَها، فقد تناثرت أخبارهم في كتب السيرة وسجلات التاريخ، مزهوّة بمفاخرهم، معطّرة بأعمالهم التي بقيت شواهد لما ضمرت نيّاتهم، أو خفيت أفعالهم .
وضمرة بن أبي العيص أحد بني ليث، كان مصاب البصر، وموسرًا ثريًّا، لم يثنه مرضه، كما لم يعقه كفّ بصره عن تلبية نداء نفسه الأبيّة التي أشعلت فتيل الرغبة للقاء سيّد البشرية صلوات الله وسلامه عليه، طمعًا في الجهاد كرًّا وفرًّأ في سبيل الله تعالى، فاكتظ إصرارًا على أن يحظى بهذا الشرف…. غير أنّه حظي بتضاعف ذلك الشرف بنزول آية كريمة في حقّه وفي مواقفه المشرّفة.
فلمّا نزلت الآية الكريمة (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أُولِي الضَّرر…) (النساء 95)، ثمّ ترخّص عنها أناس من المساكين ممن بمكّة حتّى نزلت: (إنّ الذينَ تَوَفَّاهُم الملائكةُ ظالِمِي أنفسِهِمْ …) (النساء 97).. فقالوا: هذه مرجفة حتّى نزلت: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا) (النساء 98).. فقال ضمرة بن العيص: لئن كان ذهاب بَصَري إنّي لأستطيع الحيلة، لي مال ورقيق، احملوني، فحمل ودبّ وهو مريض، فأدركه الموت في الطريق، وهو عند التنعيم، قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه خالصة: (وَمَن يُهَاجِر في سَبَيلِ اللهِ يجدْ في الأرْضِ مُرَاغماً كثيراً وَسعَةً وَمَنْ يَخْرجُ مِن بيْتِهِ مهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثم يُدْرِكهُ المَوْت فَقَد وَقَعَ أَجْرهُ عَلَى الله) (النساء: 100).
وفي ذلك قال عكرمة: سمعت ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ يقول: طلبت اسم رجلٍ في القرآن وهو الذي خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله وهو ضَمرة بن أبي العيص .
نعم.. فقد خرج ضمرة بن العيص من هذه الدنيا مهاجرًا إلى الآخرة زاهدًا من حطامها، ثريًّا بعمله، كريمًا بنفسه .
فرحمة من الله تعالى عليه رضي الله عنه ومغفرة، وطوبى لمن استطاب نعيم الآخرة على الدنيا.