لم أعبأ كثيرا بتأفف المسافر الذي كان يقف أمامي وأنا من خلفه تلتصق حقيبة (اللابتوب) و(الكيس) البلاستيكي الذي وضعت فيه الشوكولاتة ولعبة أمير وماريا بظهره، فقد كنت بمعدل كل دقيقة أوكزه لأنني كنت أريد أن أتأكد هل تحرك الطابور المتقاطر الذي ينتظر فتح أبواب الطائرة للخروج!
في إحدى الوكزات، لم ترتطم يدي بشيء وإنما ترنحت في الهواء فعلمت أن الموكب بدأ يتحرك فبدأت بالسير بحذر شديد بين المقاعد جارّاً حقيبة ملابسي الصغيرة خلفي وممسكاً بـ (اللابتوب) و(الكيس) إياه وعصاي بيدي اليسرى، وكلما اقتربت من مقدمة الطائرة بدا واضحاً صوت المضيف المسكين المتسمر عند المخرج وهو يردد لكل مسافر يمر أمامه وبوتيرة ونبرة لا تتغيران أبداً: (أهلا وسهلاً.. حمد لله على السلامة… أهلا وسهلا حمد لله على السلامة.. أهلا وسهلا حمد لله على السلامة…).. وما أن لاح له طرف عصاي البيضاء من خلف ما أحمله من متاع حتى قال: (أهلا وسهلا وحمد…. آه. طيب. همم. تعال. في حد مستنيك؟)، وقبل أن أجيب: (عموماً خليك واقف جنب الباب شوي).
وقفت بجانب الباب خارج الطائرة والمسافرون يمرون من أمامي وأتابع هدير عجلات حقائبهم وهو يختفي رويداً رويداً مبتعدين نحو الجوازات.
سمعت خطوات قادمة بعكس الاتجاه تتهادى هابطةً نحو باب الطائرة ويصاحبها صرير خفيف على الأرض المعدنية للجسر المتحرك الرابط بين الطائرة ومبنى المطار، فأخذت بالاعتدال والإمساك جيداً بأغراضي وبدأت أخطو باتجاه القادم حتى إذا ما بات بيني وبينه بضع خطوات، بادرني بالقول: (يعطيك العافية.. حمد لله على السلامة…)، وبالكاد قلت: (الله يسلـ…) حتى أخذ بذراعي وبدأ يلفني وكأنه يفتح علبة (تونة) وهو يقول: (اقعد)، فقلت: (أين، يا راعاك الله!!..) (طبعا، يا راعاك الله في سري)، فقال: (على العرباي)!!
وبدون أي مفاجأة أو دهشة فقد ألفت هذه الحركات الكوميدية قلت له: (لا.. ما في داعي)، قال: (بتقدر تمشي؟؟؟)، فكرت قليلاً في أن أحيله إلى الموقف الذي نحن فيه حيث أنا أقف وقد مشيت للتو بضع خطوات نحو الكرسي المتحرك، ولكنني آثرت الصمت وقلت: (بمشي)، فقال: (طيب. خليني أشوف وين أودي هلكرسي…. يعني أكيد ما بدك تقعد؟)، فقلت: (والله ما بدي)، فأخذ مني الحقيبة الصغيرة وأجلسها على الكرسي وانطلق بي وبها نحو شباك الجوازات.
وحرصا مني على الخروج بسرعة من المطار تجنبا للمواقف الإضافية المعهودة قلت له: (أنا جوازي دبلوماسي يعني خلينا نروح للشباك المخصص لنا عشان السرعة).. فقال: (بعرف معاليك أنو جوازك دبلوماسي!)، وقبل أن أسأله كيف عرف والجواز في جيبي سارع بالقول: (أنا معاليك وصلت معاليك مرتين قبل هيك!)!
وبغض النظر أنني لست معاليك ولا معاليه ولا معاليهم، فإنني حقا لا أدري هل يظن صاحبنا أن الكفيف بعد سفرتين يصبح من ذوي الإعاقة الحركية فيحتاج إلى كرسي أم أنه قرأ مقالاً يفيد أن المكفوفين يسيرون على أعينهم لذلك وجب وضعهم على كراسي متحركة؟ أم تراه قال في نفسه: (وصلناه ماشي مرتين خليه يركب في الثالثة).
نعيماً.. وكله عند أمتنا الطيبة ماشي على قدمين أو بكرسي متحرك أو على جهاز المشي (تريد ميل).
تعقيب من الكاتب:
المشكلة عزيزي القارىء أنك لست في كل وقت لديك الطاقة والمزاج للشرح في مقام ضيق جداً، مجرد رفض الجلوس ولغة الجسد الممتعضة قد تسد حاجة لحظية ولكن الموضوع أكبر من أن يعالج بنصح فردي وحالة بحالة وإنما هناك حاجة ماسة لتدريبات عملية وتوعوية بعيداً عن الأسلوب التقليدي في المحاضرات وورش العمل.
سبق وأن تكلمنا ونصحنا وأحياناً انفعلنا ولكن كما قالت إحدى الناشطات الأمريكيات: (لما تعبت من توعية الآخرين بدأت أفرض نفسي وأنتزع حقي وأتكاتف مع أصحاب القضية ليفعلوا الشيء نفسه)، ليس يأساً وإنما تكتيك جديد يحافظ على قدرتك على التحمل وفي الوقت نفسه يراعي قلة المعرفة والخبرة لدى الآخرين، فكما أقول دائماً: (الناس ليسوا سيئي النوايا ولكنهم لا يعلمون)، والإنسان عدو ما يجهل وعدم المعرفة أخطر من المكابرة.
في إحدى المرات في مطار عربي جلست على الكرسي وألقيت بكل وزني عليه وأعقت حركته بقدمي حتى أصبح الموظف يلهث فقال: (معلش سؤال؟)، فقلت: (اسأل) فقال: (طيب مش حضرتك بتمشي؟) فقلت: (نعم) فقال: (فلماذا الكرسي؟) فقلت: (هل أدركت؟) فاعتذر وفرح عندما قمت وخف حمله.
أحيانا معايشة الموقف تكسر الصورة النمطية لدى الشخص أسرع من النصح.
باحث متخصص في الشؤون القانونية وحقوق الأشخاص المعاقين أحد المشاركين في صياغة نص الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين.
يحمل درجة الدكتوراه في القانون الجنائي من جامعة الإسكندرية (2002)، من مؤلفاته كتاب بعنوان: «الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الاتجاهات الطبية الحديثة»، صدر عن دار النشر الجديدة للنشرالإسكندرية في العام نفسه.
عمل منسقاً لمنطقة الشرق الأوسط للحقوق وكسب التأييد، منظمة هانديكاب إنترناشونال، عمان الأردن، وعضواً في مجلس أمناء المركز الوطني في الأردن.