إذا كان دور الإعلام قد ازداد أهمية في عصرنا الحاضر سواء منه التقليدي أو البديل حيث لم يعد يقتصر على نقل الأخبار والصور والمعلومات فحسب، بل أصبح ركيزة أساسية في منظومة صياغة القناعات والاختيارات وتكوين الرؤى والانطباعات وصناعة الرأي العام وبلورة التوجهات، فضلاً عن نشر الوعي والتثقيف والتعليم المرتبط بقضايا مختلف شرائح المجتمع وقضاياهم، إلا أن فئة الأشخاص في وضعية إعاقة ببلدنا لا تزال علاقتها بهذه السلطة الرابعة ملتبسة يشوبها الكثير من سوء الفهم بل والحيف أحياناً، فمن حين لآخر يقف النشطاء والمهتمون بمجال الإعاقة ومناصرو حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة على خرجات لبعض الإعلاميين ـ سامحهم الله ـ عوض رفد الاتجاهات الإيجابية للتمثيلات المجتمعية تجاه الإعاقة والأشخاص ذوي الإعاقة، حيث تأتي بعض المواد الصحفية وفي منابر مرموقة أحياناً بعيدة كل البعد عما خلص إليه التدافع الفكري المفاهيمي العالمي للإعاقة منذ عقدين، فمفهوم الإعاقة مثل الكثير من المفاهيم التي تتشابك وتتقاطع فيها العديد من العلوم الإنسانية والاجتماعية، هذا التدافع الذي خلُص للمقاربة الحقوقية التي تبنتها الاتفاقية الدولية للأشخاص ذوي إعاقة، كخلفية تٌعرف الإعاقة بكونها ترتبط بالبيئة المحيطة بالشخص المعاق أكثر من ارتباطها بالشخص ذاته؛ بحيث لم تعد الإعاقة مشكلة صحية فردية، فالمقاربة الاجتماعية المبنية على حقوق الإنسان نقلت التركيز على الحديث أو خلال الاشتغال على الإعاقة من الفرد إلى محيطه وبيئته، وأصبحت الإعاقة تتحدد من خلال علاقة تفاعلية بين الشخص بكل خصوصياته العضوية، ومحدودية النشاط الوظيفي وبين عوامل المحيط التي قد تكون ميسرة أو حاجزاً أمام المشاركة الكاملة والفعالة، كما تعتبر الإعاقة اليوم جزءاً من التنوع البشري وهي أحد المبادئ الثمانية الأساسية في الاتفاقية الدولية التي صادقت عليها المملكة المغربية.
وتتجه المقاربات الحقوقية التنموية اليوم إلى اعتبار الإعاقة قضية تندرج في صلب توجهات السياسات العمومية الوطنية والمحلية، وهو ما أكدت عليه المادة 34 من الدستور المغربي لسنة 2011، بشكل صريح وإلزامي، من خلال حث السلطات العمومية على التخطيط القبلي لمعالجة قضايا الإعاقة في كل السياسات والمخططات والبرامج العمومية، والعمل على تفادي كل تمييز أو إقصاء على أساس الإعاقة، من شأنه المس بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة.
وإذا كانت طبيعة علاقة الإعلام بالإعاقة ترتبط بالتطورات المجتمعية (نظرة المجتمع للشخص في وضعية إعاقة) وبالتطورات النفسية والحقوقية من جهة أخرى و(نظرة المعاق لنفسه كعنصر فاعل في المجتمع)، فإنه من المؤسف أنه رغم كل التراكمات الإيجابية فإن الفجوة ما زالت مهولة بين ما سبق من مكتسبات حقوقية وما تكرسه هذه بعض المعالجات الإعلامية لبعض القضايا السياسية والاجتماعية أو حتى الرياضية، التي تستعمل دونما علاقة في أحيان كثيرة عناوين تستخدم فيها الإعاقة كذم وشتيمة يقصد بها توصيف عنصر بالسوء والسلبية وجمل تتضمن عبارات مهينة ذات حمولة قدحية تسيء وتمس بكرامة الشخص في وضعية إعاقة، فكيف نصف مثلاً عنونة مقال حول تكهنات لتحالف تيارين سياسيين من إيديولوجيتين متصارعتين ولا تربطهما أية أواصر ويعيشان وضعيات معينة سيئة بعنوان من قبيل: (المكفوف يتحالف مع المشلول)!! هكذا… فأين نحن من نضوج الفكر الإنساني وتوسع مفهوم حقوق الإنسان ومبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة وأين نحن من دور الصحافة في تصحيح ما رسخته الأعمال الدرامية قديماً في التلفزة والسينما والمسرح، من صور سلبية تمييزية تغذي النظرة السلبية النمطية والدونية عن هذه الشريحة لا تنظر للشخص في وضعية إعاقة كشخص منفرد، بل كشخص ينتمي إلى مجموعة مرتبطة بالوسم بالعجز البديهي المفضي إلى التطبيع وتقبل إقصائهم وتهميشهم.
إن استمرار بعض الإعلاميين في تبني مقاربة متجاوزة وغارقة في السلبية المجانية إنما ترهن هذه الفئة بالتمثلات والمعتقدات السلبية السائدة في المجتمع والإدارة والمقاولة، فسطحية معالجة قضايا الاعاقة وتوظيف توصيفات وتعبيرات ذات مدلولات تمتح من المقاربات الإحسانية، كل هذه الأشياء للأسف تشكل وتكرس ثقافة لا تشجع الأشخاص في وضعية إعاقة على المشاركة في الحياة العامة بشكل عادل ومنصف، الشيء الذي يعيق إدماجهم ودمجهم الشامل؛ ويجعل الإعلام يبتعد عن دوره الرئيسي إلى جانب بقية المكونات الأخرى في إذكاء الوعي الحقوقي لدى الأشخاص في وضعية إعاقة وأسرهم وكافة الفئات المجتمعية وبناء ثقافة تحترم الاختلاف وتزيح الحواجز والاتجاهات السلبية، سواء كانت في المخيال الشعبي الجمعي أو التعليم أو الأسرة أو الشارع أو الإعلام… والتي تتعامل مع الاشخاص ذوي الإعاقة على أنهم مشكلة (المعاق = مشكلة) يجب حلها وكونهم مجرد مستقبلي خدمات يحتاجون للرعاية والمساعدة والوصاية.
ويجدر بنا التذكير هنا بأن المعنيين بهذا الإشكال يمثلون في المغرب 6,8% حسب البحث الوطني حول الإعاقة لسنة 2014، والذي من ضمن نتائجه أيضاً أن كل أسرة من أصل أربع أسر في المغرب معنية بالإعاقة.
فمتى يا ترى يؤدي الإعلام بكل أطيافه (سمعي ـ بصري ـ إلكتروني ـ اجتماعي…) دوره في تصحيح هذه الصورة على كل هذه المستويات كنوع من المناصرة الواعية والترافع المنتج بصفته آلية مباشرة للاتصال بالجماهير والمجتمعات، بدءاً بتملك ممتهنيه التمثل الجيد للأدبيات المبنية على المقاربة الحقوقية لقضية الإعاقة، مروراً بزوايا تناولها مما يحتم العمل على تعديل اتجاهات نظرة نساء ورجال الإعلام وتقوية أدائهم المهني الضروري لتحسين صورة الشخص في وضعية إعاقة في الإعلام.
ولن يتأتى هذا إلا باشتغال مكونات المجتمع المدني من منظمات الأشخاص في وضعية إعاقة والمنظمات الحقوقية إضافة إلى الهيئات الوطنية الراصدة للإعلام وفي مقدمتها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، المخول لها ـ إلى جانب مراقبة أداء أجهزة الإعلام في إطار قيامها بمهام المراقبة البعدية ـ إبداء الرأي في مشاريع المراسيم ومشاريع القوانين ومقترحات القوانين المتعلقة بقطاع الاتصال السمعي البصري للتأكد من أن مضمونها يحترم مبادئ حقوق الإنسان، كما تعد وتدرس دفاتر التحملات الخاصة بمن يطلبون استغلال إذاعة أو تلفزة والسهر على احترام كافة المتعهدين العموميين المعنيين للإطارات التنظيمية، هذه الهيئة التي يتوخى منها وضع مؤشرات قياس للصورة التي تعكسها وسائل الإعلام للإعاقة والمرأة المعاقة أسوة بما أنجزته بالنسبة لصورة المرأة في الإعلام، كما ينبغي التفكير في صيغ العمل المشترك بين الفاعلين والمهتمين في اتجاه إعداد ميثاق وطني لتحسين صورة الشخص في وضعية إعاقة في الإعلام المغربي، وتعزيز الولوج لخدماته.
إن دور الإعلام في بلدنا في نشر الوعي والتثقيف والتعليم المرتبط بقضايا المجتمع والنهوض بثقافة حقوق الإنسان لا يزال دون المستوى المأمول، على الرغم من الدور الذي يمكن أن يؤديه في تمكين الأشخاص في وضعية إعاقة وعلى الرغم من أنّ خبراء الإعلام يؤكدون وجود اهتمام محدود بموضوع الإعاقة منوط بالمناسبات، فإنهم يؤكدون أيضاً افتقار محرري الصحف للمعرفة الواضحة بمسميات ومصطلحات الإعاقة والمقاربات الصحيحة تجاهها ما قد يؤثر سلباً في اتجاهات جمهور القراء نحو هذه الفئة من المجتمع، خاصة في ظلّ وجود فجوة بين الإعلاميين والعاملين في مجال الإعاقة من حيث تبادل الآراء والخبرات.
الاهتمام بقضايا الإعاقة والأشخاص في وضعية إعاقة ليس ترفاً إعلامياً، ويجب ألّا يُنظر إليهم على أنهم شريحة صغيرة من المجتمع، بل هو واجب وطني وإنساني تمليه مصالح الوطن وسمعته كما تمليه احتياجات المواطنين في وضعية إعاقة وحقوقهم.