كَانَ نَشيطَاً وَيَتَمَتَعُ بِحَيَوِيَّةٍ مُمَيَّزَةِ، عَرفْتُهُ يَوْمَ بَدَأَ عَمَلِي فِي قِسْمٍ لأَمْرَاضِ الدَم فِي الجَامِعَةِ، كَانَ مَرِيضَاً وَلَكِنَهُ في الوَقْتِ نفسه أَحَدُ أَفْرَادِ ذَلِكَ القِسْمِ، الجَميعُ يَعْرِفُهُ، يُسَاعِدُ المُمَرِضَات، يُلاعِبُ الأَطْفَالَ الآخَرين، وَيُسلِّي الأطْفالَ الأَصْغَرَ مِنْهُ سنَّاً، يٌلاطفُ أَهلَ المَرْضى، وَيَعرفُ أَوقات إِعْطاءِ الدواءِ، كَانَ مَحبوبَاً، وَكَانَ يَعيشُ في عَالَمٍ خاصٍ مَعَ أصدقائهِ الأطفال في بيئةٍ هيَ المشفى، استَطَعْتُ بمرورِ الوقتِ أنْ أكونَ جزءاً منْ ذلكَ العالمِ الفريدِ بِفَرحهِ الحَزينِ، وَحُزنهِ الصَامتِ، بحريتهِ في الحلمِ، وحُلمهِ بالحريةِ مِنْ قُيُودِ المَرضِ.
إِنَّهُ عَمَّار طفلُ الثالثةَ عشرَ، الذي عايشَ الأطباءَ طويلاً منْ دونِ أنْ يدخلَ كليةَ الطبِّ، كانَ مُصابَاً بالداءِ الخبيثِ، وكانَ عليهِ أنْ يَتلقَّى العِلاجاتِ المديدةَ والمتكرِّرةَ في هذَا المكانِ المحدَّدِ وليسَ سواهُ، ومرَّةً بعدَ مرَّةٍ صارَ الصغيرُ يعرفُ ما لهُ وما عليهِ، يأتي منْ بيتهِ لوحدهِ، ويذهبُ للعيادةِ المختصةِ، ويأتي بأوراقهِ وملفَّاتهِ، ويجهِّزُ نفسَهُ للإبرِ والحقنِ، يعرفُ متى عليهِ شربُ الماءِ وتناولُ الطعامِ، كانَ طبيباً صغيراً لنفسهِ، ولكنَّ ما حوتْهُ نفسُهُ كانَ أكبرَ.
كانَ لعمَّارٍ ثلاثةُ أخوةٍ أصغرَ منهُ وقدِ ابتلوا جميعاً بذلكَ السرطانِ، وكانَ عمَّار بمثابةِ الأب لهمْ في أجواءِ المشفى، وكيفَ لا وهوَ الذي يخدمُ كلَّ منْ يحتاجُ منَ المرضى الآخرين.
رأيتُهُ ذاتَ يومٍ يحملُ طفلةً صغيرةً تبكي لأنَّ أمَّها غفلتْ عنْهَا لفترةٍ وجيزةٍ وهيَ تقبِّل ابنها الذي تمَّ تشخيصُ الداءِ لديهِ حديثاً، وهدأتْ الطفلةُ بينَ يديهِ وهيَ تنظرُ لابتساماتهِ ومناغاتهِ لها، كما شاهدتُهُ ذاتَ مرةٍ يحملُ كأسَ ماءٍ لمريضٍ لمْ يعدْ يستطيعُ انتظارَ الممرضةِ المنشغلةِ بتجهيزِ الدواءِ، وربَّما أبصرتُهُ أكثرَ منْ مرةٍ وهوَ يرافقُ ملائكةَ الرحمةِ بزيِّهنَ الأبيضِ المخططِ بالأزرقِ الهوائي مقدِّماً خدماتٍ تنمُّ عنْ قلبٍ كبيرٍ.
كنتُ أتساءَلُ في نفسي ألا يتعبُ ذلكَ الصغيرُ الذي يوشكُ الدَّاءُ أنْ يفتكَ بهِ؟، لمَاذا يفعلُ ذلكَ؟، هلْ يشعرُ بما يحدثُ أو سيحدثُ؟، هلْ يعرفُ ماذا يفعلُ؟، هلْ يحقُّ لنا أنْ نمنعَهُ عنْ أعمال تسعدهُ؟، كانتْ أسئلة كثيرة وكلّها محيِّرةٌ، كنتُ أرقبُهُ دونَ أنْ يشعرَ بمراقبتي وهو يأكلُ، وأرى كيفَ أنَّ نظراته تتطايرُ على صحونِ أصدقائهِ ليملأَ صحنَ هذا، ويطلبُ منْ ذاك أنْ يأكلَ، ويقطعُ الخبزَ ليقدِّمه لتلكَ، كنتُ أعرفُ أنْ السرطانَ يعيقُ الإنسانَ عن الكثيرِ منَ الأعمالِ، ولكنَّني تيقنتُ معَ عمَّار أنَّ الداءَ الخبيثَ لا يعيقُ الإنسانَ عنْ إنسانيتِهِ، لقدْ كنتُ أرى الفطرةَ السليمةَ تتجلَّى في وجهِ عمَّار الذي تساقطَ شعرُ رأسِهِ بفعلِ الأدويةِ، وكنتُ أراهُ كيفَ يتلقى الدواءَ بنفسٍ راضيةٍ مطمئنةٍ، لا بلْ يمازحني ويضحكُ معي قبلَ الحقنةِ وبعدَهَا.
كثيراً ما كنتُ أجلسُ معَ عمَّار في أوقاتِ الفراغِ فقدْ كانَ نافذةً لي إلى عالمِ الصغارِ الذي أحببتُهُ، وكانَ يشاركُنَا الحوارَ صغارٌ آخرونَ أحياناً، وكنتُ الصغيرَ الكبيرَ الوحيدَ بينَهُم رغمَ أنَّ عمَّار لمْ يعتبرني كذلكَ، كانتْ حكاياتي تسرُّ بعضَهُم، ولكنْ كانَ هناكَ شيءٌ أحاولُ أنْ أعثرَ على إجابةٍ عليهِ، لمْ تكنِ الإجابةُ في طيَّاتِ مجلَّدٍ أوْ كتابٍ، ولوْ كانتْ كذلكَ لسَهُلَ الأمرُ، ولمْ تكنْ أيضاً لتأتيَّ منْ عقلٍ يجيدُ الجمعَ والطرحَ، الإجابةُ كانتْ عندَ عمَّار.
سألتُ نفسي يوماً كيفَ ينظرُ عمَّارٌ للأطفالِ الآخرينَ؟، لأخوتِهِ الصغارِ؟، لا بلْ كيفَ يرى المصيرَ؟، وما هي صورتهُ في نفسِهِ الناصعةِ البياضِ؟، وكنتُ بتلكَ اللحظةِ أتذكَّرُ يومَ التقتْ عينايَ عيني عمَّارٍ وأنا أحاولُ تقديمَ العلاجِ في لحظاتِ فراقِ الطفلِ الوديعِ (نبيل)، فهِمَ مني يومَها أكثرَ مِمَا فَهِمَهُ أهلُ الطفلِ، لا بلْ أكثرَ مِمَا فهمَتْهُ ذواتُ اللباسِ الأبيضِ الباكياتِ منْ حولي، قرأتُ في أعماقِ عينيهِ ما لا أستطيعُ كتابتَهُ، وانتزعَ هوَ منْ عينيَّ ما لمْ أُرِدْ أنْ أبوحَ بهِ، دثَّرَ نفسَهُ بالغطاءِ الأبيضِ النظيفِ الذي طُبِعَ عليهِ شعارُ المشفى ونامَ، هكذا تهيأَ لي، ولكنْ ربَّما لمْ ينَمْ، ربَّما كانَ يفكِّرُ بشيءٍ آخرَ، ربَّما كانَ يتذكرُ أمَّهُ وأبَاهُ، ربَّما كانَ يحلمُ بدفترٍ مزركشٍ وألوان جميلةٍ هيَ أغلى ما تكونُ في تلكَ اللحظةِ، دعوتُ اللهَ أنْ يرى في الحلمِ ما يريدُ، وحلمتُ يقظاً بأنَّهُ سيرى نفسَهُ يحلِّقُ فوقَ الغاباتِ والحقولِ مرتدياً لباساً مطرَّزاً بالورودِ، يطيرُ ويحلِّقُ في عنانِ السماءِ، يطاولُ الكواكبَ والنجومَ وتأتيه نسماتُ هواءٍ عليلٍ تأخذُ منهُ الداءَ الوبيلَ بلا رجعةٍ، كنتُ أحلمُ عنهُ بشكلٍ غيرِ مشروعٍ، فالحلمُ البهي منْ حقِّهِ هوَ، ولكنْ…
كانَ يومَ أربعاءَ على ما أذكرُ، وكانَ ذلكَ اليومُ خاصَّاً بمراجعي عيادةِ الدَّمِ، ولمْ نفرغ منَ العملِ إلا في ساعةٍ متأخرةٍ، جلستُ بعدَها أتصفَّحُ كتيِّباً صغيراً في الغرفةِ المنزويةِ ذاتِ الواجهةِ البلُّوريَّةِ، جاءَ عمارٌ، سألتُهُ لماذا لمْ تنمْ حتَّى الآنَ يا صديقي؟
فأجابني: اليومُ هوَ يومُ الأربعاءِ، وفيهِ يأتينا أصدقاءُ جدد، ويجبُ أنْ أقومَ بواجبِهِمْ، قلتُ: باركَ اللهُ بكَ يا عمَّار وعافاكَ، سألني سؤالاً أيقظني رغمَ يقظتي، قالَ: هلْ صحيحٌ أنَّ الطفلَ محمَّد قدْ تعافى ولمْ يعدْ بحاجةٍ لأيِ دواءٍ؟، قلتُ لهُ: نعمْ، وعقبالك يا عمَّار، ذلكَ السؤال أشعرني أنَّ عمَّار يعرفُ الكثيرَ، إنَّهُ لا يفكِّرُ بلحظتهِ، إنَّهُ يعرفُ معنى الشفاءِ التامِ منَ الشفاءِ المؤقتِ أو عدمِ الشفاءِ، فكَّرتُ بذلك سريعاً، ووضعتُ الكتيبَ جانباً، واقتربتُ منهُ وسألتُهُ: ماذا تريدُ أنْ تصبحَ في المستقبلِ يا عمَّار؟، قالَ لي: أريدُكَ أنْ تصنعَ دواءً شافياً منَ السرطانِ لكلِّ الأطفالِ، بكيتُ منْ أعماقي في أعماقي وحاولتُ وضْعَ ستارٍ أمامَ تعابيري، علمتُ أنَّهُ يعلمُ ما نحاولُ أنْ نتناساهُ أو نخدعَ الآخرينَ بهِ بنيَّةٍ بيضاءَ، لمْ أكرِّر السؤالَ فقدْ فهمتُ رسالةَ الصغيرِ الكبيرِ الثاني، وبدأَ عقلي الباطنُ يعيدُ: كلّ الأطفال …كلّ الأطفال… كلّ الأطفال…، هلْ يقصدُ كلَّ الأطفال المصابين، أمْ أنَّهُ يعرفُ حقَّاً أنَّ أيَ طفلٍ يمكنُ أنْ يصابَ ـ لا سمحَ اللهُ ـ، لمْ أستطعْ بذكائي المحدودِ في تلكَ اللحظةِ أنْ أجزمَ بالإجابةِ، ولكنَّهُ أنقذني منَ الحيرةِ عندَما قالَ: متى ستبدأُ بمعالجةِ الطفلةِ سوسن يا عمُّو؟، لقدْ كانَ يحبُّ ويتألَّمُ لكلِّ الأطفالِ ويخشى عليهم، تلكَ هيَ الحقيقةُ التي يجبُ أنْ أصمتَ أمامَهَا، قلتُ لهُ: غداً صباحاً سنبدأُ علاجَهَا، ابتسمَ… وقالَ يا ربِّ اجعلْ مصيرَهَا مثلَ مصيرِ الطفلِ محمَّد، لقدْ أحببتُها يا عمُّو، وحزنتُ كثيراً لبكاءِ أمِّهَا عندما أخبرتموها باكتشافِ المرضِ لدى ابنتِهَا.
وضعتُ يدي على كتفهِ، وقلتُ لهُ: ألا تريدُ أنْ تنامَ؟، قالَ: لقدْ توفيَ أخي أحمد منذُ سنتين، وأخي منصور العامَ الماضي، وهذا العامُ سيموتُ أخي توفيق، وبعدَها الدورُ عليّ…
لمْ يستطعْ الستارُ الحديدي أنْ يحجبَ هذهِ المرَّة دموعي، وقفتُ… ووقفَ عمَّار… مشى قليلاً… والتفتَ بعدَها إليَّ، رأيتُ بسمةً لنْ أنساها على محيَّاهُ الشاحبِ… تابعَ خطواتهِ إلى سريرِهِ… تسمّرتُ واقفاً في مكاني… طأطأتُ رأسي… ولهجتُ بالدُّعاء.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.