لم أعرف لماذا كان عليّ أن أرى تلك الصبِيَة في القسم الذي عشقته ذلك اليوم، كان المكان مليئاً بالمواليد الجدد، كان صراخهم يداعب مسامعي، وينعش قلبي، كنت أتمايل طرباً لعيونهم تتفتح على النور لأوّل مرةٍ، كانوا أكبر من حلمي، كنت أحبّهم، وأحبّ كلّ من أحبّهم.
جاءت لتعكّر صفو أحلامي، وتكدّر صباحي، دخلتْ ولا أعرف ماذا عملتْ، ثم خرجتْ، قلتُ الحمد لله، ولكن ما لبث الصراخ أن صار ينبعث من خلف الباب، رأيت من خلال الزجاج الذي يتوسط الباب أنّها تحدّث أحدهم، بدأ الكلام يعلو، واللغط صار يضرب طبلة أذني، قلت في نفسي ما الأمر؟، نهضتُ واتجهتُ صوب الباب، فتحتُه، وببسمةٍ استقبلت الشخص الذي احمرّ وجهه وهو يجادلها، نظرت الطبيبة إليّ، عرفتُ أنّها تطلب مساعدتي، أشارت إلى زاوية الملف، عرفتُ أنّها تقصد فصائل الدم التي دوّنت هناك، عرفتُ أنّها ارتكبت الإثم، وخاضت المحظور، لقد كنت أوصي كل طبيب جديد يأتي إليّ بألا يغوص في شيءٍ لا يعرفه، حاولت تهدئة الموقف، تركني الرجل وهرب كالمجنون لا يرى طريقه، كان يتمتم بكلمة “طالق”..!!
ضبطتُ نفسي، وأحمد الله أنّ زمام عقلي كان لايزال في رأسي وليس بيدي، كتمتُ غضبي وتمالكت أعصابي، ركضتُ وراءه، أمسكتُ به، حاول التفلت منّي، أمسكته بقوةٍ، نظر إلى وجهي، كنت أبتسم رغم الموقف، كانت عيناه مليئتين بالدموع، وكانت وجنتاه مخضبتين بدم الخجل والحياء، قال: أرجوك اتركني، لا أريد المزيد من الفضائح، صار يدعو الله أن يرحمه من هذا العذاب، قال: سأذبحها، لن أكتفي بالطلاق على أن أغسل شرفي من العار، عليّ… وعليّ…
حافظت على ابتسامتي، نظر إلى لحيتي التي دشّن الشيب له مواقع فيها، كان كمن يحاول أن يرجوني، كان كسير القلب والخاطر، أمسكته من كتفه، هززته، وأخذته معي إلى مكتبي، أغلقتُ الباب، واتصلتُ بالممرضة بالهاتف وطلبت منها أن تحضر القهوة، دخلتْ بهدوء وهي تعلم أنّ وراء قهوتي كارثة، خرجتْ وأغلقتْ الباب، بقينا أنا وهو، انفجر بالبكاء، أعطيته المناديل الورقية، صار يمسح وجهه، قلت له ما المشكلة؟، قال: فصيلة الدم…، لعنها الله… الخائنة… سأذبحها… سأطلقها…، ماذا تريدون مني؟ … يكفيني إهانات….
قلت له: الحمد لله لم يكن أحد هناك… لم يرك أحد يا أخي… والآن أنت هنا… هذا هو ملفّ طفلك…، أسرع وقال… ليس طفلي… لا أريده… أنا أكرهه…، كان حلمي بطفل… هل تعلم يا دكتور أنّني انتظرته ثلاثة أعوامٍ، ثمّ جاء… ثمّ جاء… ولكن ليس مني… لعنها الله…، كنت أحبّها، وقدّمت لها كل شيءٍ… إنّها حقاً المرأة اللعينة…، سأذبحها، اتركني أذهب إليها… سأذبحها الآن… شعرت أنّه يريد أن يتحرك… أسرعت ماسكاً إياه… وأعدته للجلوس، جلس وصار يضرب يديه ببعضهما… قلت له: فصيلة دم زوجتك (ب) موجب، صح؟ هز رأسه موافقاً، والطفل (O) سالب، صح؟ قال: نعم… مصيبةٌ يا دكتور… كيف يحصل هذا؟ المجرمة تخونني… سأذبحها هي وكل أقاربها… سأعرف من هو… سألحقه ولو كان بعمري ثانية واحدة.
كنت واثقاً من نفسي لكثرة ما تكرّرت أمامي أحداثٌ مماثلةٌ، كنت أعرف أنّ في الأمر التباساً ما، كان الأمر ينتهي في الغالب بكل سهولةٍ، حاولت تهدئته، كنت حازماً هذه المرة، قلت له: اسمع… كفّ عن البكاء… الأمر ليس كما تتصوّر… وزوجتك ليست خائنة… كفاك اتهامات… لاتكن طفلاً، قال لي أنت تحاول مواساتي، أنا أعرفكم أيّها الأطباء تكذبون وتبررون وأنتم تعلمون الحقيقة، ولكنّني سمعت الحقيقة من الدكتورة قبل خروجك، ولا داعي لأن تزوّدني بكلامٍ دبلوماسي.
حدّثتُ نفسي: تلك المصيبة من أين جاءتني اليوم، وقلت له جازماً: اسمع نحن قبل أن نمارس المهنة نقسم، والله يشهد على ممارستنا لهذه المهنة، نحن لا نكذب، ولكن لا نسمح لأحدٍ أن يظلم غيره بناءً على أقوالنا التي قد تكون خاطئةً أحياناً، قال: تقصد أنً الدكتورة قد أخطأت، وشعرت أنّه الغريق الذي وجد ما ينقذه، قلت بثقةٍ: نعم، هذا ممكنٌ، الدكتورة قد تكون أخطأت، المخبر قد يكون أخطأ، الممرضة التي سجلت النتيجة يمكن أن تخطئ، أنت يمكن أن تكون قد فهمت بشكلٍ خاطئٍ، كلّنا يمكن أن نخطئ، ولكنّ الطفل طفلك… اسمعني… عاد للبكاء… قال: أتمنى أن أصدّقك، ولكن أعرف أنّه ليس ابني… الموت أرحم لي من هذه اللحظات.
نهضت واقفاً… قلت له ما فصيلة دمك؟، قال: (ب) موجب… ضحكتُ ملء فمي، وجلست جواره وضربت على ظهره، ذُهل الرجل وقال: ماذا هناك؟، أنت تهزأ مني أم ماذا؟، قلت له: معاذ الله أن أهزأ منك، أنا أضحك مما حصل، كيف تسمح لنفسك بأن تفعل ما فعلت؟، الولد ولدك، وهي زوجتك حبيبتك، وأنت حبيبها، نهضت وجلست خلف مكتبي، قلت له أنت فصيلة دمك (ب) موجب، وهي (ب) موجب، وهو (أو) سالب، ولا تناقض ولا تعارض في ذلك إطلاقاً، وكلّ أبنائك سيكونون بإذن الله إما (ب) موجب، أو (ب) سالب، أو (أو) موجب، أو (أو) سالب، وأنا سأعطيك ورقة رسمية بذلك، وهنا ساعدني كوني كنت أحمل بعض الألقاب، فرفعت رأسي ببعضها أمامه، وقلت له: أنا مسؤول عن كلامي أمام الله والناس وكل من تريد، ما رأيك؟.
التزم الصمت بسعادةٍ مكتومةٍ، قلت له ماهي دراستك؟، قال: علومٌ اقتصاديةٌ، وعمرك؟، قال: (30) سنةً، قلت له: “اجلس على هذا الكرسي جواري”، أخذت ورقةً، وصرت أشرح له فيها كيفية انتقال وراثة الفصائل الدموية، بدأ الرجل يفهمني، ومن ثم صار يفهم ما أقصد، أعدت الشرح مرتين، شعرت أنّه ارتخى، ومن ثمّ سقط على الأرض مغشيّاً عليه، أنعشته وأيقظته، ورفعت رجليه إلى الأعلى، ومن ثمّ أجلسته على سريرٍ مناسبٍ، صار يقول: الله يسامحها، الله يسامحها… قلت: من؟ … قال: الدكتورة…، قلت له: مبروكٌ عليك طفلك ونعم اصفح عنها لأجل عيون زوجتك ولأجل ولي عهدك…
ضحك… وضحك… ومرّت سنوات كان يزورني كلّ شهرٍ، مرّةً من أجل التطعيمات، ومرّةً من أجل السلام عليّ، كان ودوداً جداً معي، وكانت أسرته الصغيرة بمنتهى الروعة، وكان يقول لي: لك عليّ أن أدعو لك ما حييت…