كنت ولا زلت من المولعين بالناعورة الذين يدب الشوق لرؤيتها في عروقهم ويحتضن الحنين لصوتها خيالاتهم، لقد كانت لي ذكريات لا تنسى مع الناعورة، وفي الوقت نفسه ارتبطت قضية الإعاقة عندي بوشائج يصعب فك عراها، لقد أصبحت جزءاً من لحمي ودمي وكرست لها جهدي قبل قولي، وكنت أشعر بأن الناعورة بأنينها ترسم قضية الإعاقة، وبدورانها تمسح خرائط التاريخ المزيف لتصنع حقائق لا تمحى. نعم رأيت في خشبها العريان المغسول دوماً أكثر من حياة، رأيتها فلكاً تدور فيه كواكب الحياة لتصنع شمساً لبني الإنسان.
وقفت ذات مرة ألقي محاضرة حول تعامل الأعمى مع جهاز الحاسوب، كانت المناسبة مؤتمراً عالمياً حول الإعاقة، وكان المكان فندقاً فخماً في عاصمة لها مكانتها الخاصة في قلبي، وكان الوقت قبل صلاة الظهر، لقد كانت إحدى لوحات تلك المحاضرة صورة ناعورة، نعم ناعورة جاء دورها قبل الختام بقليل، وربما فاجأت الحضور الأكارم بها وكثير منهم لم يعرفها حتى يفهم قصدي منها، ولكني، وبصدق، شعرت بحاجة ماسة لها لتساعدني في التعبير عما يجول في خاطري من أفكار قد تفصح الناعورة عنها بأكثر مما أستطيع.
لم يكن الأمر مجرد وضع رمز لجغرافيا معينة هي عشقي الدائم، رغم أن الناعورة هي كذلك، فهي رمز فريد متميز، ونواعير حماة * * المنتشرة في ريفها كما المدينة تجاوزت حدود الذكرى لتصبح الرمز، وتجاوزت زوايا الرمز لتصبح خصباً وحياة، ولم يكن الأمر مجرد وضع صورة طبيعية لمنظر جميل، وأقول ثانية إن الناعورة هي كذلك أيضاً، فهي منظر بديع تقر به العين ويرتاح مع أنغامه السمع وتتحرك بحركته المشاعر دفاقة معطاءة وترتسم في العقل صور يصعب على اليراع وصفها، وتشعر النفس بكرم وجود وإيثار قلما يبعثه منظر آخر.
أيضاً، لم يكن الأمر استذكار درس في التاريخ، والناعورة امتداد مهذب جميل في الأعماق وتاريخ أصيل بحد ذاتها، إذن، لا هذا ولا ذاك، ولكن كل هذا وذاك وقبله ما هو أكثر.
لقد قلت يومها إن من يعمل في مجال خدمة قضية الإعاقة عليه أن يكون كالناعورة! كيف هذا؟ أيجوز لي أن أجعل الناعورة الجماد مثلاً لإنسان حي؟ كيف تجرأت على ذلك والحضور يسمعني ويرقبني؟ نعم، عليه أن يتخذها مثلاً، الإنسان بالطبع هو الأكرم بين خلق الله، ولكن لا مانع أن تكون رائحته عطرة كأريج الزهر، ولا مانع أن يكون جواداً كالمطر، ولا ضير في أن يكون الثلج الأبيض مثالاً على بياض قلبه وصفاء سريرته.
ناعورة حماة تتفرد بها حماة وهذه سمة أولى، فمن يعمل بالإعاقة عليه أن يعمل بأسلوب فريد وسلوك يجعله مبعثاً للفخر والفخار، وناعورة حماة متأصلة بأعماق التاريخ، وخدمة الإعاقة تحتاج لهذا البعد، كما تحتاج للاستمرارية والدوام على مر العصور لأن القضية لم ولن تنتهي، وهذه هي السمة الثانية، وتلك الناعورة لا تكل ولا تمل فهي تعمل على مدار ساعات الليل والنهار وطيلة أيام الأسبوع ولا تعترف بحواجز السنين، وإن توقفت لسبب ما فإن هذا يحدث رغماً عنها ويذوي عودها لذلك ويظلل الحزن أركانها ويخرس المكان وهذه هي سمة ثالثة.
تأخذ الناعورة ماء النهر لترفعه للأعلى حيث تأخذه السواقي لتروي به كل ظمآن، وهي لا تحتجز أي جزء من ذلك الماء لنفسها كأجر أو اتكار أو ضريبة بل تقدم كل ما أخذته من النهر، وإن تسرب جزء فإنه يعود للنهر، نعم للنهر وليس لمكان آخر، وهذه سمة رابعة.
والناعورة لم تدعي يوماً أنها مصدر الماء فهي تعرف ونحن نعرف أنها تأخذ من خيرات الله لتوزعها على عباده وهي بذلك لا تطلب مدحاً ولا ثناء رغم أنها تستحق، وهذه خامس السمات.
الناعورة بأصلها خشب مقطوع من شجر، وخشبها بالتالي فاقد للحياة إن لم يقم بواجبه النبيل، وهكذا جسد الإنسان ورغم أن الحياة تدب فيه، ولكنه إن توقف عن فعل الخير ورفد الحضارة فهو خشب وربما حجر وهذه سمة سادسة.
أما السمة السابعة فهي أن للناعورة محور في وسطها هو مركز ثقلها وهي تدور حوله، ولكنه هو الذي يحملها على ظهره ويخدمها ويأبى إلا أن يكون مطيعاً رغم أنه سيدها.
والسمة الثامنة هي أنها تدور بحركة تتجه نحو الخلف في أعلاها وتساير النهر في الأسفل، بمعنى أنه إذا كانت حركة ماء النهر من الجنوب إلى الشمال فإن الناعورة تدور من الشمال باتجاه الجنوب في الأعلى والعكس في الأسفل، ورغم ذلك فإنها تؤدي الواجب وتقوم بالدور المطلوب رغم أنها خالفت حركة النهر ظاهرياً في أعلاها، وهذا يعني أن لا ضرر في أن تأخذ أبعاد خدمة قضية الإعاقة أشكالاً قد تتناقض بظاهرها ما دام الهدف المنشود سيتحقق، وبالتالي لا يكون التناقض إلا انسجاما في واقعه.
وأمر آخر تمتاز به نواعير حماة ألا وهو كثرتها وانتشارها في الريف والمدينة على حد سواء، وهذه سمة تاسعة، وخدمة الإعاقة بحاجة للكثير كماً ونوعاً، كما أنه يلزم توزعها في كل التجمعات السكانية صغرت أم كبرت.
أما السمة العاشرة فتتلخص في أن الناعورة تحتوي على صناديق عديدة على محيطها وهي التي تحمل الماء من النهر لترفعه إلى الأعلى وهذه الصناديق تكون بحالات مختلفة، فبعضها قد امتلأ بطنه بالماء، وبعضها يصعد بالماء إلى الأعلى، وبعضها يضع الماء حيث يحب، وبعضها يهبط وقد استعد لغرف الماء، وبعضها يغرف الماء ويكرعه مؤقتاً ولكن لا أحد من تلك الصناديق يترفع على الآخر أو يسخر منه أو يذمه، ولا أحد يقول أنا فوق وأنتم تحت، فالكل يقوم بدوره على التتابع، والذي في الأعلى يأتي طوعاً للأسفل، والذي يأخذ الماء سيعطيه بعد قليل، والكل سواسية، وقضية الإعاقة بحاجة لنا جميعاً صغيرنا وكبيرنا وعلى اختلاف أعمالنا ومكانتنا، لأن كل واحد يستطيع أن يقدم ويعطي، وبهذه الصورة تكتمل صورة المجتمع البهية المشرقة وتصبح ناعورة الخير أكبر وأكبر.
أما معزوفتها الفريدة المتمثلة بصوتها الشجي فإنني لا أتجرأ كي أجعلها سمة لأنني أصغر من أن أفهم مغزاها ومعناها وسرها ومكنوناتها، لكن ما أنا متأكد منه هو أنها تبعث في النفوس النشوة والسرور ويحلو لمن يعمل في مجال الإعاقة أن يكون كذلك.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة)، تلك هي الرسالة، وفي طياتها ناعورة وأكثر * *
(*) الناعورة: اختراع بشري أصيل، وهي عبارة عن دولاب خشبي كبير يدور بقوة مياه النهر فيرفع الماء للأعلى ليصب في ساقية عالية توزع الماء على البيوت.
(* *) مدينة عريقة تقع في وسط سوريا، وقد حباها الله بمناخ رائع وطبيعة خلابة ومجتمع طيب وتشتهر باسم مدينة أبي الفداء.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.