لم تكن خطواتي تجاه شبة الجزيرة الآيبيرية عفوية… إنما خلاصة لسنوات طويلة من الإنتظار لشهر عسل لم يكتمل في تاريخه ومكانه، حيث تزوجت في الإنتفاضة الأولى في العام 1989، ولم يكن بالإمكان أن أحظى بشهر عسل مؤكد رغم وعود الزوج بأن إسبانيا ستكون مكان شهر العسل الموعود… دخلت الإنتفاضة بعد أشهر من الخطبة، فلم يكن بالإمكان الحديث عن مراسم زواج طبيعية، حيث كان الشهداء يرتقون واحداً تلو آخر وكافة الأراضي الفلسطينية تشهد انتفاضة عارمة يشارك فيها الصغير قبل الكبير في انتفاضة الحجارة والمولوتوف، جمعتها وحدة موقف جماهيري للدفاع عن الأرض الفلسطينية في وجه المحتل الغاصب.
مرت مراسم الزواج المختصرة، نلبس الثوب الأبيض، ثم نغطيه بعباءة سوداء، ثم تنتقل العروس بمدعوين محدودين من بيتها إلى بيت الزوج دون موسيقى ودون مراسم رسمية ودون أية زينة.
أستذكر الآن هذه التفاصيل انتظاراً للرحلة التي تحققت مع زوجي بعد 25 سنة، وإن كنا قد سافرنا إلى أمكنة أخرى إلا أن شهر العسل الموعود كان ينتظر…
القرار بالذهاب إلى إسبانيا في زحمة المشاغل جاء بعد تفوق ابنتي رندة وقبولها في برنامج تبادل تعليمي بين جامعة بيرزيت وجامعة دويستوا في إسبانيا، وكان من الضروري مرافقتها إلى وجهتها التعليمية. وتحقق الحلم.
وصلنا إلى مدينة بيل باو التي تقع في شمال إسبانيا، مدينة جميلة وادعة في إقليم الباسك، بيئة طبيعية ذات جودة عالية، بالإضافة إلى معايير جيدة جداً لجودة الحياة، سواء فيما يتعلق بالصحة والتعليم أو الإسكان أو الترفيه أو الرياضة ولديها الكثير من المؤسسات الأكاديمية ذات الجودة العالية، قضينا يومين في هذه المدينة الجميلة بعد أن رافقنا ابنتنا في تحضيراتها الجامعية والتحاقها وسكنها.
ثم انتقلنا إلى مدينة مدريد بمراكزها الأثرية. كانت الرحلة إلى مدريد ساحرة، الإنتقال بالقطار لمدة أربع ساعات والإستماع لموسيقى ساحرة ومشاهدة المناظر الخلابة التي اغدقت عليها الطبيعة مدن إسبانيا.
وصلنا في المساء إلى مدريد وانتقلنا سريعاً للإقامة في الفندق وسريعاً ذهبنا للتزود بأجمل الذكريات عن هذه المدينة.
اخترنا أن نزور أولاً الساحة العامة وهي موقع مركزي كبير في مدريد، عبارة عن ساحة كبيرة في وسط المدينة يلتقي فيها السياح والسكان المحليون، مليئة بالمقاهي الإسبانية والمطاعم المحلية، كان المكان يعج بالمتنزهين، شاهدنا العديد من الفرق الغجرية والبرامج الترفيهية للصغار والكبار، كما تنزهنا في شوارعها العريقة واخترنا مطعماً إسبانياً لتناول أكلة البقية وهي أكلة شعبية إسبانية، كما زرنا القصر الملكي وهو قصر ضخم يضم عدة حدائق خضراء، ويحوي 2800 غرفة ملكية، كانت تسكنه العائلة المالكة الإسبانية حتى منتصف القرن العشرين.
لكن المغامرة الأكبر كانت عندما انتقلنا إلى مدينة قرطبة، في الطريق أسهب زوجي في اطلاعي على عظمة التاريخ الإسلامي في مدن إسبانيا خاصة قرطبة، غرناطة، أشبيلية، طليطلة… كان زوجي يحفظ تاريخ الحضارة الإسلامية عن ظهر قلب، اخترنا أن نذهب باتجاه قرطبة لنصلها كأول مدينة في الجنوب لأن الوقت لن يتسع لزيارة كافة هذه الأماكن. أول ما وطأت قدماي مدينة قرطبة… عشقت المكان فالفندق الذي وقع اختيارنا عليه هو أثر إسلامي واضح، بنقوشه وأثاثه وديكوراته ورسومه. استقبلتنا في الفندق مسؤولة الإستقبال، وجه بشوش ناجح في استقطاب السائحين إلى هذا المكان الجميل… شرحت لنا أهم الأماكن التي يجب زيارتها أولها مسجد قرطبة وهو أحد أشهر المعالم الأثرية للعمارة الإسلامية في إسبانيا، مسجد أموي حوله الإسبان بعد سقوط الأندلس في عهد الملك كارلوس الأول إلى كاتدرائية دون هدم المسجد، للمكان قيمة ثقافية وتراثية. ارتياد أمكنة سياحية أخرى مثل قلعة الكازار، متحف قرطبة الأثري، برج كالاهور والذهاب لمشاهدة رقصة الفلامنغو، كما ارتياد الحمامات الإسلامية القديمة… لم أحس بنفسي عندما بدات أمشي بلا وعي في المكان… وأشجار البرتقال وأزاهيره تعبق بسحر خاص.. أحسست بأرواح من كان يسكنه من أرواح أجدادنا… والأبنية الرائعة التي تركوها خلفهم. مشيت طويلاً وأنا أشاهد القناطر التي نصبت في مركز المدينة وأشعة الشمس وهي تنكسر على الآثار الإسلامية الجميلة وبدات التقط الصور لأترك بعضاً من السحر الروحي الذي خلفه المكان في داخلي.
قضينا يومين في قرطبة… سلبت روحي عندما قررنا المغادرة إلى وجهة أخرى… إلى غرناطة.
وصلنا إلى مدينة غرناطة بالقطار أيضاً، اخترنا فندقاً جميلاً أيضاً يشع بسحر التاريخ، وكان لزاماً أن نحجز قبل وصولنا للمدينة لمشاهدة قصر الحمراء وهو من أشهر الأماكن الأثرية في العالم، من أجل أن نحظى بدور كان علينا أن تنتظر ساعات طويلة، حجزنا قبل وصولنا إلى غرناطة وبلغنا أن علينا التواجد في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً.
تجولنا في القصر لمشاهدة هذا الصرح المعماري الذي يعتبر أشهر صرح معماري حي للهندسة الإسلامية في العالم الغربي، حيث يزدان مبناه بالنقوش الزخرفية والآيات القرآنية والأدعية. ذهلنا من جمال الأبنية والنقوش وفن العمارة الإسلامية والحدائق الغناء المجاورة للقصر… وبدأ زوجي بالإسهاب في تذكر بعض المفاصل الرئيسية في التاريخ عندما بكى عبد الله الصغير عند تسليم غرناطة كان مشهداً درامياً وحزيناً جداً، كما تقول روايات التاريخ… إذ سار السلطان المنكسر أبو عبدالله الصغير مع نفر من أتباعه إلى خارج المدينة، ووقف على جسر نهرشنيل لملاقاة الموكب الملكي القشتالي المنتصر.. ثم ما لبث لدى وصول الملك الكاثوليكي أن تقدم منه وأمر وزيره يوسف بن كماشة بتسليم مفتاح المدينة التي قاومت لأكثر من مئتي عام، مطيلة بذلك الوجود العربي والإسلامي في الأندلس بعدما سقطت في منتصف القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي كل ولايات الأندلس الشرقية والوسطى والغربية ثم تابع أبوعبدالله الصغير سيره الوئيد حتى وصل تل البذول (بادول) المشرف على غرناطة… واستدار نحو المدينة العربية الآفلة مرددا عبارة: (الله أكبر.. الله أكبر.. إنه قدرك يا رب العالمين)… وإذا بالدموع الساخنة تطفر من عينيه في الحال. وإزاء هذا المشهد الصعب، تقدمت منه أمه بجسارة وبسالة قائلة: (ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال).
خرجنا من القصر متأثرين وحزينين وتمشينا في الأحياء القديمة في المدينة… في غرناطة تشاهد العديد من الأحياء منهم الحي العربي وتجد العديد من المقاهي والمطاعم التي يديرها عرب من دول متعددة؛ سوريا، العراق وغيرها ولكن أغلبهم من المغرب الشقيق حيث التقينا بالعديد منهم الذين أعطوا للمكان نكهة جميلة ودفئاً إنسانياً لا ينسى، التقينا وجه سمير الشاب المغربي الوسيم الذي تمنى علينا أن نرسل له زعتراً أخضر من فلسطين. يدير سمير مقهى لرجل أعمال عراقي يسمح بتدخين النارجيلة في المكان بينما يمنع تدخين السجائر!!.
غادرنا إلى مدينة برشلونة التي يعشقها السائحون لجمالها ولارتباطها بالفريق الرياضي الشهير وقمنا بالتجول في أسواقها واقتربنا من ملعبها المركزي خلال مباراة برشلونة مع فريق بلباو.
عدنا إلى مدينة (بيل باو) قبل مغادرتنا إلى أرض الوطن شاهدنا في طريق العودة أشجار الزيتون المترامية على جنبات الطريق… وأصابنا الحزن لأننا بعد يومين سنغادر مدن إسبانيا…
كانت رحلة رائعة بكل معنى الكلمة، أحسسنا بالتصاق غريب بالمكان ربما لأن أرواح أجدادنا كانت تطوف حولنا… تحرسنا وتقودنا إلى خطواتهم الثابتة التي خطوها في الماضي،.. وأصابتنا الحسرة على أيام عز كانت لنا…
وداعا إسبانيا وأمل بلقاء قريب.
كاتبة فلسطينية
1 تعليق
Pingback: مسجد المنال - أصغر مسجد في الإمارات - قريب المنال - YouTube