(رحلة من الجنوب إلى الجنوب) قصة واقعية تؤرخ أحداث المجازر الإسرائيلية التي وقعت في جنوب لبنان في شهر يوليو، سنة 2006.
لماذا رحلة من الجنوب إلى الجنوب هل هو هروب من الجنوب بحثا عن اتجاه آخر؟ هل الجنوب جحيم ودائرته مغلقة لا يمكن أن يخرج منها؟ أم أن البوصلة كانت معطلة فكانت تشير إلى الجنوب في كل اتجاه؟
ينقلنا المبدع سليم صابر في هذه الرحلة كي نكون شاهدين… أو بالأحرى متهمين… فهذه الرحلة يهديها إلى الأطفال الأبرياء هؤلاء الذين استشهدوا في لبنان وقد يبزغ السؤال لماذا الأطفال بالذات؟ هذا ما سنعرفه عندما نرفع الستار عن قصة تتكون من عدة رؤى. رؤية تأخذك إلى رؤية كأنه يرسم رحلة أخرى لرحلة حياة فشلت.
أعددنا العدة لا نحمل معنا غير عينين وقلباً وأرواحاً تحرك هذه الأجساد كي نشعل فتيلة السؤال؟ ونرحل مع الكاتب في رحلة من الجنوب إلى الجنوب يستوقفنا العنوان الذي يتكون من أربع كلمات (من الجنوب إلى الجنوب): حرف واسم وحرف ثم اسم.
(من) حرف جر تعني الابتداء يجرنا الحرف إلى اسم (الجنوب) فيكون مجروراً بالكسر والألم أما (إلى) فهي الأخرى حرف جر تدل على الانتهاء يليه اسم (الجنوب) وكما قلنا سابقاً يحمل نفس صفات الجنوب حيث يمكن اختزال العنوان في كلمة واحدة وهو الجنوب ما دامت من وإلى فشلتا في تحقيق وظيفتهما فلا (من) كانت ابتداء ولا (إلى) كانت انتهاء في التوجه لكنهما حققا وظيفة سلبية هي ابتداء العذاب وانتهاء الحياة في الرحلة أو في نفس المكان.
قصة من الجنوب إلى الجنوب يرويها لنا طفل صغير كان يعيش مع أفراد أسرته في أمن وسلام فجأة انقلبت حياته رأساً على عقب، ليجد نفسه بدون بيت، وبدون والدين.
تكفل به جده الذي عمل جاهداً أن يبقى حفيده حياً رغم الظروف القاسية فاقترح عليه أن يرحلا بعيداً عن الجنوب واضعين شارة السلام.
وتستمر المعاناة كلما توغلا في الجنوب اقترب منها الموت حيث لبس أقنعة من القذائف حاولا أن يهربا من سمائه لكنه كان يجهل معنى الحياة يجهل أو يتجاهل كل رموز السلام…
مشاهد رحلة من الجنوب إلى الجنوب:
المشهد الأول: سكون الليل وحالة الناس والأشياء. اليوم الثالث الساعة الواحدة
المشهد الثاني: وصف غرفة الطابق السفلي والناس نيام اليوم الثالث
المشهد الثالث: لماذا رحلتي من الجنوب إلى الجنوب؟ اليوم الأول والثاني
المشهد الرابع: الوصول إلى مركز الأطفال اليوم الثالث
المشهد الخامس: العودة من رحلة الجنوب إلى رحلة الواقع اليوم الثالث (الساعة الواحدة ليلاً بقليل).
مفاتيح (من الجنوب إلى الجنوب)
لكل نص مفاتيحه التي لا بد للقارئ أن يتوفر عليها فهي مختبئة في مكان ما من النص إذا استطعنا أن نجدها سنفتح كل الأبواب الممكنة وغير الممكنة. في هذا النص وجدنا عدة مفاتيح متناثرة هنا وهناك من الجنوب إلى الجنوب وهي كالتالي:
الحرارة
يذكر الراوي هذه الكلمة للدلالة على شدة الحر، ففي تموز / يوليو يشتد الحر لكن هنا حرارة أخرى بفعل القذائف، لنتأمل مع الراوي التعابير التالية:
ـ نسمة هواء عابرة تلتهب سخونة وكأنها آتية من جحيم الأرض.
ـ حمم تموز الحارقة لا وقت لها ولا سحاب.
ـ الريح القادمة برائحة البارود.
ـ شعرت بحرارة قوية تجتاح جسدي لينقلب بلحظات من الاحمرار إلى السواد القاتم أهذا أنا؟
الخوف والرعب
نلاحظ أن الراوي يستعمل المرادفين خوف / رعب
ـ ظل الخوف يبيت في الأرواح، ولا تكترث الأعين لمناظر الدمار المنتشر في الأرجاء.
ـ خيّم الرعب، هذا الغائب الحاضر دوماً.
ـ والرعب قد سيطر عليّ كلياً.
الكذب
وقد ذكر الراوي كلمة الكذب عدة مرات كي يصور لنا حجم الكذب الذي يلف العالم بأسره وليس الجنوب فقط…
ـ لا أدري من أُصَدّق… فالكل هنا يكذب!
ـ عيونهم كاذبة، لا تدعك تستخلص ما تُعَبِّر عنه أفكارهم.
ـ نظراتهم كاذبة، يسيطر عليها الخوف ويكابرون.
ـ خطواتهم كاذبة، لا تنم عن ثبات أرجلهم المتهاوية.
ـ بسماتهم الصفراوية كاذبة، تبين على وجوههم الواجمة بشكل متصنّع.
ـ حركاتهم كاذبة، ليس لها أي هدف يذكر، وكأنهم لا يدرون ما يفعلون.
ـ كلماتهم كاذبة، يقولونها بلا اقتناع ولا تُفهم معانيها.
ـ غريب هذا الشعور بالكذب الذي يجتاحني من أقاصيّ إلى أقاصيّ.
ـ لم أرَ يوماً جدي يكذب عليّ كما يفعل الآن.
ـ أصبحت أشكك بالجميع ولا أريد أن أصدق أحداً.
ـ منذ تلك اللحظة قررت ألا أصدق أحداً بتاتاً ورحت أبني بيتاً في الأحلام لا يدخل إليه أحد سواي.
التعب
يصور لنا الراوي الحالة التي يعيشها أهل الجنوب بفعل القصف والأفكار المشوشة وعدم التركيز بسبب الخوف من الموت:
ـ الصدور المنهكة.
ـ أنهكهم نهار قاصف طويل ومليء بالشظايا والغبار. أنهكتهم أفكار مرعبة من احتمالية موت مفاجئ.
ـ أنهكتهم تفاصيل كثيرة تعرّفوا عليها واكتشفوها خلال هذه الأيام القليلة الماضية ولم يتعوَّدوا عليها بعد.
ـ والحقيقة أنني كنت منهكاً من المشي وأردت الاستراحة بعض الشيء.
الغربة
يستغرب الراوي ويشك في هذه السكينة التي تخيم على هذا الجنوب وهو في ذات الوقت يتساءل عن صحة ما يشعر به….
ـ غريب هذا الشعور بالسكينة الذي يخيم على القرية ونحن نقطعها من أقاصيها إلى أقاصيها.
ـ غريب هذا الشعور بالرعب
سذاجة الجد
هل فعلاً يمكن لشارة بيضاء أن تقيهم القذائف وأن تقف في وجه الموت كي تمنحهم الحياة؟ الراوي يكذب ذلك ويستهزئ من كل أفكار الكبار (الجد نموذجاً).
ـ تأكدت أنه يحاول إخفاء أمر مهم حين أوثق رباط تلك الخرقة البيضاء قائلاً بأنها ستحمينا من القذائف ومن لغة الطائرات المقاتلة.
ـ هؤلاء القوم أخطأوا لأنهم لم يضعوا الشارة البيضاء مثلنا، وعليك ألا تتخلى عنها أبداً وأن تتركها على زندك حتى نصل وجهتنا، وتذكر أن هذه الشارة البيضاء هي التي تحميك من القذائف.
عدم احترام قواعد الحرب
ـ قتل العجزة: الجد
ـ قتل النساء: أم الطفل
ـ قتل الأطفال: الصور الدرامية التي نقلها السارد وهو يهرب من الجنوب.
حركتا الزمن السردي
اعتمد الكاتب سليم صابر على تقنيتين وهما:
أ ـ الاسترجاع: أي سرد حوادث وأقوال وأفعال حدثت في الماضي حيث يعيد السارد تذكرها كي تكون حاضرة في الواقع الروائي.
ولعل هذا الاسترجاع يبدأ بجملة جاءت على لسان الراوي: لماذا الرحلة من الجنوب إلى الجنوب؟ ويستمر في سرد الحكاية إلى أن يصل إلى قوله: آه من بيت الأحلام كم يشبه منزلي.
أما إذا أردنا أن نحدده بالساعة فهو كالتالي: يذكر الراوي الزمن ويحدده فيختزل لنا أحداث ثلاثة أيام في زمن وجيز يبدأ بـ (الكل نيام والساعة لم تتجاوز الواحدة صباحاً بعد).
وينتهي بقوله: تجاوزت الساعة الواحدة ليلا بقليل ولا زلت أحلم مُفَتّح العيون كي يلقى حتفه وكأن تلك القذيفة كانت تنظر أن ينهي كلامه وتنتهي بذلك أحلامه كأنه عقاب لأنه تكلم وكلام الراوي هنا ليس أي كلام عابر.
أما التقنية الثانية التي لجأ إليها وباقتضاب فهي:
ب ـ الاستشراف: أو ما يعرف في اصطلاح سعيد يقطين بالاستباق (prolepse)، وهو (حكي شيء قبل وقوعه).
يقول الراوي في أول النص:
ماذا لو أن القذائف أتت لتنام بالقرب منا؟
وفي خاتمة النص يقول:
نعم لم أصدقهم بأن القذائف لا تأتي لتنام بالقرب منا، فها هي تدخل دون أن تقرع الباب!
الزمان: في قصة (من الجنوب إلى الجنوب) لحظات قصيرة قد تبدو لنا بفعل ما شاهده البطل شهراً أو أياما معدودة كما حددها الراوي ثلاث أيام لكن عند استحضارها يحددها في زمن وجيز.
(قبل الساعة الواحدة وبعد الساعة الواحدة بقليل).
المكان: يلتحم مع الزمان ويمكن بذلك أن نسميه زمكانية بالرغم من شساعة الجنوب حيث نراه ممتداً لا ينتهي وكأن لعنة تموز حلت عليه، ونشاهد في ذاكرة الراوي ما حدث في هذا الجنوب:
تهديم المنازل، سفر البطل من القرية الأولى إلى القرية الثانية (قانا) ثم وصف الغرفة التي اجتمع فيها كل الأطفال في المركز.
البنية اللغوية:
أ ـ الوصف
استطاع الكاتب سليم صابر أن يجعل القارئ يشارك في كتابة النص ونقل الحدث من خلال توظيفه لتقنية الوصف كعنصر من عناصر البنية اللغوية: ونسوق أمثلة على ذلك قول الراوي حيث وصف لنا بدقة متناهية نتائج هذه المجزرة:
… أجساد مشلّعة بلا رؤوس –
أشلاء من أقدام وسواعد صغيرة وطرية متناثرة –
يد ترسم علامة النصر ـ أصبعين ـ
عين نافرة ترمقني باستمرار –
شفة سقطت عن الوجنة ـ
رجل داست الأرض وحدها فلم تجد لها جسدا يخطو معها –
قبضة يد بقيت معلقة على سياج الشاحنة بعناء –
شاحنة متفحّمة يملؤها السواد –
لا أدري كم عدد الناس الذين يقطنون هذه الشاحنة ولكنهم كثر نظراً للأجساد المرميات ـ
أتفرّس ملامح تلك الوجوه الطفولية بأشلاء أجسادها المقطّعة، وخيل إليّ بأنها تضحك لي.
ب ـ الدلالات السيميائية لتموز:
لعل تموز هو أكثر كلمة ذكرها الكاتب في النص وله أكثر من دلالة: ويعتمد على مرجعيات سيميائية كثيرة فإذا كان تموز رمز الخصب والنماء فإنه في هذا النص يصبح رمزاً للدمار والحرب. ما سبب هذا التحول؟
ننقل بعض ما جاء في نص (رحلة من الجنوب إلى الجنوب):
(حمم تموز الحارقة لا وقت لها ولا سحاب) تموز يصبح سماء غاضبة ترسل حمما بدون سحاب
(ولماذا يمطرنا تموز بوابل من الصواريخ)..
هل فعلاً تموز هو الذي أمطرهم بهذه الصواريخ؟ أم هي عين الطفل ترى الأشياء رؤية أخرى؟ أم لأنه لا يعرف الحقيقة ألم يقل أنهم كاذبون وأنه لم يصدق أحداً.
(مسكين جدي لم تنفعه الشارة البيضاء وقضى هو أيضا في لهيب تموز).
هنا نجد الراوي يسخر من كل شيء ويحاول أن يفكر بمنطق، لكن لا منطق للحرب، لن تجدي الألوان نفعاً فالأبيض الذي جعله جده شارة للسلام لم ينجه من لهيب القذائف.
(تموز شهر بغيض) وفي نهاية المطاف يصبح تموز زمناً (شهراً بغيضاً) ربما للدلالة على أن الحرب استمرت أكثر من شهر.
لكن هل الشهر هو المسؤول؟ كيف يلقي التهمة عليه؟ هل لأنه طفل ووحيد ولا يعرف غير هذا الشهر الذي استمر معه في الجنوب يرقب الزمن؟ فالليل الذي أكد أنه ساكن في البداية لم يعد ساكناً بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة ليلاً بقليل حيث أتت القنابل كي تنام بالقرب منهم و يا ليتها نامت في هدوء…
لسنا ندري لماذا يتحول تموز إلى رمز الدمار وكأنه يدحض كل ما تداولته الأساطير عن تموز، فقط نود الإشارة إلى أنه نزل إلى العالم السفلي فلم يرض بهذا القرار من عشتار وكأنه صب جام غضبه على هذا الجنوب.
خاتمة:
استطاع الكاتب في هذا النص أن يجعلنا نتحد مع المجتمع في الجنوب وخاصة الأطفال الذين رسمهم بريشة البصر والبصيرة.
فالبطل النموذجي في قصة (من الجنوب إلى الجنوب) طفل يبحث عن الأمان المفقود طفل ليس كالأطفال حيث يسأل ويشك ويميز الصدق من الكذب يذكرنا بحنظلة الشاهد الذي رسمه الفنان الكاريكاتيري ناجي العلي فيجعلنا شاهدين على عصر جن فيه الإنسان والأشياء فنجده يلغي كل الكبار لا يصدقهم وفي النهاية يحلم ببيت ما دام بيتهم هدم، ويحلم بصديقيه سامر ومنال…… (قد أدخل إليه سامر الذي فقد رجله بقذيفة منذ عدة سنوات، فهو صادق ووحيد مثلي. أو أدخل إليه أيضاً منال التي تضحك باستمرار وقلبها الأبيض لا يسع للكذب مكاناً).
لأن الأطفال لا يكذبون ولا يد لهم في هذه الحرب والمجازر فلماذا تحصد أرواحهم؟
تنامت الحركة في النص بوتيرة عالية حيث تبدأ بفعل سكن من السكينة وهي الهدوء بعد نهار قاصف. وفي الليل تسكن الكائنات قبل الساعة الواحدة كما ورد في (رحلة من الجنوب إلى الجنوب) لكنه لا يستمر في هذا الوضع حيث يرمي السارد بحجرة في بحيرة الذاكرة فتنفجر الدوائر وبعده يأتي القصف فلم يعد السقف آمناً – حتى ولو كانت الغرفة التي تستضيفهم في الأسفل ـ ويدوي رعد القذائف وتشتعل النيران وتصرخ الكائنات…
ملاحظات:
ـ استعمال لغة تنهل من اليومي بعيداً عن الصنعة اللغوية، لكنها تتميز أيضاً بانتقائية المفردات، فكانت رحلة من الجنوب إلى الجنوب لوحة رسمها الكاتب سليم صابر بريشة الألم.
ـ تكرار المفردات وقد سقنا عدة أمثلة على ذلك خاصة في نقلنا لمفاتيح (رحلة من الجنوب على الجنوب) – استعمال الذروة المضادة في نهاية النص وهو ما يسمى (anti climax) وهي سلسلة من الأحداث التي تتبع ذروة التصاعد في الأحداث وتقطعه بصورة غير محببة لأنها تكسر الإثارة في المشاهد أو المتلقي.
وقد ختم الكاتب النص بالملاحظة التالية:
(تناقلت الإذاعات والقنوات المرئية في اليوم التالي خبر مجزرة إسرائيلية ثانية وقعت مجدداً في قانا راح ضحيتها ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين طفلاً في مركز للمعوقين بُنِيَ بعد مجزرة قانا الأولى في العام 96 ليعيد التاريخ نفسه. ألا يقال أن المجرم يعود دوما إلى مسرح الجريمة؟!).