تعد المقامة من أهم فنون الادب العربي، استقى فرسانها عبير الخيال، فأمادوا درر المغاني بالألفاظ المزينة بالإبداع مؤنقة بالتسجيع. وهي تعني في اللغة مجلس القبيلة كما قال زهير:
وفيهن مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل
كما دلت على الجماعة في الجاهلية حيث قال لبيد:
وَمَقَامَة ٍ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأنَّهُمْ
جِنٌّ لدَى طَرَفِ الحَصِيرِ قِيَامُ
وفي الاسلام دلت على الوعظ التماساً، أو على موضع القيام قال تعالى: (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى).
كذلك تعني الحديث والمحاضرة، وساهم بديع الزمان في بزوغها فناً سابقاً له ابن دريد كما يرى د. زكي مبارك في أربعين حديثاً مسجوعاً ـ عارضها ـ أوردها المقالي، وكذلك ابن المدبر في رسالته العذراء وابن قتيبة في فصوله (وخلفه الحريري.. فإذا هو يصل بالفن إلى القمة التي كانت تنتظره) فتدارست لأشيائها تسعة قرون وافترض ناصيف اليازجي بلوغها فتفيء التهجير!
واستنبطت غايات عدة كالمعارضات والمواعظ موشحة بالأساليب اللغوية التي بلغت شأوها عند الحريري لسد حاجة التعليم ونفث القيم التربوية والمعرفية محتوية صور لغوية وفكرية.
مستويات الافق النقدي
وعلى المستوى الموضوعي تمحورت مقامات الحريري على الكدية فتصور أديباً شحاذاً (أبو زيد السروجي) برواية الحارث بن همام و(الحريري اتخذ الكدية شكلاً ظاهراً لمقاماته).. فهو يعالج موضوعات مختلفة. كالألغاز والاحاجي والوعظ، غير متناسين موضوعه الأساس الأدب والتعرف بفنون القول، مبتكراً مباراة لما شاع في عصره من الزخرف اللفظي.
وتدور المقامة على هجرة الراوي إلى مدينة نصيبين حيث يلتقي أبا زيد السروجي، إثر إجداب العراق فيشاركه في جمع المال، ثم يمرض الأخير ليحضر صحبه قلقين، فيستدرجهم ابنه لشفاء أبيه، ثم يخرج أبو زيد شاكراً الله، ويلبث صحبه بياض يومهم وليلهم فيرمز لابنه يأتيهم بالطعام لينشد شعراً ويغادروا..
وتضمنت المقامة النصيبية مقامين؛ اجتماعية كشبه تصرفات الأب على ابنه، ومضامين إنسانية كالتعاطف المبالغ الذي أولاه أصحاب أبي زيد حين مرضه، وأخرى اقتصادية ممثلة بسبب الهجرة.
وعلى المستوى اللغوي عد الإبداع صدى لثقافة الذات ومحيطها ولقد (اتصف الحريري بثقافته اللغوية الواسعة… وعبر عن ذلك في مقاماته)، ونشوئه في عصر تكلف (كان يتصنع في أسلوبه ما يوائم أذواق العصر) ففي مقامته النصيبية يكثر من الغريب (حراني ـ عنق البعير ـ مفتره ـ مبتسمه) ووعورة التراكيب كقوله (فتكرعنا الصلاة العجاوين، والتقط لفضه كلما نفث) وكان يتعلم الترميز الكنائي ـ (أبو يحيى الموت، وأبو عسرة الجوع) و(ثنائية الرمز والمعنى لها أكثر من بعد في إطار اللوحة الفنية) فيدل مثلاً على وعي شعبي واتفاق معرفي إزاء المجتمع.
كما يلاحظ اقتران الصيغة الفعلية الحاضرة بلسان الراوي في حين اقتراب أبي زيد في الماضي وهذا يدل على انسجام واع لتقنية الحكي مع جزالة الألفاظ واستقامة التعبير، وسمو الصنعة.
أما المستوى السردي فينطلق من اعتقادنا بتوفير عناصر القص في المقامات عموماً كما يرى عبد الفتاح كليطو وأول من أشار إلى ذلك مارون عبود مستنداً إلى اعتراف المستشرقين أنفسهم بذلك، ولقد انطوت المقامة النصيبية على عناصر سردية متفرعة من البنية العامة حيث الفعل (روى) وقال الراوي مضافاً إلى الحارث بن همام فالحريري يستأنف الرواية ويجنح إلى أسلوب الغياب، والراوي شخصية سوية أما البطل فهو شخصية معقدة الطبائع، والحدث الرئيس تمثل بالتقاء الراوي بالبطل، أما الزمان فهو خارجي يمثله عصر الرواية (العصر العباسي) وداخلي يمثله لقاؤه البطل، أما المكان فهو مكان موضوعي أنحاء نصيبين وآخر نفسي قطعه الراوي للوصول إلى البطل أي المسافة.
وتسهم تقنية الحوار في اختزال الرد، تمثلها حيلة الشحاذ مثلاً فأبو زيد يسأل وجيوب الناس تجيب!
واحتوت المقامة على أصوات ارتبطت بها بنى عديدة، كصوت أبي زيد وابنه وصوت الراوي وصحبه، ولا يفوتنا صوت التخيل السارد الحريري، ذلك لأن الخيال استعادة فضاء تشكله المدركات وفق صور ذهنية تحطم بمجساتها الواقع لتشكله كما يرى المصطفى موفين.
والانتقال بالمشاهد التي تقمصت البطل والأصوات العادية لها ضمن سرد الاحداث (لقاء، استجداء، مرض، شفاء، كرم، حيلة، حكمة) نمو درامي مثلته براعة المنتج الحريري.
أما المستوى الفني فقد حفلت المقامة النصيبية بالصور الفنية إلى حد الإغراق، فنجد الحريري يتوسل الاستعارة لرسم صورة كونية في قوله (وسرت تلفظني أرض إلى أرض) في سياق يماثل التصاعد نحو (الذروة = اللقاء) كما يحضر التشبيه التمثيلي حيث يستمد وجه الشبه من صور متعددة من الواقع يقول (فوجدت لفوت لقياه ما يجد البعد عن مرامه والمرضع عن فطامه)، ومن الكناية قوله (ما تمضمضت مقلتي بنومها) كنى به عن عدم دخول النوم عينه لوجده لأبي زيد.
كما يطابق بين صورة إجداب العراق وصورة نصيبين مجداً واقعاً يخبئ عللاً سياسية، وارتسمت في المقامة صورتان الصورة الكبرى هي صورة الشحاذ البارع والأديب الحاذق في الترميز والاسترقاق، والصغرى الشحاذ الكريم الذي يذرف نفسه لقاصديه.
ولقد احتشدت في المقامة فنون بديعية شتى من جناس (الدرُر ـ الدرر) والطباق (سالمته ـ تحالت) كما أنها كانت قطعة موسيقية لاكتنازها السجع، وقد شملت الأبيات الشعرية المتباينة البحور (الوافر ـ السريع ـ الكامل) الرتابة التي تخللت المقامة النصيبية.
وبعدما تقدم يمكن الاعتراف بأن المقامة ربما شكلت مثار اعجاب لمعاصريها لدواع منها انبثقت، إلا أن رتابتها وفقرها العاطفي ـ إلى حدٍ ما ـ واعتماد موسيقاها على الكم دون الكيف، ودورانها على معانٍ سطحية لا يستدعي ذلك، يجعل مستوى تلقيها اليوم ضئيلاً بالنسبة للأمس.
مقطع من المقامة النصيبية أثر مرض أبي زيد:
(قال: فدعَوْنا لهُ بامتِدادِ الأجلِ. وارتِدادِ الوجَلِ. ثمّ تداعَيْنا إلى القِيامِ. لاتّقاءِ الإبْرامِ. فقالَ: كلاّ بلِ البَثوا بَياضَ يومِكُمْ عِندي. لتَشْفوا بالمَفاكَهَةِ وجْدي. فإنّ مُناجاتَكُمْ قوتُ نفْسي. ومَغْناطيسُ أُنسي).
أشرف على الدراسة:
الأستاذ الدكتور صدام فهد الأسدي
قائمة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الادب العربي، د. عبد الفتاح كليطو.
- بلاغة الكتاب في العصر العباسي. د. نبيل مجاب، المطبعة الفنية الحديثة القاهرة مصر.
- البناء الفني للمقامة العربية في العصر العباسي أ.د عباس مصطفى الصالحي، دار الشؤون الثقافية العراق بغداد ط1، 2001.
- بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة: المصطفى مويفن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية ـ اللاذقية، ط 1، 2005.
- رأي في المقامات، د. عبد الرحمن ياغي، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ط1، 1996.
- القارئ الفني (أنماط الاتصال في الرواية من بينيان إلى بيكيت) ولفكانك ايزر، ترجمة هناء خليف غني الدايني، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، بغداد ط1، 2006.
- فن المقامات بين المشرق والمغرب د. يوسف نور عوض، دار القلم بيروت ـ لبنان ط1، 1979.
- مقامات الحريري، دراسة لغوية، عبد الحسين نضير، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، بغداد، ط1، 2008.
- مع الحريري في مقاماته د. نوري جعفر، الموسوعة الصغيرة 198، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، بغداد.
- المقامة، شوقي ضيف، ط 1، 1976، دار المعارف، مصر.
- مقامات السيوطي، د. عبد الملك مرتاض، اتحاد الكتاب العرب، 1996.
- النثر الفني في القرن الرابع زكي مبارك، دار الجبل، لبنان ـ بيروت ج1-2، 1975.
- منظومة القراءة، سلطة النص، عزيز التميمي، مجلة أنهار ع 36، أغسطس، 2003.
من المحرر:
المقامة النصيبية، نسبة إلى مدينة نصيبين وهي مدينة تاريخية في الجزيرة الفراتية، تقع على الحدود التركية السورية، وتتبع لمحافظة ماردين.