كانت تجلس القرفصاء تحلق بعينيها في سماء الغرفة، تتأمل عالمها بعقلها الصغير، وتحمل بيديها الصغيرتين دمية.. فجأة وبدون سبب ألقت دميتها الأثيرة بعيداً.. سئمت.. سئمت من تلك الدمى والألعاب الجامدة.. حتى من دميتها الأثيرة التي تبثها أشجان طفولتها. لكنها ما لبثت أن نهضت بساقيها المحنيتين وخطواتها المتعثرة،. اتجهت صوب دميتها الأثيرة، تناولتها وطفقت تلثمها وتمطرها بقبلاتها الساذجة، وكأنها تسميحها أعذاراً لا عذراً واحداً.. علها تقبل أحدها فتغفر زلتها.
اتجهت نحو سريرها، ووضعت الدمية على صدرها تسترضيها وغمغمت إليها بكلمات متلعثمة متعثرة: لا تغضبي يا دميتي، أريدك دوماً مبتسمة، فأنا أحبك.
وهي في حالها هذا ينساب إلى مسمعها صوت حنون، كانت المشرفة الخاصة على المعاقين: ما حال دميتك اليوم يا براء؟
أومأت براء ايماءة لا معنى لها، وانصرفت بأناملها تداعب دميتها، تكلمها بنظراتها الممزوجة بالشجى والسذاجة الطفولية.
أردفت المشرفة قائلة: بلغني يا براء أنك لم تتناولي طعام العشاء البارحة، وكذلك فطور وغداء اليوم.. فلماذا يا صغيرتي؟! ألا يعجبك الطعام!
أشاحت الطفلة بوجهها بعيداً تتأمل جدران الغرفة بذهول وعينين خاليتين من أي معنى، ولكن المشرفة ألحت عليها، فما كان منها إلا أن تناولت دميتها،
وقذفتها إلى زاوية الغرفة وانطلقت خلفها بخطواتها المتعثرة البطيئة.
انصرفت المشرفة إلى الإدارة وطلبت الاتصال بوالدة براء ورجتها أن تحضر لأمر هام، لكن والدة الطفلة اعتذرت بلباقة معتادة منها عن الحضور بسبب
مشاغلها مع أولادها وعملها تاركة طفلتها وحيدة تذرف الدمع دون أن تغص بعبرة من عبرات جريمتها بحق ابنتها ذات العشر سنوات.
طفولة محطمة وعقل محطم وجسم محطم.. حطام في حطام..!!
عاودت المشرفة الاتصال بمكتب والد براء، ولكن دون جدوى، كمن ينفخ في قربة مثقوبة.. كانت الردود سلبية؛ إما أنه في اجتماع وإما في شغل شاغل وإما.. !!
عادت المشرفة إلى براء لتجدها منكبة على دميتها الأثيرة تبثها أشجانها وأحزانها. تأثرت لمنظرها فأسبلت جفنيها على دمعة ممزوجة بالشفقة كانت تقطر من محجريها وهي تتمتم في خلدها: (مسكينة هذه الطفلة، أظنها عشرة أطنان من الآلام لا عشر سنوات من العمر.. عشر سنوات وأنا أرى البؤس ينمو في أحشاء براء، حسبها عيناها اللتان تضجان بمأساتها، وعقلها الذي يعاني أشد حالات الإعاقة العقلية.. أحياة هي حياتها.. أم ممات في ثوب حياة.. كيف لأم أن ترمي ابنتها البكر بهذه القسوة.. بل كيف لأب أن يعيش حياته دون أدنى احساس بالذنب لجريمة فظيعة ارتكبها هو وزوجته بحق هذه الطفلة منذ عشر سنوات؟! مدة طويلة ومع ذلك لم تكن كافية لتمحو آثار تلك الجريمة البشعة.. مسكينة أنت يا صغيرتي.. جثمت المتاعب على صدرك، وصوبت الهموم نصل رماحها الحادة إليك وأنت ما زلت طرية العود لينة العظام.. تخليا عنك وأنت في أمس الحاجة إليهما.. جريمة ارتكبت بحق طفولتك وانسانيتك.. فأي شفقة الآن وأي دموع ستمحو تلك الأحزان التي جثمت على طفلة اغتيلت طفولتها في وقت مبكر جداً).
وبينما المشرفة في خضم أفكارها، إذ ببراء تفقد وعيها وتهوي على الأرض فتتلقفها بيديها وتنقلها إلى سريرها وتصرخ طالبة الطبيب.. بعد هنيهة جاء الطبيب وتفحصها ثم تمتم: هزال وضعف.. منذ متى لم تأكل..؟
ـ منذ البارحة.
ـ سأضع لها مغذياً حتى تسترجع قواها. وسأل: ما نوع إعاقتها؟
ـ إعاقة عقلية شديدة مع ضمور في العضلات وانحناء في العظام..
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.. أهي الوراثة!
ـ لا بل جريمة..!
يفاجئ الطبيب بالإجابة فيسأل: أية جريمة؟
تجيب المشرفة: ليست جريمة فحسب بل اغتيال طفولة يا طبيب!!
يزداد استغراب الطبيب فيسأل بسرعة: كيف؟ ولماذا؟ وممن؟
ـ هناك زمرة من الناس تجردت من انسانيتها، فانحدرت نحو الحضيض.. وتمسكت بالسفاسف والأدران.. ألم تسمع بهم أيها الطبيب؟! لقد ألقوا بها رضيعة في حضن تلك المربية الآسيوية ذات المنبت الغريب والعقيدة القاحلة.. أجرم أبواها حينما أوكلا أمر تربيتها إلى تلك الخادمة واغتالوا طفولتها.. أتدري ماذا فعلت تلك الخادمة بهذا الكائن الضعيف الذي تراه الآن محطماً أمامك! قد تشعر بالدهشة عندما تعرف ولكنك ستشعر بالصدمة على عتبة الواقع المر.. لقد كانت طفلة نشيطة.. كثيرة الحركة، يلوذ الصمت منها فراراً، ولا يلبث أن يعود بين الفينة والفينة.. ضجرت الخادمة منها.. لم تمض فترة حتى استكانت الطفلة وأصبحت هادئة جداً.. خيل لهم أن الخادمة استطاعت ترويضها، وفرح الأبوان بهذا الانتصار الكبير في فن الاسكات والترويض، ولكن بعد فترة ظهرت بقع داكنة على جلد الطفلة.. هرع الأبوان بالطفـلة إلى إحدى المستشفيات وبدورها لاذت الخادمة بالفرار.
أتدري ما الذي قاله الطبيب للأم! قال: إذا كانت القطة تأكل بكرها فإنها من فصيلة السنوريات، ولا أظنك قد انضممت إلى هذه الفصيلة لتنحدري إلى القاع بهذه الدرجة..!! أية جريمة ارتكبت بحق هذه المخلوقة؟! كم من الحقن وجرعات المخدر سكبتم في أحشاء هذه الطفلة المسكينة؟! أي قلب تحملينه بين جوانحك! أظنه جلموداً وليس قلباً.. أتعرفين ما مصير طفلتك إذا قدر لها الحياة!! إنها بلا ريب ستكون في مستشفى الأمراض العقلية..!
عندها جن جنون الأبوين وأكلهما الندم.. وألقي القبض على الخادمة ونالت جزاءها الذي تستحقه ولكن بعد ماذا.. لقد قضت على مستقبل هذه الطفلة البريئة التي نسيها أهلها ومسحوها من ذاكرتهم فلا قلب رؤوم يغدق عليها العطف والحنان.. ولا يد حانية تمسح على رأسها.. لقد أصبحت حبيسة جدران هذا المركز.
ترقرقت عينا الطبيب بالدموع ولم يتمالك نفسه فانطلق خارجاً وهو لا يخفي تأثره وحزنه.. تناولت المشرفة دمية الطفلة من زاوية الغرفة ووضعتها على السرير بجوار براء وغادرت الغرفة بدورها والدموع تطفر من عينيها .