في تلك القرية الهادئة، ووسط حضور لفيف من الأهل والأقارب، وفي صبيحة يوم من أيام أوائل الخمسينات، وفي لحظات وداع صعبة عند بوابة الحارة الرئيسية.. احتضنت الأم الرؤوم ابنها الوحيد قبيل سفره إلى خارج وطنه في غربة لا يعلم مداها إلا الله. كانت الدموع تحرقها وهي تردد كلمات تخرج من فمها بحشرجة: (يا بني! إني أخاف عليك عاديات الليالي..)، رد عليها: (أماه.. أماه.. هوّني عليك، ولا تخافي، فإنني لا أخاف على نفسي من عاديات الزمن وتقلباته.. لقد رضعت من حنانك الآمن ما يقيني كل ما تخافين منه).
رسمت الأم على ثغرها بسمة حائرة، ومسحت على رأسه بأناملها المرتعشة وقالت: (اذهب يا بني في أمان الله وحفظه.. تحفظك العناية الإلهية من كل مكروه..).
تحركت الحافلة التي تقله مع بعض أبناء قريته الكبار الذين لهم تجارب سابقة في السفر والغربة.. وفي هذه الرحلة هو الشخص الوحيد الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، حيث اضطرته ظروف المعيشة القاسية أن يرحل إلى الخارج مع الراحلين من أبناء وطنه.. إنها رحلة شاقة ولا شك، فعليهم أولاً أن يقطعوا بالحافلة أكثر من ثلث مسافة الرحلة براً، ثم بعد ذلك يواصلون الرحلة عن طريق البحر في سفينة شراعية.
قطعوا مسافة سفرهم البرية خلال يومين وبضع ساعات، ووصلوا إلى أحد الموانىء البحرية، وكان عليهم البقاء في الميناء مدة يومين أو أكثر لأخذ قسط من الراحة من عناء السفر بسيارة (البدفورد) والبحث عن سفينة تقلهم إلى وجهتهم.. بعد أن تزودوا بالمؤن الضرورية لرحلتهم البحرية تحركت بهم السفينة الشراعية بعد صلاة الفجر مباشرة.. كانت أصوات المودعين والمسافرين تلهج بالدعاء لاتمام الرحلة وسلامة الوصول.
طوال الرحلة البحرية، ووسط أمواج البحر الهادرة، كان الشاب اليافع يتذكر صدى صوت أمه وهي تدعو له.. وبدوره يتمتم بهمسات صوت خافت كلمات دعائها ويسرح بفكره في أجواء وأحوال هذه الرحلة المتعبة، بل ويسرح إلى البعيد.. البعيد، حيث تتدافع في ذهنه وخياله أسئلة كثيرة من بينها: كيف سيكون مستقبل رحلته! وما هي الأعمال التي سيمارسها؟ إلى جانب رغبته في الدراسة أثناء غربته.. ومتى ستنتهي هذه الغربة؟ إنها أسئلة كثيرة لا يعرف لها جواباً سوى الصمت والصبر.
كانت الرحلة البحرية التي استمرت خمسة عشر يوماً.. فيها شيء من المتعة والإثارة، فهي ممتعة لما شهدته من أواصر الإلفة والتعاون بين أفراد الرحلة الذين عملوا في بوتقة واحدة.. ففي تلك البوتقة كان كل واحد منهم حريصاً على اسعاد وراحة أخيه من خلال العمل الجماعي،.. فمنهم من يعد الطعام، ومنهم من يقوم بأداء بعض الرقصات والأغاني الشعبية، وخاصة فن (النهام) الذي يشتهر بأدائه أبناء الخليج العربي، ترفيهاً عن النفس خلال رحلات الغوص لاستخراج اللؤلؤ وغيرها من رحلات الإبحار الطويلة.
.. وهي (الرحلة) مثيرة، لما أوحت به من لحظات التأمل في أعماق عالم البحر المجهول الذي يثير في النفس والقلب نوعاً من الترقب والتوجس والخوف من لحظات المفاجأة التي قد يثيرها هدير البحر وعنفوانه المزمجر..
.. غاص الشاب اليافع مع هدير البحر في موجاته العاتية، حيث امتزجت تلك الموجات مع دقات قلبه.. ذلك القلب الذي تسكنه آمال كبار وينبض حباً لتحقيقها.
بعد وصول السفينة إلى وجهتها المحددة، وهي إحدى الدول العربية الشقيقة، بدأ الشاب على الفور رحلة البحث عن العمل، وبعد فترة من الزمن أتيحت له فرصة العمل في إحدى الشركات بأجر يومي في بداية العمل، ثم ما لبث أن تحول إلى أجر أسبوعي ثم شهري بعد أن أثبت قدرته وإخلاصه في المهام الموكولة إليه.
كانت فترة العمل صباحية، وفي الفترة المسائية أعد نفسه وهيأها للدراسة عله يعوض ما فاته من سنوات الدراسة الأولى التي تركها في وطنه غصباً عنه.. وأملاً في أن يريح أمه من مشقة العيش وأن يجد لنفسه مستقبلاً لأمه ولأسرته التي يتمنى تكوينها.
مضت فترة انقطاع الاتصال المباشر بين الشاب وأمه، حيث لم يكن في حينه من وسيلة للاتصال سوى الرسائل المكتوبة التي تحمل بيد المسافرين.. وبعد أن وجد الشاب أحد هؤلاء المسافرين إلى وطنه حمله رسالة طويلة إلى أمه يشرح فيها أحواله، وأرفق معها مبلغاً من المال وبعض الهدايا من الملابس.. وما إن سمعت الأم بوصول المسافر حتى سارعت إليه لتطمئن منه على أحوال وحيدها.. وبدوره أعطاها صورة وافية عن أحوال ابنها، وسلمها الرسالة، فسارعت والفرحة تغمرها إلى أحد أقاربها ليقرأها لها.. كانت كلمات الرسالة مفعمة بالحنين والشوق للأم والدار والأهل، وكانت عيناها تفيضان دمعاً وهي تستمع إليها وتتمتم شفتاها بكلمات الدعاء والبركة.. حمدت الله وشكرته على كل ما جاء في رسالة ابنها من أخبار طيبة ومطمئنة.
مضت السنون والأعوام والشاب في غربته، كانت وسيلة اتصاله الوحيدة مع أمه هي الرسائل المحمولة باليد، وبالبريد أحياناً.. وأثناءها كان يواصل عمله ودراسته، حصل على الثانوية، ثم انتسب لإحدى الجامعات وتخرج منها بعد أربع سنوات وحصل على شهادة في إدارة الأعمال.
كانت ظروفه تتحسن بعد تفوقه في دراسته واخلاصه في عمله، وبقي يعمل في مجال تخصصه مدة خمس سنوات، بعدها أحس بضرورة العودة إلى الوطن.. إلى أمه التي تنتظره على أحر من الجمر.
بعد أن أخذ بعض الهدايا الرمزية لأقاربه، استعد للعودة بمفرده على متن طائرة بعد أن تحسنت ظروف الاتصال والمعيشة في وطنه.. وها هو ذا يعود إلى وطنه وأمه التي تستقبله بلهفة الحنين إلى لقياه في ظروف غير تلك التي ودعته بها قبل خمسة عشر عاماً أمضاها خارج الوطن.. ها هو ذا يعود محملاً بآمال المستقبل التي كان ولا زال يحلم بتحقيقها،، هو الآن رجل مؤهل لتحقيق بعض من تلك الأحلام والآمال.. ومنها أمل الاستقرار وتكوين أسرة مع زوجة صالحة وأم رؤوم طالما رعته بحنانها في حله وترحاله.. وهكذا تستمر رحلة الكفاح.
صالح بن سالم اليعربي رجل عصامي قَدِمَ من عمان إلى إمارة أبوظبي عام 1975، وعلى الرغم من تعرضه للشلل في العشرين من عمره، نتج عن حركة رياضية، لكن هذه المحنة لم تزده إلا إقبالاً على الحياة، وبعد أن انقطع عن الدراسة ما يقارب 27 سنة، ولم يكن في حوزته وقتها إلا الشهادة الابتدائية، والكثير من العزيمة والإصرار على الدراسة وحفظ القرآن ما قوى لغته وإرادته، وأثمرت جهوده مقالات ومؤلفات ومحاضرات لامست القلوب والعقول وأوقدت جذوة التحدي والتغلب على المصاعب لدى الكثيرين في المجتمع.
واصل تعليمه وحصل على شهادة الثانوية العامة من عمان مسقط رأسه، ثم عاد إلى مقر إقامته في أبوظبي مرة ثانية، ليسير على خطى النجاح فانتسب إلى جامعة الحصن وحصل على بكالوريوس إدارة نظم المعلومات بدرجة امتياز، ثم ماجستير إدارة أعمال، وتوج مسيرة كفاحه بفوزه بجائزة أبوظبي للإبداع 2010 (في دورتها الخامسة).
له عدة إصدارات:
- لا إعاقة بل إرادة وانطلاقة
- خواطر وقراءات (من إصدارات مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية)
- فيض المشاعر (من إصدارات مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية)
- إشراقة وانطلاقة
- رحلتي مع الصبر
- إعجاز وإنجاز
وأحدثها كتابه: صدى المشاعر