في مكان كهذا، أطرافه متخمة بأسمال موت مكابر، يغدو انكفاء المرء إلى داخله الحل الوحيد لكي يبقى متماسكاً، ولو ظاهرياً على الأقل، أنظر إلى من حولي، أستطيع أن أقرأ القلق على ملامحهم، وأن أشعر بملح الانتظار يرشح من خلاياهم، يبدون غير معنيين بأي تفصيل آخر، كأنما ما تبقى داخل القارب هو الشيء الوحيد الذي يعنيهم، وليذهب العالم برمته إلى الجحيم، حين يصبح الموت قاب شهيقين وزفير واحد تفقد التفاصيل أهميتها، تلك الفتاة التي كانت منذ أسبوعين أو أقل قليلاً تبدو في كامل أناقتها، تجلس الآن واللون الأحمر يغطي بنطالها الجينز، خريطة لمكان مجهول رسمت بالدم ما بين ساقيها حتى أسفلها، لا أحد منا يسترق النظر ولو خلسة، ولا أحد يستنكر، لم يكن هذا ليكون مقبولاً منذ أسابيع فقط، كانت لتذوب خجلاً، لكنها الآن لا تأبه لأي شيء، هذا عدا أنه ليس لديها خيار آخر، ولا بنطال غير ما ترتديه، فقد تم تجريدها من كل ما تحمل، وفازت ملابسها التي ترتديها فقط بمرافقتها في هذه الرحلة اللعينة.
الشاب الذي كان يبدي اهتماماً ملحوظاً بها حين كنا نتجول بترف على متن سفينة سياحية أنيقة، لا يعيرها الآن أي انتباه، يبدو معنياً بأمر خلاصه أكثر من أي شيء آخر، ومن منا ليس كذلك؟
يلح سؤال غريب عليّ، أتمنى لو أستطيع أن أزرعه في عيون الكون كله، في عيون السياسيين، القادة، أصحاب القرار، أصحاب الشعارات البراقة، وأصحاب القلوب المرهفة التي تسارع إلى قلب الدنيا لأجل كلب أو قطة: لو كانت هذه القوارب التي تتساوى فرص نجاتها بغرقها تحمل كلاباً وقططاً، وغرق منها ما غرق، هل كانوا ليبقوا مكتوفي الأيدي كما هم الآن؟
لا جدوى من أفكاري، ولا تساؤلاتي الغبية التي قد تصاحبني إلى قاع البحر، عندما يغدو الموت دنيـّاً، يمسي المرء أقرب إلى روح الأشياء، يتشيّء فيه جزء ما، فيفقد إنسانيته، ويغدو قادراً على الاتصال بالأشياء بطريقة سحرية غريبة، فيصبح لخاتم الزواج في إصبعي روحاً، يتعدى طبيعة الجماد، يفقد شيئيته، ويغدو خيطاً من نور يربطني بعائلة تنتظرني، يذكرني بأنه عليّ أن أتماسك وأنجو لأفي بوعدي لإبني وزوجتي بحياة كريمة لا تمطر فيها السماء نيراناً وموتاً.
الوجوه حولي شاحبة كما الموت، أكاد أقسم أن وجهي كذلك، أستطيع أن أراه في مرايا ملامحهم المنكمشة خلف خوف صاخب لا يترك لنا مجالاً لحديث عابر، إنه يحف بنا من كل إتجاه، لا أريد حتى أن أفكر بارتفاع احتمال غرقنا جميعاً، فضلاً عن اختطافنا لصالح تجارة الأعضاء، أو البشر، أيها أسوأ مصيراً؟! لا أريد أن أعرف.. أريد أن أقتلع تلك الفكرة اللعينة من رأسي نهائياً، لكنها بكل خبث تتسلل خلسة وتباغتني كلما حل الظلام خارجاً أو داخلاً، وظلام داخلي لا يكاد يفارقني.
مقابلي، على الجهة الأخرى من القارب، تلك الأم التي ما زالت في ريعان الصبا، تضم طفليها، بل هي تتشبث بهما كما يتشبث الغريق بقشة، وينطق الارتياب من عينيها، تتفقد جبين أحدهما كل بضع دقائق، الطفل محموم منذ أيام، وحالته تسوء باضطراد مخيف، لم يأكل شيئاً منذ يومين، أو ربما ثلاثة، ورائحة برازه تفوح من ملابس الأم فضلاً عن ثيابه، لو كنا في مكان آخر لابتعد الجميع عنها، لكننا في قارب لا يتسع إلا لمائة شخص، حشر فيه ما يقارب ثلاثمائة، وليس لأحدنا مكان أكثر مما تجبر مساحة جسده الآخرين على التنحي، والتذمر لا يجدي نفعاً، فالأم كأي واحد منا، أُجبرت على ترك حقيبتها في السفينة السياحية التي دفع كل واحد منا ثلاثة أضعاف ما يدفعه هارب آخر لنتجنب الصعود في القارب الذي انتهينا إليه بعد أقل من ساعتين من الملاحة بعيداً عن الشاطئ، انتهينا إليه بقوة السلاح، وبالخوف الذي اعترانا عندما رفض أحدنا أن يغادر، فـُرمي به في الحال، ودون ترددٍ.. وليمة لأسماك البحر…
في هذا الوقت لا يثنيني عن تمني الموت إلا طفلي وزوجتي، ولهذا ـ كما يبدو ـ أعبث بخاتم الزواج دون توقف، ألمسه لأذكر نفسي بعهدٍ قطعته على نفسي أمامهما، وليس فقط من قبيل القلق كما قد يقول متفلسفو علم النفس.
أعود بنظري دون قصد إلى الأم المنكوبة، أتذكرها وولديها في بداية المطاف، كان طفلاها كقمرين في ليلة حالكة، في عيونهما شيءٌ ساحرٌ أكثر بكثير من براءة أطفال، وطهر ملائكة، عندما وقع نظري عليهما لمتُ نفسي لأنني لم أصطحب طفلي وزوجتي، وأثنيت سراً على شجاعة شابة تخاطر بنفسها وولديها في رحلة يخشاها الرجال.
الطفل يتشنج بين يدي أمه كقطعة خشب، ويفقد وعيه كلياً، تصرخ المرأة، يحاول أحدهم مساعدتها، لكن لا فائدة، لا شيء يثني الطفل عن التصلب الغريب، يحاول أحدهم مسح وجهه بالماء، لكنه اقترب من روح الأشياء حد الإلتصاق، إنه الآن قطعة خشب فحسب، تراه يحاول أن يختلس القدرة على الطفو من الخشب، لئلا يغرق؟ أشعر بوخزة حادة في قلبي، أتخيل طفلي، لا شيء أستطيعه لأساعدها، فلأصلِّ من أجلها ومن أجل صغيرها إذن.
دقائق ويعود جسم الطفل طرياً، كقطعة قماش قديمة، لا حياة فيها، تحاول أمه إيقاظه، لكنه لا يستجيب، يحاول الرجل الذي يبدو أن لديه معلومات طبية ما، لكن الطفل يخذله كما خذل أمه، يضع الرجل أصابعه على عنق الطفل، يتحسس نبضه، تعتم النظرة في عينيه، يهز رأسه بأسف معلناً انتقال الطفل إلى مكان أكثر أمناً..انتقال روحه النقية على الأقل.
لا تصدقه الأم، تضع أذنها على صدر طفلها، تعلن أنه يتنفس كما لا يفعل حقيقة، حيث أن موته كان واضحاً تماماً للعين المجردة، لكنها تصر على كونه حياً يتنفس، يحاول الرجل اقناعها، لكنها تصرخ في وجهه، فجأة أرى وجه طفلي، يا الله احفظ لي طفلي، واحفظ أطفالهم.
يتركها الرجل ليهدأ روعها قليلاً، ربما تستطيع أن تصدق موته، لكنها تضمه بشدة إلى حضنها بينما طفلها الآخر ـ والذي ربما يكبر أخاه بسنة أو أكثر قليلاً ـ يلتصق بذراع أمه الذي يضم أخاه، وعلى محياه يبدو الرعب واضحاً.
ساعتان أوربما أقل قليلاً، على اعتبار أن الزمن لا يتحرك على متن قارب نجى عندما غرق فرعون في البحر، جاء الرجل نفسه متطوعاً يحاول إقناع المرأة بالتخلي عن صغيرها ليرميه في البحر، خشية أن يبدأ بالتفسخ، فيتسبب بأمراض للركاب ناهيك عن الرائحة.
تتنمر المرأة في وجهه، تعلن أن ابنها لم يمت، وأنه رجل شرير يحاول قتل ابنها، تحاول أن ترفسه، فيبتعد الرجل عنها، ويلزم مكانه.
يحاول بعض الركاب الحديث معها، فلا أحد يتمنى أن يزيد بؤسنا بؤساً في عرض البحر، لكنها تصرخ بشدة تخيف ابنها الآخر فيبكي بحرقة.
تضم ابنها مع الجثة التي تحتضنها، أشعر بأن البكاء يجافيها، لكن كل ما فيها يبكي، عدا عينيها، تعود صورة ابني إلى مخيلتي، أصاب بالهلع، ماذا لو أن برميلاً متفجراً سقط على بيتي.. أبتهل إلى الله ثانية: يا رب احفظ لي طفلي، واحفظ أطفالهم.
ببطء شديد يتسلل الظلام، يخلد كل منا إلى هواجسه، يختلي بأوجاعه حتى يغلبه النعاس، بانتظار مصير مجهول، أهون ما في سيئه الموت، أما الاحتمال المنتظر الذي يحدونا أمل صغير به، فأن نصل إلى شواطئ إيطاليا بسلام.
الأفكار تتدافع في رأسي، بينما علا شخير بعض من على القارب، والآخرون إما أنهم خلدوا لنوم صامت، أو أنهم خلدوا إلى أحلامهم ومخاوفهم.
توشك عيني أن ترتجل دمعة تنسال دافئة دون أن أسمح لها، كاذب ذلك الذي تبجح بأنه تغلب على الحزن، ربما لم يعرف ذلك الحزن فعلاً، أو أنه استسلم لعبثيته دون أن يدرك ذلك حقاً، الحزن ناب أزرق ينغرس في الأفئدة والصدور، يتجه الى الشريان السباتي ليخنق أنفاسك فيما أنت تبحث عن سبب شعورك بالاختناق في كل شيء حولك، متجاهلاً عن قصد أو عن غير قصد، السبب الحقيقي القابع في أعماقك، يخادعك الحزن، يشي بنفسه من عينيك، لكن الطبيب سيصف لك دواء للضغط أو للنوم، ولن يصف لك دواء يسحق الحزن الذي يعتريك.
يخادعنا الحزن جميعاً، فقط أولئك الذين يعرفوننا جيداً، يقرؤوننا بلغة فريدة لا يعرفها سواهم، هم فقط يدركون خديعة الحزن، وفيما تشكو لهم الصداع والاختناق ومشاكل النوم، يدركون أنك تشكو حزنك دون أن تسميه، كما نتجنب تسمية المرض العضال باسمه، فنتركه تحت رحمة حروف الإشارة التي يدرك الجميع الى أنها تشير إلى أخبث الأمراض وأفتكها… أينك الآن يا أمي… وحدك كنت تدركين ما بي، بينما لم ندرك ونحن نرحل واحداً وراء الآخرعلى متن قوارب الموت كل الأعراض المزمنة التي جعلها الحزن ترساً اختبأ خلفه حتى قضيتِ جزعاً على أولادك قبل أن تري آخرهم ـ أنا ـ يفترش الرحيل، وعلى البيت الذي قضيت به جل عمرك، وعلى أبي الذي فتتته قذيفة حولاء أخطأت هدفها.
أشعر بحركة ما، أحدهم يمشي متسللاً، أحاول أن أتجاهل حركته، بينما أنا متيقن تماماً أنه الرجل نفسه، سيحاول أن يقوم بالعمل اللازم لحماية نفسه وحمايتنا من أية أضرار إضافية لا نحتاج إليها، أرجو الله ألا تكون الأم مستيقظة لتقيم الدنيا وتقعدها، فأعصابنا لم تعد صالحة لتحمل أي توتر إضافي.
دقائق بعدها وأسمع صوت ارتطام شيء ما بالماء، إذن لقد انتشل منها ابنها، سيكون عرضة لنارها في الصبح، أحسده على شجاعته، ففي آخر الأمر على واحد منا أن يتحمل مسؤولية عمل يبدو سيئاً كهذا.
يسود الصمت المطبق إلا من أصوات ارتطام الموج بالقارب، أغلب الظن أنني سأكره البحر طويلاً بعد رحلتي هذه، ويحدوني الأمل أنني سأقوم بإجراءات لم الشمل إن وصلنا بسلامة، ولن تتعرض زوجتي وابني لركوب خطر مثل هذا، أحاول أن أصرف هواجسي السوداء بتخيل وصولهما على متن طائرة آمنة، لا تنفث الموت في وجوه ركابها، أتخيل اللحظة التي أضمهما بها إلى صدري، يعتريني بكاء حار، هل هو الحزن؟ أم الشوق؟ أم الخوف؟ أم الانتظار؟ أم الوحدة؟! ماذا يهم؟ ففي النهاية كل تلك المشاعر تتربص بي، تتقاتل على دموعي اقتتالاً شرساً، ولا أعرف من يغلب كل مرة.
يغلبني النوم.. وأغفو، بالكاد أغفو، وليس لوقت طويل قبل أن يباغت سكينتي المفتعلة صراخٌ حادٌ يشق صدر صاحبته شقاً، أفتح عينيّ وأنا مدرك تماماً مصدر الصراخ، وسببه، لأكتشف أن الصباح غمر المكان حولي ولم يغمرني، وأرى المرأة الثكلى إياها، وهي تحتضن جثة طفلها الميت.. الميت فقط دون الآخر.
بقلم: لبنى ياسين
[email protected]