أود الإشارة في البدء إلى أهمية قراءة الأعمال الروائية خاصة في ضوء اتفاق الجميع على أن القراءة تشكل عنصراً مهماً في تطوير حياة ناجحة حيث أن ايلاء اهتمام كبير لمحتوى ما نقرؤه يشحذ قدراتنا العقلية ويساعد على إثراء المخزون المعرفي شيئاً فشيئاً. وهناك شبه اجماع على أن مقدار نجاحك يتحدد بمقدار قراءتك. غير أن مثل هذا التركيز على القراءة يبدو أحادي الجانب فالناس عموماً يمضون الكثير من الوقت في مطالعة الأعمال غير الروائية مثل الكتب التي تستهوي الأشخاص وكتب الأقتصاد والأعمال والكتب التي تتناول المبيعات والصحة وعلم النفس والعلاقات. ومثل هذه الكتب تتسم بالجاذبية فنرى القراء يمضون أوقاتاً في قراءتها كونها تضم معلومات يمكن أن تفيد في مختلف مراحل الحياة، لكن من الخطأ أن نهمل قراءة الأعمال الروائية.
والرواية عبارة عن جوهرة منسية وموئل مفتوح للمعرفة والمعلومات لذا يتعين على الأشخاص الذين يسعون لتطوير أنفسهم والنجاح في حياتهم أن يقرأوا الروايات كثيراً وباهتمام. والسؤال هنا: لماذا تحظى الرواية بمثل هذا الاهتمام؟
الرواية تعيننا على فهم وجهات نظر الآخرين
تتميز الرواية بقوة تفتقد إليها أشكال التواصل الأخرى، وهي القدرة على زج القارىء تماماً في عقل شخص آخر وهي بذلك تحفز على نوع من المزج بين عقلي القارىء والكاتب وكذلك عقلي القارىء والشخصية الروائية. وحين نقرأ الرواية فإننا نرى العالم من خلال عيني شخصية ما.
إن مراقبة شخصية روائية معينة ومتابعتها وهي تتفاعل مع العالم من حولها أمر يتسم بالقوة. وحين ندرس التاريخ فإن الكتاب التاريخي يقدم سلسلة من الحقائق والنوادر الجافة لكن الرواية التاريخية تضع القارىء في وسط الفترة التاريخية التي تود دراستها وتتيح لك الفرصة في تلمس العالم من حولك وتذوقه والتفاعل مع الشخصيات المعاصرة وكذلك حل المشكلات. وسوف تتاح الفرصة للقارىء لفهم تلك الفترة الزمنية وفق سياقها التاريخي وهوخيار لم يتحقق البتة بفعل كتاب تاريخي بعيد عن تلك الفترة.
والرواية المتميزة تغوص عميقاً في كل من علم النفس والفلسفة، وهي تعمد إلى أستكشاف النماذج وإماطة اللثام عنها. كما أنها تحفزك على فهم وجهات نظر لم تعهدها من قبل سواء كانت نفسية أو مادية.
وحين نقرأ الرواية فإننا سوف نتمتع بفرصة فريدة من نوعها حيث يمكن أن نتقمص جنساً مغايراً أو عصراً آخر أو شخصاً ينتمي إلى قومية أخرى أو نعايش ظروفاً مختلفة. أضف إلى ذلك يمكن أن يجد القارىء نفسه وقد غدا مستكشفاً أو عالماً أو فناناً أو أماً شابة عازبة أو طفلاً يتيماً يعمل عاملاً في سفينة أو جندياً.
وحين يضع القارىء الرواية جانباً فإنه يشعر بأن تغييراً قد حصل له بالفعل فهو الآن يفهم أشياء لم يألفها من قبل، الأمر الذي سوف يغير نظرته إلى العالم بشكل جلي.
الرواية تعمّق فهمنا للتطور
يتطور كل شيء في عالمنا المعاصر، فالأفراد يتطورون والنماذج تتطور والثقافات تتطور والتكنولوجيا تتطور، وما دراسة التاريخ إلا دراسة لتطور الحضارة.
ولسائر القصص مسارات قصصية متعارف عليها: بداية ووسط ونهاية، وكل مسار مؤشر على وجود تطور معين سواء شمل ذلك إحدى الشخصيات أو سلسلة من الأحداث حيث يحصل تغيّر في نهاية المطاف. إن ظاهرة التطور مهمة وفق عدة مستويات فمراقبة التطور الذي يحصل في الرواية، وفق المستوى المفاهيمي، يعتبر أمراً هاماً بسبب طبيعة الفن الروائي الذي يتعاطى مع حركة الزمن المتسارعة. وبإمكان القارىء أن يرى الأشياء من منظور مكبّر ويرى أشياء لا يمكن ملاحظتها في الحياة اليومية الطبيعية. كما أن مراقبة حركة التطور تعين على الشروع بفهم العملية. وعلى المستوى الفردي فإن مراقبة تطور الشخصيات تعين القارىء على فهم التطور الإنساني الفردي سواء حصل ذلك للناس من حولنا أو لنا نحن شخصياً.
وعلى مستوى أوسع تتيح لنا الرواية الفرصة بأن نتلمس تطور الأحداث والقصص والإتجاهات وحتى المجتمعات. وحين ننظر إلى العالم فإننا نراه مجزءاً ومن الصعوبة بمكان أن نفهم كيفية مواءمة تلك الأجزاء أو بعضها مع البعض الآخر وبالتالي تكاملها. وبموجب المسار الخطي كيف لنا أن ننتقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)؟ الرواية تقدم لنا الحل من خلال توفير السياق المناسب.
الرواية تتيح للقارىء رؤية الصورة الكبيرة
إن الإنتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) لاينطبق على المسار الخطي فحسب إنما يشمل ذلك حياتنا اليومية أيضاً. والرواية تعيننا على رؤية توافق سائر الأشياء في عالمنا وتكاملها وتمنحنا أيضاً فرصة نادرة في النظر إلى العالم من منظور مغاير وتتكثف في سردها، وهي بهذه الكيفية تلتقط الأشياء المهمة وتسلط الضوء عليها وتضعها إلى جنب بعضها البعض ومن ثم تدخل في التفاصيل المطلوبة وترسمها بكل وضوح لأننا في العادة لا نراها. ومثال على ذلك فإن التطور الذي ربما يستغرق سنوات عديدة أو تكوين علاقة ما أو إندلاع حرب أو تردي صحة شاب قوي ليتحول إلى إنسان ضعيف كلها أمور يمكن أن تحصل في غضون ساعات في السرد الروائي.
في رواية (عناقيد الغضب) The Grapes of Wrath سلط شتاينبك Steinbeck الضوء على الحقائق المتعلقة بالكساد العظيم Great Depression وأشار إلى أن أولئك الذين تعرضوا للكساد وبشكل مباشر لم يتمكنوا من الإحساس به بشكل واضح. وفي رواية (غاتسبي العظيم) The Great Gatsby يرسم فيتزجيرالدFitzgerald صورة رجل بشخصية غاية في التطور لدرجة أن المرء لا يتمكن من رؤية التفاعل معه بيسر لكنه يمكن أن يتبين ذلك من مسافة معينة.
إن من الممكن أن نرى العالم على نحو أوضح إذا نظرنا إليه بأكمله مثل الطيران عالياً فوق الأشجار والنظر إلى الغابة أو النظر إلى العالم من خلال خريطة، بدلاً من النظر إلى الأرض حيث لا يمكنك أن تلاحظ وجود شارع مواز للشارع الذي تقف عليه.
الرواية تتيح لك الفرصة للنظر إلى العالم من منظور مختلف تماماً
حين نقرأ الرواية فإننا ننظر إلى العالم من خلال عيني شخص آخر. تجدر الإشارة إلى أن مثل هذا الأمر ينطبق على أنواع الكتابة كافة، أو بالأحرى أنواع الاتصال كافة، غير أن الرواية تمثل شيئاً فريداً تفتقر إليه الأجناس الأدبية الأخرى فهي تأخذنا إلى (الداخل)؛ إلى داخل عقول الشخصيات ومنظورها. أضف إلى ذلك أنك ترى العالم محدداً وفق شروطها فاستعاراتها تستخدم لوصف البيئة المحيطة بها وكذلك أستخدام سياقاتها للأحداث ومنظورها حول التطورات والعلاقات.
إن النظر إلى العالم من وجهات نظر مختلفة يمثل أحد أهم الأشياء التي لابد أن يحققها المرء في سعيه لتحقيق التقدم. وتتصف وجهات نظرنا بكونها محدودة لكنها في تطور متواصل. ونحن حين ننظر إلى العالم من وجهة نظر شخص آخر فنحن في الواقع نجرب النموذج الذي يتبناه. وحين نجد شيئاً مخبأ فإننا نتبناه وبذا يغدو نموذجنا، وهذه العملية تجعل النموذج يتطور.
الرواية تثري حياتنا
تتعاطى الرواية مع الأشياء التي تجعلنا إنسانيين إلى حد كبير مثل النزاعات والعواطف والحب والشهوة والخوف والكراهية والغيرة والانتشاء الروحي وغيرها والتي تجعلنا نتوق ونتحرق شوقاً وتحركنا أكثر من غيرها. كما أن الرواية تحفزنا للشعور بما حولنا وهذا الشعور يثري حياتنا. لذا فإن تعودنا على قراءة الرواية سوف يجعل حياتنا أفضل وأكثر قيمة.
الرواية تعيننا على الفهم
رغم أن الرواية تعتمد على الإبتداع والتخيل فإنها في نهاية المطاف تتعاطى مع الحقيقة. يقول الروائي الأمريكي أيرنست هيمنغواي: (تشترك الكتب المتميزة جميعاً بهدف واحد، فهي تبدو أكثر صدقاً مما لو كانت قد حصلت بالفعل فبعد إتمام أي كتاب من تلك الكتب سوف نشعر بأن كل ما حدث قد حصل لك بالفعل وبذا يصبح جزءاً منك إلى الأبد: السعادة والتعاسة والنشوة والأسف والطعام والخمر والأسرّة والناس والطقس).
هنا أقر بأنني متحيز، فأنا أديب أرى العالم بعقل أدبي فأنا حين أقرا الرواية بعد فترة امتناع عن المسكرات فإن الأمر يشبه تناول جرعة تستمر وقتاً طويلاً من ماء بارد في يوم قائظ حين يكون فمك جافاً!
مع ذلك علينا أن نعترف أن أعداداً من الروايات ليست بذات قيمة فالكتابة الركيكة والحبكات الضحلة والدراما التافهة لا تشكل قيمة تذكر. في الوقت ذاته ليست الكتب الأخرى كافة ذات قيمة عالية. وإذا وضعنا الروايات الغرامية الرخيصة جانباً فإن للرواية امكانيات لا حصر لها في إضفاء قيمة على حياتك.
تأسيساً على ذلك إذا رأيت شخصاً يقرأ رواية في المرة القادمة فلا تنظر إليه بأزدراء إنما عليك أن تنكب على قراءة رواية أنت بنفسك.
(*) حنا فرانكمان كاتبة ومصورة فيديوية وفوتوغرافية وتربوية وكاتبة مبدعة.
المصدر:
https://medium.com/the-mission/the-importance-of-reading-fiction-7f57546a229b
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.