أنا فنان ليس لأني معاق، ولكن مما لا شك فيه أن الإعاقة حالت بيني وبين تنفيذ أعمال فنية أكبر. وفي رأيي أن من الخطأ القول إن هناك فن للمعاقين وفن لغير المعاقين، كخطأ القول بأدب للمرأة وأدب للرجال.. والأصح أن هناك فن جيد وفن سيء
الرحيل
رحل الفنان السوري وليد قارصلي يوم 18 أبريل 2006، بعد أكثر من ثلاثة عقود على حادث خطير كاد يودي بحياته، وأصابه بشلل نصفي، مما أقعده تماماً، وأجرى تحولاً جذرياً في حياته. لكن الحادث، قدر له أن يساهم في مسيرة أخرى كانت بذورها قد بدأت بالتشكل على يد أمه الفنانة التشكيلية إقبال ناجي قارصلي التي يقول عنها: «في البداية، كنت أظن أن والدتي لم تؤثر فيّ إطلاقاً، لكن بعد أن نضجت أكثر علمت أن كل لوحاتي مستقاة منها سواء على صعيد التربية اللونية أو الجمالية، وكل أشكال الثقافة، وبالتالي تكوين رؤيتي للحياة كانت عبر مشاهداتها، وهذا التأثير أصبح موضع فخر لي بعد أن كنت أعتز باستقلاليتي».
بعد سنوات من ذلك الحادث، بدأت لوحات قارصلي تنتقل من سرير إقامته إلى صالات العرض والمتاحف وأماكن خاصة حول العالم في حدث قل نظيره، ويشكل أمثولة حول قدرة الكائن البشري على تجاوز المحن واجتراح المآثر.
اللقاء قبل الرحيل
لم يزدني اللقاء به إلا إعجاباً على إعجاب.. واحتراماً لا يخلو من مشاعر الدهشة والانبهار. كنت قد قرأت عنه وسمعت عنه وشهدت بنبوغه أعماله وتنوع مواهبه.
تحدثت معه بادئ الأمر هاتفياً.. وكان الحوار معه دائماً شيقاً وحيوياً يحفل بكل ما يخطر على البال من فنون وابداعات وعلوم وآراء في المجتمع والناس والسياسة والفكر والفن بأنواعه.
وقد أثمرت هذه اللقاءات البعيدة، عن رغبة شديدة في التقارب مع الآخرين، فرضتها ذاته المتلهفة الباحثة عن مكان للتلاقي والتعبير ونسج العلاقات الدافئة مع كل من ينوي خيراً لهذه الفئة المغمورة امكاناتها المغبونة حقوقها.. فلم يتوان لحظة واحدة عن تقديم أجمل ما عنده من لوحات رسمها بقلبه وأحاسيسه قبل فرشاته وألوانه.. فكان أحد المشاركين المتميزين في ملتقى المنال للابداع الخاص (اشراقات فنية) الذي نظمته مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في الفترة من 16 إلى 18 مايو 1999 بمناسبة دخول مجلة المنال عامها الثالث عشر.
عندما التقيت به في منزله، أدركت أن الهدوء الذي لمسته في صوته المليء حيوية وذهنه المتوقد أفكاراً وآراء قيمة، منبعه الأكيد إرادته القوية التي لم تعترف بوهن الجسد وضعفه ولا بثقله وانشداده لقوانين الجاذبية، إنها فقط نظرته الصائبة إلى ثقل الجسد وتوثب الروح وتحليقها.
كان مشدوداً إلى سريره إلا أن حواسه كلها كانت تعمل بنشاط ودأب.. من معرفة تامة بالكمبيوتر واطلاع واسع على كل ما يجري في العالم.. إلى محبة راسخة استطاع أن يزرعها لدى كل من هم حوله من أقرباء وأصدقاء ومعارف وزوار.. لا يعترف بما تحدثه النظرة الأولى إليه من مشاعر متضاربة عند من يراه لأول مرة.. فتحس به حقاً يقفز بخفة فوق هذا الحاجز العالي ليشعرك أنك كنت لوهلة أسير مواقف مسبقة لا تليق بك كإنسان أوتي من الوعي ما يكفي للتسامي فوق أدران المادة وتشكلاتها.
إنه الفنان الدكتور وليد قارصلي الذي لم يستطع أن يتابع تخصصه في هندسة الالكترون (في الاتحاد السوفييتي ـ سابقاً) لإصابته بشلل شبه تام إثر حادث مؤسف، لا لسبب يتعلق به سوى أن الدخول إلى المخابر لا يمكن أبداً على كرسي معدني متحرك! فاضطر لذلك أن يستبدل دراسة الالكترون بدراسة الفنون وهو الآن صاحب رسالتي دكتوراه في (المرنان المغناطيسي) و(تاريخ الفن في سوريا) بالإضافة إلى ثلاثة كتب مترجمة: كردستان والقضية الكردية، قصص قصيرة لفالانتين راسبوتين، الإنسان والحضارة، وله إلى جانبها العديد من المؤلفات الموسيقية، بالإضافة إلى انتاجه الغزير من اللوحات التي تظهر هيامه بالطبيعة وحبه لها.
الفن والإعاقة
أول كلمة قالها في لقائنا: أنا فنان ليس لأني معاق، ولكن مما لا شك فيه أن الإعاقة حالت بيني وبين تنفيذ أعمال فنية أكبر. وفي رأيي أن من الخطأ القول إن هناك فن للمعاقين وفن لغير المعاقين، كخطأ القول بأدب للمرأة وأدب للرجال.. والأصح أن هناك فن جيد وفن سيء، يحمل الأول الفكرة العميقة والذوق الجمالي العالي فيثبت أنه هو الصحيح دون غيره.. أما الثاني فيعجز عن ذلك ويخبو.
وعدم الربط بين الإعاقة والفن ضروري لمن يقومون بتأهيل المعاقين وتدريبهم، عليهم أن يوفروا لهم حياة عادية ويزرعوا في نفوسهم فكرة أن لا فرق بينهم وبين الآخرين.. وخلاف ذلك فإننا نخفض من مستواهم ونعطيهم أقل مما يستحقون.
هناك العشرات من المهن والاهتمامات الحضارية يمكن تأهيل المعاقين لها كالحرف اليدوية ـ مثلاً ـ التي يمكن للمعاقين أن يبدعوا فيها أكثر لتطلبها المهارة والوقت الكافي والانقطاع التام إليها مستفيدين من الظروف التي فرضتها عليهم الإعاقة وتوظيفها ايجاباً لتطوير أدائهم.
تقبل الإعاقة والتكيف معها
ويقول: الإعاقة لا تعني البكاء على ما فات وما قد يأتي.. بالنسبة لي، تبادر إلى ذهني سؤال وحيد بعد أن عرفت حجم إصابتي، قلت للطبيب: هل هناك أمل.. معجزة طبية؟ قال لا! عرفت وقتها أن عليّ أن أفكر بمواضيع أخرى وأن أترفع عن هذا المستوى، وأعتقد أنني نجحت في ذلك. وضعت نصب عيني مهمة أساسية هي استبعاد العاطفة عن المعاناة الجسدية والفيزيولوجية، وهذا بحد ذاته كاف لتزويد الإنسان بالصبر.. رددت في نفسي: لدي طاقة محددة ينبغي علي الاستفادة منها وتوظيفها توظيفاً مدروساً.. ألغيت الحركات الزائدة التي تستهلك قسماً من الطاقة، مثلاً في غرفتي بموسكو كنت قبل أن آوي إلى فراشي أجلس وسط الغرفة وأدرس الحركات التي علي القيام بها لاختصار الجهد والوقت، وهو الشيء نفسه الذي كنت أقوم به صباح اليوم التالي.
تجربة ونصيحة
هنا أجد لزاماً علي أن أزجي النصيحة للشباب ـ قد تكون عامة ـ من يرى في نفسه إرادة لعمل ما عليه أن يحول هذا الشيء إلى عمل حقيقي له.. مثلاً لو وجد في نفسه ميلاً لكتابة الخاطرة عليه أن يركز على هذا الموضوع من جميع جوانبه حتى يمتلك موهبة الكتابة.. أو من يجد في نفسه ميلاً لحرفة معينة فإنه سيغدو بإرادته القوية حرفياً عالي المهارة.
بعد الحادث الذي وقع لي فهمت وأدركت أهمية الزمن، وصممت من وقتها على عدم إضاعة ثانية واحدة من وقتي، كانت ساعات يومي لا تخلو من هواية مفيدة.. رسم، قراءة.. استماع للموسيقا.. الاستمتاع بالطبيعة.. الالتقاء بالأصدقاء.. واكتشفت يقيناً أن الإنسان يعيش فعلاً مرة واحدة ولن يتاح له أن يعيشها ثانية فلماذا لا يعيشها كما هي.
هناك من يهوى جمع الطوابع مثلاً.. إذاً عليه أن يمارس هوايته بجد ومهارة فيدرس التواريخ والمناسبات التي ظهرت فيها هذه الطوابع والخصائص الجغرافية والبيئية للدول التي أصدرتها.. ومع مرور الوقت تتحول هوايته من أمر بسيط إلى علم قائم بذاته.. كذلك الأمر لمن يحب جمع صور الطيور، يمكنه بالطريقة ذاتها أن يصبح عالم طيور، لكن لابد أن تكون خطواته حثيثة وثابتة ومتجهة إلى الأمام وليس من الضروري أن يقفز، لأن ذلك قد يسبب له احباطاً فيستنكف عن أداء عمله.. يمكنك أن ترتب أعمالك في اليوم الواحد.. فتقود السيارة وتسبح وتعمل وتمارس هواياتك ويتبقى لك المزيد من الوقت.. أما من لا يعمل فتراه دائماً يدعي أنه ليس لديه وقت للعمل.. بالنسبة لي الغد دائماً يبدأ اليوم.
الإعاقة حرب ضد الجاذبية
خلاصة القول إن كل إنسان، قوياً كان أم ضعيفاً، قادر بالصبر والجهد والمثابرة أن يصبح إنساناً مفيداً فاعلاً، إذا عرف كيف يوظف وقته وطاقته في عمل أو هواية مفيدة يحقق فيها ذاته، فلا يقال هذا فنان معاق وآخر يمشي على قدمين! الإعاقة بالنسبة للمعاقين جسدياً حرب دائبة ضد الجاذبية.. مثلاً السباحة في الماء تأخذ جزءاً من وزن الجسد، فهي بالنسبة للمعاقين جنة يتخلصون فيها من ثقل الجزء الأكبر من الجسم ـ لذلك فإن العلاج بالماء يعد من أهم العلاجات التأهيلية لأن حركة بسيطة في الماء تستلزم جهداً يعادل خمسة أضعافها في الهواء.. والسباحة تنمي العضلات وتعيد للنفس ثقتها.
أثناء وجودي في المستشفى وبعد انتهاء العناية المشددة، تحولت دراستي من الدكتوراه في الفيزياء النووية إلى دكتوراه في تاريخ الفنون، وعملت أطروحة عن تاريخ الفنون التشكيلية في سوريا المعاصرة، وأخرى عن الفن السوري المعاصر من بداية القرن حتى سنة 1975، وكان سبب تحولي إلى هذا النوع من الدراسة ـ بكل بساطة ـ لأن المخابر وظروف الدراسة تقتضي أن تكون حراً من الأشياء المعدنية حتى خاتم الزواج، بالإضافة إلى صعوبة الانتقال من مخبر لمخبر أو من بلد إلى بلد.
من الفيزياء النووية إلى الفنون
علاقتي مع الابداع بدأت قبل الإصابة كهواية، ولم أكن جدياً فيها، كنت مهندس الكترون وأمارس هواياتي، كانت علاقتي بالعلوم الالكترونية أكثر بكثير من الفن. أما بعد الإصابة فقد أصبحت أكثر جدية وحرفية في مجال الابداع.. أثناء فترة النقاهة في المستشفى كنت أطالع كل ما تطاله يداي من كتب عن الفنون والابداع. وعندما عدت إلى بلدي سوريا سنة 1980 أقمت بعدها بسنة أول معرض فني لي في المركز الثقافي العربي ضم 90 عملاً مائياً وغرافياً، وبعدها تتالت معارضي الشخصية.
تقنيات فنية
خصصت في تلك الفترة معظم وقتي للرسم والموسيقى، وحتى الآن أقوم بانتاج أعمال فنية، إلا أنها أقل غزارة مما كانت عليه، والسبب في ذلك يعود إلى حرصي على انتقاء مواضيعي.. لدي العديد من هذا النوع الذي أطمح إليه إلا أن أوضاعي تأثرت لدرجة أنني لم أعد أرغب في رسم البورتريه، وحالياً أحاول تغيير التقنيات السابقة والمواضيع السابقة بما ينسجم مع هويتي الفنية، وقد ابتكرت بالفعل تقنيات فنية جديدة، منها: شفافية الألوان الزيتية، استخدام ملمس الخلفية كلغة تعبيرية، العمل بالسكين بدل الفرشاة.. ورغم أنها تقنية قديمة استخدمها كثيرون إلا أنني ابتكرت معها طريقة خاصة لوضع اللون.. يضاف إلى ذلك أنني جربت في الرسم كل ما وقعت عليه يداي.. لم أترك مادة لم أرسم عليها.. الورق، الكرتون، البلاستيك، الزجاج، استخدمت الحبر الصيني والألوان ورماد السجائر والقهوة!! المهم في كل هذه المواد أن تحصل على شيء جميل لا يمكن أن تحصل عليه بمواد أخرى.
أقرب إلى الواقعية والطبيعة
لا أصنف نفسي في مدرسة فنية معينة، لكن الواقعية هي الأقرب إليّ والطبيعة هي المعلم الأول.. هناك أفكار مبهرة كما تبدو للوهلة الأولى ولكنها تفقد بريقها بعد فترة قصيرة.. مثلاً، السريالية قد تبهرك بعض مواضيعها أحياناً وتفاجىء بها ولكنها بعد وقت ليس قصيراً تفقد بريقها ومباشرتها.. وخلاف ذلك فإن الواقع مؤثر أكثر من الخيال.. ولا أقصد بالواقع الفوتوغراف، بل جملة من الأحاسيس والانفعالات والانطباعات تكونها حول موضوع تشاهده إلا أنها مصنوعة ومرسومة جيدا، فمنذ أن اخترعت الكاميرا تغيرت مهمة الفنان، لم يعد النقل الفوتوغرافي أو التوثيقي هو الأهم.. ولم نعد بحاجة الآن لهذا النوع من التوثيق رغم أنه وردتنا معلومات هامة عن القرون الماضية بهذه الوسيلة.. مهمة الفنان اليوم أصبحت أصعب وعليه دائماً أن يوجد تشكيلات جديدة ويغوص أعمق وراء العلاقات الإنسانية.
أخيراً، لا أستطيع أن أنكر أبداً أن نضجي الفني وتبلور شخصيتي أتى بعد إصابتي وزد عليه تعرفي لاحقاً إلى الكثير من الأعمال الفنية المحلية والعالمية، كما لا أنكر تأثري ـ اجمالاً ـ بوالدتي الفنانة التشكيلية الانطباعية.
نذكر أن الفنان الدكتور وليد قارصلي رحمه الله كان متزوجاً وله ابن اسمه هادي درس تخصص في برمجة الكمبيوتر والرياضيات في براغ عاصمة جمهورية التشيك.
رحل الفنان التشكيلي وليد قارصلي صباح الثلاثاء 18 أبريل 2006 بعد أن عانى على امتداد عدة عقود من وضع صحي صعب لم يمنعه من الاستمرار في العطاء والإبداع… وجرى تشييعه من مشفى الطلياني بدمشق في اليوم التالي لوفاته.