هرولت روحه مع المتدافعين باتجاه الشاطىء، أطلَ شبحه من خلف أكتاف معارفه وأصدقائه الذين هرعوا لإستطلاع الخبر، استطاع التقاط قطع مبتورة من أحاديث تقيأها البعض حوله. قال أحد المتجمهرين أمام موقعه المعهود بجانب الصخرة الكبيرة التي كانت بيته ومحرابه وشاهد قبره..: “لقد كان قانعاً راضياً بكفاف يومه ، بضع سمكات يفرغها البحر في شبكته المتواضعة الحجم .. التي داوم على إصلاح تمزقاتها بشكل دائم، بأصابع فنان حنون يلم جروحها كلما نزف الخيط”.
تسلل صوت آخر من بين الجموع واختلط بالهمهمات.. أظنه فقد صوابه.. لقد تغيرت أحواله منذ وقوع بصره على تلك الساحرة، تعلق قلبه بآثار قدميها التي طبعتها على الرمال في مشوارها اليومي حول شباكه المسترخية على الأرض، كانت تمر منتصبة القامة فارعة الطول.. تسير بكبرياء من علمت وزن جمالها في ميزان النساء.. يكاد رأسها يلمس السماء، تلتَف بملاءة سوداء ترسم الكثير من ملامح جسدها المفعم بالأنوثة ، استحوذت على قلبه وعقله بمشيتها… بدلالها الأنثوي… بخطواتها المتأنية الراقصة على الرمال الساخنة.. وكأنها تجفل من حرارة تلسع قدميها.. أو ربما هو موج شعرها الأسود الفاحم الذي ما برح يرسمه في خياله، ويسلي نفسه في رحلات صيده وهو يحاول أن يتذكر كم موجة فيه..اعتاد الإبحار عليه.. امتطى موجته، منذ أن انتزعت الريح ملاءتها عن رأسها ذات يوم.. منذ تلك اللحظة خلع على نفسه لقب فارس الموج الأسود.
قبل أن يلتقيها لم يتعد طموحه الفوز بأكثر من بضع سمكات يتفوق بهن على مكاسبه في يومه السابق، لكن حلمه تفتَق منذ رؤيتها. أراد امتلاك كل شيء ظن أنه يسعدها، أراد أن يفرش الدنيا بساطاً غنياً تحت قدميها.
تذكَر كم تمنى كشف ملاءتها.. ليمشط شعرها بأصابعه التي فقدها وهو يحاول جمع مهرها، لم يكن أمامه من سبيل لمضاعفة رزقه بشكل سريع والحصول على صيد أوفر سوى استخدام المتفجرات، هكذا نصحه أحدهم، لم يعد ما يفرغه البحر في شبكته كافياً لتحقيق الحلم الذي تعجَل تحقيقه.
قال أحد الصيادين وهو ينظر إلى الأفق البعيد حيث تجمع السماء إليها أطراف الأرض: كانت أصابعه ذهبية، وذراعاه ثروته التي فاخر بها، وإرثه عن والده الذي احترف غربلة ما في الماء من خير، ولم تكن لديه النية في مزاولة لعبة سواها. ألم تشاهدوه في حفل زفاف ابن شيخ القرية كيف رقص بالعصا مستعرضاً؟ نفث ذات الرجل حزناً وبثَ آهة أسىٍ ثقيلة.. مستطرداً بحديثه ، لقد كانت يداه أداة رزقه وكنزه ومصدر دفئه.
صاح أحد الحضور مستنكراً لماذا لم تخبروني من قبل أنه كان ينوي ابتياع المتفجرات من معسكر الجيش الإنجليزي ليستخدمها في الصيد؟ يبيع هؤلاء الأوغاد ذخيرتهم مقابل ثمن مشروب السم الذي يسكبونه في أجوافهم ليسكت شعورهم بالجوع النهم لحياة الترف التي اعتادوها وفقدوا مذاقها في بيئتنا البسيطة.
لوكنت على علم لما أقرضته المال.. أصر على رهن شبكته مقابل بعض الدراهم، ظننت أنه أرادها ليصلح عطباً في قاربه. لم أكن أعلم أنه أرادها ليشتري بها ما يفجَر به مستقبله، ويقطع به طريق الفرح المنساب من قلبه عبر ذراعه، لقد مات صديقنا مختنقاً من أصابعه قبل أن يبتلعه البحر.
وجد نفسه يشاركهم الحديث ناسياً أن صوته ذاب مع زبد الشاطيء إلى الأبد.. لم يبتلع البحر جسدي، ولم يستسغ مرارته إلا بعدما وقع نظرها على ساعديَ المبتورين .. أفرغت من عينيها اشمئزازاً وقرفاً.. انتفض وجهها بحركة سريعة تشبه مذاق مزيج من الليمون والحنظل، وأصدرت بيانها السريع ودون تلكؤ، المهر الذي اتفقنا عليه لم يعد يليق بي.
تمتم بصوت لم يغادر شفتيه.. حقاً.. كيف ستتقاسمين رحلتك مع رجل فقد ساعديه؟ كيف يستطيع المرء أن يحتضن شراهتك إلى ما لا تملكين؟ تذكَر أنه سكب مرةً في أذنها أن أجمل ما يقوله العشاق يمر خلال أصابعهم ويسقط على مواطن الدفء في المعشوق. ووعدها عندئذ أن تقول أصابعه لشعرها كلاماً لم تسمعه من قبل. هي أيضاً كانت تحلم.. ولكن حلمها كان أكبر بكثير من مسافة امتداد ذراعيه.
لم يكن أمامه من خيار بعد أن فقد أدوات كرامته، إلا أن يرضخ تحت إصرار رفاق الصيد، وأن يقبل بمشاركتهم واقتسام ما تجود بها كفا البحر عليهم بالتساوي مقابل أن يعمل كدليل لهم، حيث حفظ عن ظهر قلب تضاريس الحيد المرجاني، وأين تهاجر رفوف الأسماك، وأين يكون سخاء البحر في أوجه.
عندما عاد من آخر رحلة صيد، لمح تجمهراً قرب الشاطيء تعجَل استطلاع الخبر.. قفز من القارب، وشقَ بقية طريقه في الماء.. كانت هناك أصوات متداخلة.. جلبة.. وقدور.. ذبائح، وخيل.. وشيوخ العشائر وكبار القوم. تساءل عن الخبر.. لم يجرؤ أن يخبره أحدهم. لكن البحر استطاع أن يجمع شجاعته، عانقه عناقاً حاراً.. ضمَه إلى صدره.. وهو يقول له: تجلَد يا ولدي، لقد اختارت مشطاً آخر.