إلى روحها الصغيرة المصلوبة على جبين الشمس في أفغانستان
ترتِّقين ُرقَع القلب بخبايا النحيب..
أنتِ هنا..
بإمكان جسدكِ أن يثبت حضوره وهو يطعن الفراغ ويملؤه ظلالاً واهية، بإمكانهم هم أيضاً أن يثبتوا حضورك بألف دليل، لا أسهل من صورة في جوالاتهم الغبية تثبت احتشاد أضلاعك وأنسجتك وبقايا أنفاسك المحترقة في مكان واحد.. لكن هل حقاً أنت هنا؟؟
الروح الغائرة في أتون الوجع.. المنصهرة في بوتقة المحرمات… هل يستطيع أحد أن يثبت وجودها فعلاً؟
تسمعين صوت التقاط الصور.. نجمة أنت تعتلي جبهة أخبار الصباح الآثم.. كنتِ نجمة وما زلتِ.. لكن نجوميتك الآن من صنعهم.. مادة موجعة لقراء الأخبار.. ومتابعي الكوارث، أولئك الذين يتأوهون بنفس البراعة التي يأكلون بها بأدواتهم المتحضرة جداً، بينما لا تعرفين سوى أصابعك أداة لازدراد وجبتك التي لا تتغير.. منذ عصور.
أنت تدركين أن هناك من استلب روحك وامتص رحيق أمانيك المبعثرة على ضفاف الزمن.. لكن هل هم يدركون؟؟
********
آه يا أمي….
رشقوني بالنار باسم الله… هل يعرفون الله حقاً…؟
أعاثوا في روحي فساداً باسم الدين.. هل هم متدينون فعلاً؟
أولئك الذين في آذانهم وقر… مزقوا إنسانيتي واحتفلوا.. وشربوا نخب موتي مرتين.. لماذا؟؟؟
يا الله…
لو أنك تمسخهم قردة.. لو أنك تمزق روحهم كما فعلوا بي.. يا الله.. لا أريد أن أغفر لهم.. أريد لهم عذاباً مثل عذابي.. أريد لهم أن يتقوقعوا داخل أجسادهم المهزومة.. يبحثوا عن بقايا أرواحهم.. دون أن يجدوا دليلاً على بقائها..
أريد لهم أن يفقدوا يقينهم بالحياة.. بالأمل.. بالمستقبل.. أريد لهم شللاً مثل شللي وأنا أعجز عن ارتكاب خطوة واحدة بأي اتجاه.. حتى ولو للخلف.. أمنح فيه نفسي دليلاً بشعاً بأنني ما زلت قيد آخر نفس.. لم أبذله بعد.
********
أنا ليلى…
ليلى التي لم تكمل ربيعها الثالث عشر.. إلا وانقلب شتاءً حللت أمطاره الحمضية بقايا ملامح طفولتي.. كنت ألعبُ مع صديقاتي على تلك المصطبة، جريتُ وركضتْ ورائي صديقتي مهرة، أسرعتُ بخطاي بعيداً عنها.. أنا ليلى التي أسابق خيولَ الضوء.. وأسبقها، اختفى طيف مهرة، ووجدت نفسي وحدي في حقول اللوز.
رفعت عينيَّ للشمس فابتسمت.. ودرتُ حول نفسي واستدار ثوبي معي.. وسرقت أجنحة الريح وحلقتُ حيثُ الغمام يسامر طيور البر، وضحكتُ فضج الكون بصوت ضحكتي، رمقتني أمي غاضبة.. فابتلعت بقية الضحكة.. لكن الشمس دغدغتني وأجبرتني على القهقهة ثانية.
كانوا عندها يخرجون من دارنا، رجال بشفاه زرقاء وملامح فولاذية، أصغرهم نظر إلى متوعداً، اعتراني الخوف لوهلة، لكنني لا أعرفه، فلماذا عليّ أن أخافه؟! استدرت وأكملت ضحكتي، وأسررتُ في أذن الشمس: إنهم مخيفون – ذوو الشفاه الزرقاء – لكنني لا أخافهم..
تمطتْ الشمس كثيراً فوق ابتسامتي ولم تجبْ.
أنا ليلى
لا أحد يسابقُ ليلى
تعودتُ أن أنبثق كما الضوء في كل الاتجاهات.. وألا أنكسر على الأسطح الشفافة، ولا حتى القاتمة، تتخاذل الجدران عن الوقوف في وجهي كل مرة أتلو فيها دعاء الحاجة، وأتجه صوب هدفي دون تردد.
المرتبة الأولى لي دائماً.. في المدرسة، في السباق، في التهام طبقي.. في كل شيء، أنا دائماً في المرتبة الأولى.
تركض أختي تناديني.. أمي تريدني على وجه السرعة..
أركض ومن لوجه السرعة بأقدام عجلى مثل قدميَّ؟
.. دقائق واخترق الباب فخورة بأنني سابقت الضوء إليها.
وجه أمي متغير.. وجه أمي شاحب.. يكاد يصبح برتقالياً.
تشير بسبابتها نحو الباب.. لا خروج بعد اليوم.
تصطادني كل المشاعر الموجعة.. لماذا عليك أن تحبسيني أمي؟ هل أخطأتُ؟ هل ابتعدتُ؟ هل ناديتني ولم أجبْ؟ هل كلمتُ ولداً؟ هل طار ثوبي بنفخة من الريح؟ أنا أرتدي بنطالاً عريضاً تحت ثوبي لن تفضح أنوثتي المختبئة ريحٌ يا أمي.. فلماذا؟
يستدير أبي دون صوت.. لكن بعينين مليئتين بالحيرة.
تردُّ أمي بصوت أسمعه من عينيها.. بأنه ليس من شأني أن أعرف كل شيء.. أجرُّ قدمي باتجاه الغرفة الأخرى، والأخيرة في البيت، أمتشق خيبتي وفراشاً أرضياً أتمدد عليه كل ليلة بانتظار صباحي الجميل.
لماذا تحبسين روحي؟
تفتقدني الشمس صباحاً، وباب المنزل مغلقٌ دوني، الجانب الآخر من الحياة صار ممنوعاً علي، الشمس.. صديقتي الشمس تختلس محادثتي من النافذة، أنظف الصحون، أمسح الأرض.. أفعل كل ما أظن أنه سيرضي أمي لعلي أقبلُّ جبين الشمس ثانية، وأعود إلى مدرستي وصديقاتي.. ولا فائدة.. الباب موصد جيداً.. تحرسه عينا أمي بصرامة لم أعتدها منها.
يوم ويليه يوم ويليه يوم آخر..، والشمس تلثم خدي صباحاً وتبتعد لئلا تمسك بها أمي متلبسة بالحضور، وأنا أعدُّ الجدران، أعدُّ المساميرَ على الجدران.. أحسبُ محيط الغرفة.. ولا شيء يحسبني حية.. متُّ.. متُّ دون شمسي ومدرستي وصويحباتي.
طرقاتٌ على الباب.. أركضُ باتجاهه، تزجرني نظرات أمي، فأتوقف حيث أنا، وتفتحُ هي الباب، تتلوى شفتي غصباً عني، تتمطى عن آخرها بشبه ابتسامة وأنا أرى معلمتي تقفُ على العتبة، تدعوها أمي للدخول، تتحدثان، تصلني كلمات متقطعة وتغيبُ أخرى، أفهم أن معلمتي ترجو أمي بأن تدعني أذهب إلى المدرسة.. تفتقدُ المرتبة الأولى صاحبتها، يفتقدُ المقعد صديقته، والكتاب يقيمُ عزاءً لملمس يدي فوق صفحاته، ألمح أمي تمسح دمعة عن خدها، يا إلهي ما الذي يبكي أمي؟!
تتابعان الكلام.. تبتسمان.. تضم المعلمة أمي بفخر، يعتريني أمل بأن أمي ستتركني أذهب إلى المدرسة في اليوم التالي.
أمي لا تخيّب ظني، أرتدي ثيابي، تحذرني من التوقف في الطريق، تحذرني من الحديث مع الغرباء، تأمرني بأن أظل ملتصقة بأختي التي تصغرني، أتوجسُ شراً من كل تلك التوصيات الغريبة، كل تلك التفاصيل بعيدة عما عهدته منها… لكن لا بأس.. سأعود إلى مدرستي.. سأعود إلى عناق الشمس، إلى القهقهة عالياً بينما تداعبني بأصابع دفئها.
أخطو إلى مدرستي كما لو أنني للمرة الأولى أفعل، خطاي ترتجف، أرى في الطريق ما لم أره قبل اليوم، من أين أتى هذا النبات الشوكي اللعين إلى هنا؟ متى حفرت هذه الحفرة في الطريق؟ أين كل تلك الطيور التي كانت تنقط وجه السماء؟ لماذا للأشياء وجه شاحب.. شاحب.. يكاد يكون برتقالياً؟
أنهيتُ يومي الدراسي وعدتُ على وجه السرعة، لا أريد لأمي أن تقلق.. أستطيع أن أقرأ القلق في عينيها، هناك شيء تخفيه ويتعلق بي، هناك شيء يخيفها.. لا أستطيع أن أحدد ماهيته.
تفتح الباب بيدها السمراء، تطل علي، تمسحني نظراتها كأنما هي تتأكد من أنني لم أنسّ قطعة مني في المدرسة، العينان واليدان والقدمان موجودة كلها، تشدني إلى الداخل بسرعة كأنما هي تختلسني من الشمس وتغلق الباب، مرة أخرى لا أفهم سبباً لهذا السلوك الغريب.
صباح آخر.. نفس التوصيات الغريبة مرة أخرى، أمي ترافقني حتى الباب، أخترق حدود الخوف لأعانق الشمس، وتبقى هي متسمرة تراقب ظلي وهو يتلاشى، النبات الشوكي على الطريق أصبح أكبر، الأشواك أصبحت مدببة أكثر، الشوك يعتري كل شيء حتى يكاد ينبت في حلقي، والطيور تتلاشى شيئاً فشيئاً وتترك السماء في رمادية عريها الفاضح، الشمس لا تعانقني اليوم بل تختبئ في قلب ظلها، حتى أختي.. ركضت خلف تلال الفرح وتركتني وحيدة بين براثن الشوك، فجأة أحس بقبضة معدنية تمسك بقلبي، تعصره بقوة، تزداد دقات قلبي، ويقلبني الوجع على مائدة الخوف، تنبثق في وجهي آلاف الملامح الفولاذية، بينما أبحث فقط عن ملامح أمي، ولا أجدها، تصب الشمس لعنة لهيبها على وجهي، يحترق وجهي، تلسعني النار، لماذا يا شمس.. ألم تكوني صديقتي؟ تنكمش ملامحي، أفقد الرؤية، أفقد التوزان، أفقد كل شيء، وأسمع صراخ أختي: ابتعدوا أيها الكلاب.. أحدهم يهمس في أذني:
هذا ثمن رفضكم تزويجي بك يا قذرة؟؟
من هذا؟ لماذا يريد الزواج مني؟ ولماذا يحرقني الآن؟ ألف سؤال ينبت في رأسي، ويتلاشى في وقت واحد، أفقد كل شيء.. وأضيع.. أضيع وأتلاشى بين خيوط السحاب.
مصلوبة على جبين الشمس
القصة الفائزة بالجائزة الأولى لأدب المهجر في هولندا