حق التجربة في الفن ـ حق مطلق ومقدس، ومن دون ذلك، يتحجر الفن في قوالب جامدة ومحنطة، ويصبح عاجزاً عن الوفاء بحاجة التعبير عن هموم اللحظة الحضارية، والكشف عن التناقضات الجوهرية للواقع الاجتماعي، والنفاذ إلى أعماق الحياة، دائمة التغيّر والتحول.
الفن لا يصدر من معاناة قوية للواقع فقط، بل لابد له أيضاً من اكتساب شكل موضوعي ملائم. وما يبدو من حرية الفنان وسهولة أدائه، إنما هو نتيجة لتحكمه في مادته. وهذا التحكم، إن هو إلا ثمرة لتجارب إبداعية مضنية، وابتكار أشكال جديدة لاحتواء المضامين الجديدة، التي لا تستوعبها الأشكال المستهلكة. وربما لا نجانب الصواب، إذا قلنا إنه ليس ثمة فن عظيم بلا تجارب عظيمة وجريئة على صعيد الأشكال الفنية، والأساليب، والأدوات التعبيرية.
كان تطور الفن الروائي ـ كأي فن آخر ـ مرتبطاً دوماً بتجارب إبداعية جديدة ورائدة. ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد تجارب الروائيين الكلاسيكيين الروس والفرنسيين، وتجارب الروائيين المحدثين: (يوليسيس) لجيمس جويس، و(البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، والروايات الثلاث (القصر) و(المحاكمة) و(أميركا) لفرانز كافكا، وروايات اخرى كثيرة.
ولكن بعض التجارب الشكلية العقيمة في الإبداع الروائي، التي يصعب قراءتها ـ ليس لأنها جديدة على صعيد الشكل والمضمون، بل لأنها -على النقيض من أنواع الروايات الإبداعية – أجزاء مفككة، وليس فيها حبكة سردية واضحة، ويغيب عنها منطق السبب والنتيجة، ولا يعرف القارئ من هو البطل، حيث يتركز الاهتمام على الأسلوب أو الشكل والهيكل. وهي تجارب صاحبتها ضجة اعلامية هائلة، وأصابت القراء ـ حتى المثقفين منهم، المتابعين لكل ما هو جديد حقاً في الأدب العالمي – بخيبة أمل شديدة.
قال جان بول سارتر على إثر أفول موجة (الرواية الجديدة): (إن الرواية قد وصلت إلى طريق مسدود، وإنها في طريقها إلى الزوال، وهي الآن تحتضر، وتفقد يوماً بعد آخر أهميتها ومكانتها، ولن يمضي زمن طويل حتى تحل محلها الألوان الفنية والأدبية الجديدة الأكثر قدرة على التعبير عن روح العصر، وعلى التواصل والتأثير. وإن الادب الوثائقي أو التسجيلي هو أدب المستقبل، لأنه أكثر استجابة لمتطلبات المجتمع، وحاجات العصر).
كان سارتر على حق حين تنبأ ببروز الرواية الوثائقية، التي احتلت في السنوات اللاحقة مكانة بارزة في الأدب الروائي، ولعل منح جائزة نوبل في الآداب لعام 2015 إلى الكاتبة البيلاروسية سيفتلاننا الكسيفيتش خير دليل على ذلك، وهي التي لم تكتب خلال رحلتها الأدبية التي ناهزت ثلاثين عاماً، سوى الروايات الوثائقية. الكسيفيتش تلتقي مئات الأشخاص وتستمع إلى مئات القصص الموجعة التي تمزق القلب، وتنتقي الحوادث والحقائق الأكثر أهمية، وتعيد صياغتها بشكل فني، ورواياتها لا تقل روعة وتأثيراً عن أي رواية كلاسيكية جيدة.
الرواية بشتى أنواعها، وخاصة الرواية الخيالية لم تصل إلى طريق مسدود، على خلاف توقعات سارتر. وهي عصية على الموت. ولكنها تأثرت إلى حد بعيد بالتطورات العاصفة التي حدثت في وسائل الإتصال الجماهيري (السينما، والإذاعة، والتلفزيون، والإنترنيت، والوسائط المتعددة) التي أصبحت مصادر أساسية لتقديم المعلومات وتلبية الحاجات الجمالية والثقافية للإنسان. ذلك لأن هذه الفنون الجديدة ـ وهي وليدة التورة المعاصرة في العلم والتكنولوجيا ـ تتميز عن الفنون الكلاسيكية، وفي مقدمتها الرواية بعدة خصائص بالغة الأهمية. فهي قبل كل شيء فنون تتمتع بحيوية فائقة، وسرعة عظيمة تجعل الفاصل الزمني بين خلق الأعمال الفنية، وبين تقديمها إلى المتلقي قصيراً للغاية، بينما كان هذا الفاصل، وما يزال طويلاً إلى حد كبير بالنسبة إلى الرواية الورقية المطبوعة. لنقارن مثلاً بين نقل أحد العروض المسرحية عن طريق التلفزيون، وبين دفع الرواية المخطوطة إلى المطبعة، والمدة الزمنية التي تستغرقها عملية الطباعة والنشر والتوزيع، وأخيراً اقتناء الرواية من قبل القارئ، وتفرغه لقراءتها.
ويمكن القول إن هذه الفنون قد ساعدت على إشاعة الديمقراطية الثقافية، وأتاحت الفرصة لملايين البشر للاطلاع على النتاجات الفنية، بعد أن كانت هذه النتاجات حكراً على فئة صغيرة من المثقفين. وعلى الرغم من الزيادة المضطردة في أوقات الفراغ التي وفرها التقدم العلمي ـ التكنولوجي، إلا أن وسائل الاتصال والاعلام الحديثة مثل التلفزيون والإنترنيت، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، تستحوذ على الجزء الأكبر من أوقات الفراغ لدى الجمهور الواسع – رغم أنها وسائل سلبية، لا تترك أثراً في النفس، ولا حاصلاً في الذهن – ذلك لأن هذه الوسائل لا تتطلب إلا جهداً ضئيلاً لاستيعاب البرامج، التي تقدم من خلالها. وهذا أمر مهم للغاية، لأن الحياة المعاصرة تميل إلى التعقيد والتشابك، وتفرض على الإنسان ضريبة باهظة من ذهنه وأعصابه، وتحاصره، وتسلب حواسه ووقته بشتى الوسائل. ولهذا السبب تحديداً نجد الإنسان المعاصر لا يملك الوقت الكافي للقراءة، إلا في فترات قصيرة وعابرة (في القطار أو الباص أو الطائرة أو قاعات الانتظار). وقلما نجد اليوم شخصاً يخصص أمسية كاملة لقراءة رواية ما – إذا استثنينا بطبيعة الحال محترفي الأدب، ونحن نتحدث هنا عن المتلقي العادي. ولم يحدث في التأريخ قط أن مارس فن من الفنون تأثيراً عظيماً كالذي تمارسه اليوم وسائل الإتصال الحديثة.
لم يعد القارئ يبحث اليوم في الرواية عن الجوانب الغامضة لحياة الفرد أو المجتمع في هذا البلد أو ذاك، أي أنها لم تعد المصدر الوحيد للمعلومات، كما كانت في الماضي. فثمة وسائل أخرى كثيرة أكثر قدرة على التوصيل الآني السريع. كما أن الرواية تخلت عن القيام بالوظائف التي أصبحت اليوم مادة لبعض العلوم الإنسانية كعلم النفس مثلاً. ولكن للرواية وظائف أخرى لا يمكن أن تنهض بها العلوم الإنسانية، ولا الوسائل الإعلامية، ولا الفنون الأخرى مجتمعة.
ومن هذه الوظائف وصف وتحليل النفس البشرية في أدق خلجاتها وأوعى أحاسيسها، والتي تختلف عن أية نفس بشرية أخرى.
إن وظائف، الرواية كما الفنون الأخرى لا بد أن تكون فردية، ممعنة في الفردية، على العكس من وظائف العلوم الإنسانية، التي تميل بطبيعتها إلى التعميم. كما أن الرواية تقوم في الوقت ذاته بتحديد المعايير الجمالية والأخلاقية، والبحث عن معنى الحياة، ومصير المجتمع الإنساني. لهذا فإن الرواية لا يمكن أن تموت أبداً. فليس ثمة مجال علمي واحد يمكن أن ينهض بهذه الوظائف جميعاً.
إن الباحث العلمي ـ بصرف النظر عن المجال الذي يعمل فيه ـ يحاول الالتزام بأقصى درجات الموضوعية، وذاتيته المتفردة تخضع لمنهج البحث وأهدافه. أما الكاتب الروائي فإنه يحاول التعبير عن ذاته المتفردة بأعماله الإبداعية. ولهذا فإن هذه الأعمال تعبر عن علاقة الكاتب الذاتية بعالم الحقائق والقيم والأفكار، التي تتكون منها الحياة الإنسانية. ولهذا السبب تحديداً، نجد أن النصوص العلمية تفقد أهميتها بمرور الزمن، أما روائع الآثار الفنية فإنها خالدة. فالحقائق العلمية الجديدة تنفي سابقاتها، أو تصححها، أو تعمقها. ولكن لا يمكن لأية حقائق جديدة أن تسلب الآثار الفنية قيمتها وأهميتها.
حقاً إن الروايات العظيمة تشكل مصدراً مهماً للمعلومات عن العصور التاريخية، كروايات تولستوي ومسرحيات شكسبير على سبيل المثال. ولكن القيمة الفنية لهذه الأعمال لا تتضاءل مع تعاظم معلوماتنا عن نابليون أو ريتشارد الثالث عن طريق المصادر التاريخية الموثوقة. وثمة مجالات فكرية وثقافية واسعة ـ تعالجها الرواية – ليس بوسع السينما أو التلفزيون أو أي وسيلة فنية أخرى أن تقتحمها. ولكن وجود هذه المنافسة يجب ان يكون حافزاً للبحث عن أشكال جديدة لاحتواء المضامين الجديدة. وهذا يعني أن كتابة الرواية اليوم هي أصعب من أي وقت مضى.
لا يمكن للروائي المعاصر أن يكتب روايته، كما كان يكتبها تولستوي او بلزاك أو فلوبير، أو حتى جويس أو بروست أو كافكا. لأن الأدب الروائي كأي نشاط فكري وفني آخر للبشر وثيق الصلة بالظروف التاريخية. وأن القوانين والأساليب والأنماط الإبداعية في أي مجال من مجالات النشاط الفكري الإنساني دائمة التغيّر والتطور. ولكن إذا كانت مهمة الرواية قد أصبحت أكثر صعوبة وتعقيداً، فإن ذلك يجب ألا يقود الروائي إلى التخلي عن المحاولات الإبداعية التجريبية. وليس ثمة طريقة أخرى لاحتفاظ الرواية بمكانتها المتقدمة بين الأجناس الأدبية، وازدهارها في العصر الرقمي، سوى البحث عن أشكال تعبيرية جديدة أكثر قدرة على التوصيل.
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.