سار ستار مبتعداً عن صفه الذي يدرس فيه، بخطى واثقة، بطيئة ومدروسة كمن يمشي في جنازة، في الممر الضيق المؤدي إلى غرفة معاون مدير مدرسة الانتفاضة الابتدائية، في صباح كانت فيه الشمس الحارقة سيدة الكون دون منازع، وستار بملابسه العتيقة، الرخيصة التي لا تعبر عن زمن ارتدائها وألوانها التي لم تعرف حقيقتها لقدمها.
كانت الحياة في منتصف السبعينات مزيجاً من الفقر والجوع والجهل العام المهيمن على صحة ونفوس العراقيين والظلم والقهر القابع في القلوب والمعجون بالقمع والقسوة لكل من يقول أو يتفوه بكلمة لا تريد الحكومة – عذراً – أقصد العصابة الحاكمة وقتذاك سماعها…
كان ستار ابن المرحوم ماهر، الذي كان يمتهن الحدادة، والمعروف بسمعته الطيبة، كفقره، لم يتجاوز ستار الثانية عشرة من العمر، نحيف الجسم، كفتيل قنديل مستعمل، وسمرته الداكنة أعطته مسحة من الحزن، أضيفت إلى رصيده الشخصي في التعاسة والفقر، قليل الخبرة، ضعيف الشخصية، كأي طفل عراقي في وقته وسنه، يتابع سيره باتجاه غرفة المعاون الذي يتأمل فيه خيراً وعوناً…
في خلده كانت أمنية وجدها سهلة التحقيق، وأثناء سيره، لم يكن يفكر إلا بالساعات التي سيقضيها بعد أن يوافق معاون المدرسة على ما يفكر فيه أو السبب الذي دعاه ومن أجله يريد لقاءه والمثول بين يديه…
وفي طريقه بالممر الطويل الذي يفصل صفه بغرفة المعاون، التقى معلم التأريخ (الأستاذ خلف) ذلك الشاب الرزين، الرياضي، ذو الكفين والكتفين العريضين وكأنهما يعودان إلى خباز أو سباح، حليق الوجه، قصير الشعر، بعينين غير مرحتين كعيني ثور صغير، وأنفه يشبه أنف الصقر وقد أنسد منخراه بشعر كثيف أسود فظهر نافراً متملصاً متلصصاً ومتدلياً من أنفه كالأسلاك السائبة، بصوته المبحوح، المجروح العالي الذي يرن ويصدح في الآفاق كلما تحدث، ويجلس في أصبعه الثالث من يده اليسرى خاتم ذهب كبير يخطف البصر يلمع؛ فسألَ ستار بسرعة وبأسلوب لين أقرب إلى الإغراء والترغيب بعد أن أجبره على التوقف:
ـ لماذا أنت هنا؟
ثم عدل من صيغة سؤاله مضيفاً:
ـ أقصد لماذا تركت صفك في هذا الوقت المبكر من الصباح؟
أجابه بنبرة مسحوقة كالنجوى:
ـ معذرةً أستاذ، أنا جئت بغية رؤية السيد المعاون في أمر يخصني!!
كأحد زبانية جهنم، قال بعدم اقتناع ممتقعاً:
ـ ماذا؟ وتقول أمر يخصك وأمامي!! هكذا، بكل علانية ووقاحة!!
منكساً رأسه بخوف ووجل ويهز رأسه علامة الإحباط:
ـ أنا آسف يا أستاذ!!
بانفعال أبعد عن العقل وبصوت أقرب إلى التهديد جعجع:
ـ آسف… على ماذا؟!
مخذولاً بقهر وهو يحرك يده بالهواء دليل الحيرة والارتباك:
ـ لا أعرف!! لكنني… أنا… أقصد، جئت لمقابلة السيد المعاون!!
وماذا بعد؟ وعيناه متوهجتان بالغضب والحنق.
ـ قبل فترة شاركنا في حملة عمل شعبي كما تعلم، وكنت أنا من ضمن الطلبة الذين ساعدوا في بناء مدرسة أبو منصور الابتدائية، حتى أنك كنت الأستاذ المشرف على الحملة… قال ستار ذلك كله مندفعاً وكأنه بهذا الحديث مختنق، فأرتاح بعد أن باح ما في خلده وصمت.
– وما دخل ما قلته برغبتك في لقاء السيد معاون المدير؟!
مهتاجاً:
ـ المسألة… أعني، لا أستطيع أن أقول لك لماذا!! أرجو عفوك…
ـ إن لم تقل لي لماذا، سوف لن أجعلك تقابله!!
احتار ستار في أمره، برهبة نظر له ثم إلى الأرض مرتبكاً ورد بحذر:
ـ جئت لأطلب لنفسي إجازة من المدرسة لهذا اليوم!!
خرج الأستاذ عن طوره، صرخ به مزمجراً بجنون وكأنه مس كرامته:
ـ إجازة!!
بهيبة:
ـ نعم، لأنني وعدت أمي بذلك.
بدهشة وصلت حد الإنكار:
ـ أمك!! ثم أردف بقسوة أقرب إلى الأذى: هل تريد أن تضحك عليّ يا ولد؟ ما دخل أمك في شؤون المدرسة ونظامها؟
تردد ستار كثيراً قبل أن يجيب، وبعد فترة ثقيلة من الصمت ناح بهمس:
ـ لذلك قلت لك أريد رؤية السيد المعاون شخصياً!!
فزاد رد ستار غضب الأستاذ…
– لقد زادت وقاحتك وتعدت حدودها، لا يمكن السكوت عليك بعد الآن أبداً!! ثم تابع مندفعاً: لن أسمح لكَ بمقابلة السيد المعاون، وعليك أن تعرف أن المدرسة لها قوانينها وحرمتها، لذلك يجب أن تقول لي لماذا تريد مقابلته؟
اهتز بدن ستار خوفاً، تلكأ بالرد ثم أجاب مقتضباً:
ـ الحقيقة يا أستاذ أن أمي بحاجة لمن يساعدها في ترميم سطح البيت الذي نسكنه، حيث كلما أمطرت السماء غرقت غرفنا، لذلك ترجتني لمساعدتها في إصلاح السطح مع أخي الكبير، اعتماداً على خبرتي التي جمعتها أثناء عملي في بناء مدرسة أبو منصور كما تعلم…
ثم بصوت مخدوش:
ـ هذا كل ما في الأمر…
وما أن أنهى كلماته الأخيرة، حتى نزلت على خده صفعة قوية من كف معلم التأريخ الذي فقد أعصابه وهو يستمع إلى تبريرات الطالب ستار بغية حصوله على إجازة كي يساعد أمه في ترميم سطح بيتهم، وهاج وماج صارخاً به، بعد أن أشفى غليله بتلك الصفعة القاسية التي حولت خد ستار إلى قطعة متوهجة حمراء ملتهبة من اللحم:
ـ أنت يا فتيلة القنديل المحترقة التي لا تقوى حتى على الاشتعال، تريد أن ترفع الطابوق والأسمنت والجص والطين؟ هل تريد أن تغشنا؟ أنت الذي لا يقوى على الوقوف تريد أن تفعل كل ذلك؟ يا لك من طالب مخادع، كاذب وسخيف…
ثم صرخ به آمراً:
ـ اذهب إلى صفك وأكمل يومك المدرسي وبعدها اذهب إلى أمك التي تنتظرك يا فتيل القنديل، هيا تحرك ولا تنظر لي هكذا كالأبله…
ذاب ستار بالصمت ولاذ به بعد أن ترقرقت عيناه بدموعه وسالت بلوعة وحرقة على خده الملتهب، وهو يتحرك باتجاه صفه متحطماً، مقهوراً ومخذولاً… ليس لأنه تلقى صفعة قوية عند الصباح دون ذنب، بل لأن الأستاذ خلفاً لم يصدقه!!
من مواليد بغداد 1965
مهندس زراعي، مقيم في ألمانيا منذ نحو 24 عاماً
متزوج ولي ولدان،
أصدرت عن دار شمس بالقاهرة مجموعتين قصصيتين هما:
- الهروب إلى الجحيم
- الموتى لا يتكلمون
ولي نتاج قصصي ثالث تحت التأليف بعنوان عجائب يا زمن.