في أحد الأيام كان هناك طفل ورجل يتمشيان على شاطئ البحر حين وجد الطفل محارة صغيرة، فأمسك بها ورفعها إلى أذنه. فجأة سمع أصواتاً غريبة وخفيضة وشجية وكأن تلك المحارة كانت تتذكر وتعيد لنفسها همهمات بيتها قي أعماق المحيط! أستغرب الطفل كثيراً وهو يصغي لتلك الأصوات، ففي داخل تلك المحارة الصغيرة كان هناك صوت من عالم آخر ظل الطفل يصغي ببهجة لموسيقاه وغموضه. بعدئذ جاء دور الرجل ليوضح بأن الطفل لم يستمع لأي شيء غريب، وأن المنحنيات اللؤلؤية للمحارة قد حبست مجموعة كبيرة من الأصوات الضعيفة التي لا تدركها الأذن البشرية بسهولة وملأت التجاويف واهنة الإضاءة بهمهمة الأصداء التي لا تعد ولا تحصى. ولم يكن ذلك عالماً جديداً إنما كان تناغماً مبهماً لعالم قديم حفز استغراب الطفل!
إن مثل هذه التجربة تنتظرنا ونحن نهم بدراسة الأدب الذي يتميز بسمتين أولاهما تحقيق المتعة والإعجاب وثانيهما التحليل والوصف الدقيق. على سبيل المثال دع أغنية قصيرة تروق لأذنك أو كتاباً ذائع الصيت يروق لقلبك، عندئذ سوف تقوم في هذه اللحظة في الأقل باكتشاف عالم جديد ـ عالم يختلف كثيراً عن عالمنا فهو مكان يعج بالأحلام والسحر. إن من الأولويات الدخول إلى هذا العالم الجديد والتمتع به فضلاً عن الولع بقراءة الكتب لما يعوّل على القراءة من أهمية. أما تحليل الكتب وتوضيحها فأمر مهم أيضاً لكنه أقل متعة! ولا شك أن وراء كل كتاب يكمن العرق وخلف العرق هناك البيئات الطبيعية والاجتماعية التي ينعكس أثرها على نحو لاشعوري.
وإذا رغبنا بلوغ الرسالة الشاملة التي يحملها الكتاب في طياته فعلينا أن نعرف تلك السمات كلها. باختصار لقد وصلنا الآن إلى نقطة نتطلع من خلالها إلى فهم الأدب والاستمتاع به وأن الخطوة الأولى تكمن في تحديد بعض صفات الأدب الأساسية.
أول سمة هامة للأدب هي الصفة الفنية للأجناس الأدبية كافة، وأنواع الفن بمجملها هي تعبير عن الحياة بصفتي الحقيقة والجمال أو أنها انعكاس لبعض الحقيقة والجمال الماثلان في هذا العالم، لكنهما يظلان بعيدين عن الملاحظة إلى أن تقوم روح إنسانية حساسة بجلب انتباهنا إليهما تماماً مثلما تعكس الانحناءات الرقيقة للمحارة أصواتاً وتناغمات تصعب ملاحظتها بسبب أصواتها الخفيضة. في هذا الشأن ربما يمر مائة شخص بحقل للقش فيشاهدوا العمل الشاق فحسب مجسداً أمامهم فضلاً عن كوم الحشيش الجاف. لكن هناك شخص أخر يمر بمرج روماني تعمل فيه فتيات في حقل القش وهن يغنين فيلقي نظرة عميقة للغاية ليرى الحقيقة والجمال فيما لا نرى نحن سوى الحشائش الجافة ليطلق بعدها العنان لتفكيره فيصوغ ما يراه بقصيدة قصيرة يخبرنا فيها القش عن قصته الخاصة:
كنت أزهاراً يوم أمس.
لقد شربت آخر جرعة من شراب الندى الحلو،
العذارى قدمن وغنين لموتي
القمر ينظر إلي ويراني مكفناً
بكفن نداي الأخير.
أزهار الأمس التي ما تزال في داخلي
لابد أن تعوّض أزهار الغد جميعاً،
والعذارى أيضا اللائي غنين لموتي
لابد أن يمهدن لكل العذارى القادمات.
وروحي مثل روحهن
سوف تحمل عطر الأيام الخوالي.
ربما تمر عذارى الغد من هنا
ولن يتذكرن أزهاري يوماً.
الأزهار الجديدة وحدها من يرونها
وسوف يتذكرن روحي المحملة بالعطر
ذكرى عطرة تذكّر النساء بأيام الصبا.
وسوف يشعرن بعدها بالأسى
لأنهن غنين لموتي.
الحزن عليّ سوف يجلل جميع الفراشات.
أحمل معي
الذكريات العزيزة لضياء الشمس
وهمهمات الربيع الخفيضة الناعمة.
نفسي طيب مثل ثرثرة الأطفال،
التهمت خصب الأرض كله
لأصوغ منه شذا روحي
التي سوف تبقى بعد موتي.
إن من يقرأ البيت الأول الرائع من هذه القصيدة (كنت أزهاراً يوم أمس) لا يمكن أن يرى القش مرة ثانية دون أن يتذكر الجمال الذي كلن مخفيا عنه إلى أن أماط الشاعر اللثام عنه. والأعمال الفنية بمجملها لابد أن تحمل الإلهام في طياتها وبالطريقة المدهشة ذاتها ومنها ربما أقدم تلك الفنون وهو الفن المعماري architecture، مع ذلك ما يزال هناك الكثير من البنائين يقابله عدد محدود من المعماريين أي أولئك الذين يتعاطون مع الخشب أو الحجر والتي بدورها توحي ببعض الحقيقة المخفية والجمال المخفي عن الحواس الإنسانية. وتأسيساً على ذلك فإن الأدب هو ذلك الشكل الفني الذي يعبر عن الحياة وبكلمات تروق لإحساسنا بالأشياء الجميلة، لذا هناك الكثير من الكتاب لكن يظل عدد الفنانين منهم محدودا للغاية.
والأدب بمعناه الواسع ربما يعني ببساطة الكتابات التي تتناول الأعراف البشرية وتشمل تاريخها وعلومها فضلاً عن قصائدها الشعرية ورواياتها، أما في المعنى الأضيق فإن الأدب يمثل سجل الحياة من الناحية الفنية وبذا نستبعد منه معظم كتاباتنا مثلما نستبعد الأعداد الكبيرة من البنايات التي لا تعدو كونها أكثر من مأوى عن الريح والبرد، وهي بذلك لا تشكل جزءاً من الفن المعماري. إن عملاً ما يتناول موضوعاً تاريخياً أو علمياً ربما يكون مادة أدبية أيضاً بشرط أن يتوافق موضوعه وطرحه للحقائق مع جمالية التعبير التي تميز الأدب.
الإيحاء
الصفة الثانية للأدب هي (الإيحائية) ومناشدة العواطف والأحاسيس والخيال وليس العقل. والأمر هنا لا يتعلق بما تقوله المفردات الأدبية إنما بما يمكن أن يوقظه فينا وبفعل ما يتصف به من سحر. وحين يقول الشيطان على لسان الشاعر ميلتن Milton (أنا بذاتي الجحيم) فإنه لا يذكر أية حقيقة إنما يفتح من خلال تلك الكلمات الثلاث الهائلة عالماً شاملاً من التأمل والخيال. وحين يقول فاوستس Faustus بحضور هيلين Helen: (هل هذا هو الوجه الذي عوّم السفن الألف؟) فهو لا ينطق بأية حقيقة أو يتوقع إجابة ما. إنه في الواقع يفتح باباً يدخل منه خيالنا إلى عالم جديد، عالم الموسيقى والحب والجمال والبطولة ـ عالم الأدب الإغريقي الرائع! هذا السحر بمجمله يجد صداه في الكلمات. وحين يصف شيكسبير بايرن Biron الشاب وهو يقول:
بمثل هذه الكلمات المناسبة والمهذبة
تتهرب تلك الآذان الهرمة من حكاياته
فهو لا يقدم لاشعورياً وصفا دقيقا للغاية لنفسه فحسب إنما يعتبر ذلك مقياساً للأدب عامة الذي يعيننا على الهروب من العالم الحالي والانطلاق للعيش لفترة وجيزة في عالم الخيال الممتع. إن وظيفة الفن عموماً لا تكمن في التعليم والإرشاد فحسب إنما في إشاعة البهجة مما يحفز القارئ لبناء روحه الخاصة أو (بيت المسرات البهي) الذي حلم به الشاعر تينيسن Tennyson قي قصيدته الموسومة (قصر الفن) Palace of Art.
الديمومة
تمثل الديمومة الصفة الثالثة التي تميز الأدب، وهذه الصفة ترتبط بالصفتين الأولى والثانية. إن العالم لا يعيش بالخبز وحده فرغم ما يتسم به من سرعة وصخب وانغماس جلي بالأمور المادية فإنه بدافع الرغبة لا يدعي انتهاء أية اشياء مادية. ومثل هذا الأمر يصدق أكثر على الأغاني أكثر منه على الرسم والنحت. ورغم أن صفة الديمومة أمر نتوقعه لما يصدر من أعداد هائلة من الكتب والمجلات التي تتدفق يومياً فإن معرفة الإنسان بصرف النظر عن عمره تتطلب الغوص عميقاً لتخطي تاريخه فالتاريخ يسجل أعمال الإنسان الظاهرية إلى حد كبير، لكن أي فعل كبير لابد أن ينبثق من مثل أعلى. ولفهم مثل هذا الأمر يتعين قراءة أدبه الذي يحتضن مثله العليا. وحين نقرأ تاريخ الأنكلوساكسونيين، على سبيل المثال، نعلم بأنهم كانوا قراصنة بحر ومستكشفين يتصفون بالشراهة في أكلهم وشربهم وكذلك نعرف شيئاً عن أكواخهم وعاداتهم والأماكن التي غزوها ونهبوها. هذه كلها أمور مهمة لكن التاريخ مع ذلك لم يخبرنا الكثير من الأشياء التي نود معرفتها عن أسلافنا القدماء أولئك: ليس ما قاموا به فحسب إنما ما كانوا يفكرون ويشعرون به ونظرتهم إلى الحياة أو الموت وما كانوا يحبونه ويخشونه وتبجيلهم الله وكذلك الإنسان.
بعدها ننتقل من التاريخ إلى الأدب الذي أنتجوه بأنفسهم لنصبح على الفور على بينة من هدفنا. ولم يكن أولئك الناس الأشداء مجرد محاربين أو قطاع طرق، فقد كانوا بشراً مثلنا فعواطفهم توقظ استجابة فورية في أرواح أسلافهم. إننا نشعر بالغبطة ونحن نقرأ ما كتبه شعراءهم الرحالون عن حبهم الشديد للحرية والبحر المفتوح ونتحمس أيضاً لحبهم لديارهم ولوطنيتهم من خلال ولائهم المطلق لقائدهم الذي اختاروه بأنفسهم ورفعهم لدروعهم وهو رمز لقيادته. كما نبدي احترامنا للحضور الأنثوي حينذاك أو الشعور بالكآبة أمام قسوة الحياة ومشاكلها أو تبجيلهم الله الذي تجرأوا على تسميته بـ (الأب الكلي). إن سائر تلك العواطف الحقيقية والكثير من العواطف الأشد منها تمر بأرواحنا ونحن نقرأ ما تبقى من أشعار قليلة وصلتنا منهم.
هذه المسألة تنطبق على أي عصر أو شعب، فإذا أردنا فهمهم فعلينا ببساطة أن نقرأ تاريخهم الذي يجسد أفعالهم أما أدبهم فيسجل الأحلام التي ساعدت على تحقيق تلك الأفعال. لذا كان أرسطو على صواب تماماً حين قال إن: (الشعر أكثر جدية وفلسفة من التاريخ) وأيضا الفيلسوف غوته الذي أعتبر الأدب بمثابة (أنسنة العالم بمجمله). والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا يتسم الأدب بالأهمية وكيف يظهر الأدب نفسه شيئاً أساسياً لثقافة ما؟
أهمية الأدب
من الآراء الغريبة والمتداولة عن الأدب وكذلك أشكال الفن الأخرى أنه محرّك للخيال ليس ألا ومثير للبهجة مثل رواية جديدة لكنه يفتقر إلى الأهمية الجدية أو العملية. ولأن الحقيقة شيء لا يمكن تجاهله فإن الأدب يحافظ على مثل الناس العليا، وإن هذه المثل ومنها الحب والإيمان والواجبات والصداقة والحرية والتبجيل تمثل الجوانب المهمة من الحياة البشرية التي تستحق الحفاظ عليها. لقد كان الإغريق شعباً رائعاً، مع ذلك لم يتبق من أعمالهم البطولية الكثيرة سوى النزر اليسير من المثل العليا مثل الجوانب الجمالية المخلدة في الصخور المتبقية وكذلك العقيدة والإيمان المجسّدة في النثر والشعر. كانت تلك ببساطة مثل الإغريق واليهود والرومان المحفوظة في آدابهم التي ساهمت في تشكيل شخصيتهم التي جسدت قيمهم للأجيال اللاحقة. من ناحيتنا نرى أن ديمقراطيتنا التي تتفاخر بها الشعوب كافة التي تتحدث باللغة الإنكليزية عبارة عن حلم وليس ذلك المشهد الملتبس وأحيانا المحبط المحفوظ في قاعاتنا التشريعية إنما ذلك المثل الأعلى المحبب إلى النفس والخالد لطبيعة إنسانية حرة وعادلة محفوظة مثل معظم التراث الثمين في كل أدب عظيم ابتداء من الإغريق إلى الأنكلوساكسونيين. إن آدابنا وعلومنا واختراعاتنا جميعاً قائمة بقوة على المثل العليا لأن في داخل كل اختراع يكمن حلم (بيوولف) Beowulf حيث أن ذلك الرجل ربما يتغلب على قوى الطبيعة وأن أساس سائر علومنا واكتشافاتنا هو الحلم الخالد بأن الرجال (سوف يكونون مثل الآلهة يعرفون كلا من الخير والشر).
باختصار، تستند حضارتنا بمجملها وكذلك حريتنا وتقدمنا وبيوتنا وديننا بقوة على تلك المثل العليا التي تمكث على الأرض. لذا يستحيل علينا أن نغالي في تحديد الأهمية العملية للأدب الذي يحتضن تلك المثل فتنتقل من الآباء إلى الأبناء فيما يختفي الرجال وتنتهي المدن والحكومات والحضارات من على وجه البسيطة. وحين نتذكر مثل هذا الأمر فإننا نقيّم ما يقوم به المسلم الورع الذي يلتقط القصاصات الورقية الصغيرة التي كتبت عليها كلمات ومن ثم يحافظ عليها بكل اهتمام لأن أية قصاصة ورق ربما تحمل بالصدفة اسم (الله)، ومثل هذا المثل الأعلى يتسم بأهمية بالغة بحيث يتعين عدم اهماله أو فقدانه. في هذا السياق لابد أن نخلص إلى أن (الأدب هو تعبير الحياة).
المصدر:
https://www.thoughtco.com/the-meaning-of-literature-738096
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.