(فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)! ظننا بك خيراً يا كريم؛ فعلى قدر الإحسان من المخلوق يكون الإنعام من الخالق جل جلاله. إن حسن الظن بالله عبادة قلبية صِرفة تعني توقع الجميل من الله برجاء ما عنده بطاعته وترك معصيته. وتبين الطريق الملتبس ما دام الأمر خيراً، فحسن الظن بالله في جميع أمورك هو عظيم التفاؤل وتحقيق المراد.
خاطرة اخترت لها هذا العنوان لأنه خير ما يمثل واقعي بعد مجيء ولدي محمد إلى هذه الحياة وقد أضاف لبيتنا سحراً ورونقاً من نوع آخر ففي الرابع من آب / أغسطس من عام 2012 منّ الله تعالى علينا بمحمد الذي اخترنا له الاسم قبل علمنا بجنس الجنين بفترة وبعد ولادته بيومين جاءتني طبيبة أطفال وألقت إليّ الخبر بطريقة تخلو من الرحمة والانسانية والفهم وحسن التصرف حيال أم ما زالت تعاني من آلام الولادة حيث أنها كانت قيصرية… قالت: هذا (منغولي) ألم يخبرك أحد بذلك انظري إلى يديه وقدميه وعينيه كلها دلالات على ذلك…! قالت ما عندها وخرجت بقلب بارد خال من أية مشاعر. قلت الحمد لله على كل حال أتمنى أن يكون كلامها غير صحيح أتمنى أن تكون مخطئة.
جاء بعدها طبيب آخر يستحق مهنته فقد كان مهذباً مؤدباً في أسلوبه وطريقة نقاشه قال لي: لدينا شكوك بأنه طفل لديه متلازمة داون وهذا لا يتأكد إلا بفحص كروموسومات ونتيجة هذا الفحص تحتاج لبعض الوقت كونها ستتم في المانيا.
جاء اليوم المنتظر لأخذ نتيجة الفحص كانت دقات قلبي تتسارع وكأنها تريد الخروج من صدري ودموعي تملأ عيوني ولكن لساني ما انفك عن حمد الله وشكره. كان والد محمد معي ويذكرني بأن قدر الله نافذ لا راد له وأن علينا الرضى واليقين والصبر لأمر الله فكل ما في الكون بأمر الله وحكمه وحكمته.
دخلنا غرفة الطبيب فأعطانا النتيجة وكانت أن ابننا محمد من ذوي متلازمة داون وهو خلل (جيني) وراثي حمدنا الله وشكرناه وقطعنا عهداً على أنفسنا بأن نكون لمحمد كما كنا لأخوته بل وأكثر من جميع نواحي الرعاية والاهتمام والتربية والتعليم وكل ما يحتاجه وفضلنا أن نبقي أمره سراً عن إخوته لفترة من الزمن حتى يعتادوا عليه ويحبوه كأخ لهم فتكون بينهم محبة أخوية صادقة لا محبة شفقة وإحسان.
طلب والد محمد من أبنائنا أن يكون موضوع نقاشنا ليلاً بحثاً عن متلازمة داون وكلف به جميع الأبناء كباراً وصغاراً هذا الأمر تم بعد أن كان محمد قد أتم ستة أشهر من عمره، حينها أخبرناهم بحقيقة الأمر وبوضع أخيهم. كلهم تقبلوا الأمر بالحمد والشكر وضرورة تقديم المساعدة لي ولأخيهم كل حسب مقدرته.
مرت الأيام بعدها وبدأت رحلتنا مع محمد.. وكانت البداية من مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية بعد أن تم تحويلنا من مستشفى القاسمي بالشارقة، وفي المدينة كانت أول جلسة ومقابلة لتقييم محمد وبناء عليها سنبدأ بمتابعته.
بدأنا بعون الله جلسات علاج طبيعي كل شهر جلسة وبحمد الله وفضله تمكن من الوقوف والمشي، بداية كانت بمساعدة ثم صار يعتمد على نفسه في المشي. وفي قسم العلاج الطبيعي نصحونا بتعليم محمد السباحة لتقوية عضلاته وحركته وبفضل الله قام أبوه بتدريبه يومياً حتى أنه وبحمد الله أتقن السباحة في عمر مبكر جداً إذ لم يتجاوز الثانية من عمره. بعدها صار يمشي بدون مساعدة بحمد الله.
ثم انتقلنا بعدها إلى خدمات الإرشاد الأسري كانت بدايتها في مركز التدخل المبكر التابع لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية جلسة كل أسبوع لمدة شهر ثم صارت الجلسات زيارة منزلية شهرياً مرة واحدة من خلالها استطاع محمد تلقي معلومات ومهارات متنوعة كلنا يقوم بتدريبه عليها حتى أتقنها جميعها بفضل الله وبمساعدة الأسرة كاملة من خلال جلسات المتابعة. وكنوع من العلاج عرضت علينا فكرة دمج محمد بحضانة مع أطفال من غير ذوي الإعاقة، رحبنا بالفكرة ونفذناها في الأسبوع نفسه، وبحمد الله وفضله صار التحسن ملحوظاً جلسات وحضانة وأصدقاء.
أحب محمد الحضانة وأحب الأطفال وتعلم استمر في الحضانة فترة سنتين ونصف مع متابعة الارشاد وانتقلنا لمرحلة أخرى مع محمد هي مرحلة القراءة الصورية بدأناها بالعائلة ثم انتقلنا إلى الفاكهة والخضراوات والألوان والحيوانات ثم الأعداد طبعاً. وخلال هذه الفترة لم أكن أترك محاضرة أو ورشة أو لقاء لتبادل الخبرات فقد كان هدفي الأول والأخير محمد والعمل على تطوره وتأهيله.
هدفي الاول هو تربية محمد وتعليمه وتمكينه وحرصت على ذلك اشد الحرص وبكل ما أوتيت من قوة ومن افكار خاصة بعد مرحلة القراءة الصورية وقد اتت ثمارها ونتائجها الجيدة بحمد الله وبالتدريب المستمر انتقلنا من مرحله الصور والكلمات المتعلقة بالعائلة والفاكهة والخضار والحيوانات والألوان، ثم انتقلنا إلى مرحلة أخرى وهي كلمات وأفعال متنوعة تستخدم يومياً حيث كنت أقوم بطباعة الكلمات وتغليفها وتدريب محمد عليها، وعملت من كل كلمة نسختين للمطابقة، وانتقلت بعدها إلى الجمل المكونة من كلمتين وثلاث كلمات وأربع كلمات. وظل التدريب مستمراً وبشكل يومي حتى أتقن معظم الكلمات والجمل بحمد الله، وعندما التحق بالمدرسة كانت حصيلته من الكلمات كبيرة جداً، وبالطبع ولم أغفل جانب الحفظ عنده فبدأت معه بحفظ القرآن الكريم سورة الفاتحة وقصار السور واستعنت بالمصحف المعلم الالكتروني لتكرار السماع وتأكيد الحفظ.
من سياسة مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية وبالذات مركز التدخل المبكر أن يتم تخريج كل من أتم الخامسة من عمره ليلتحق بعدها بنظام الفصول التابع للمركز ثم يلتحق بعدها بمدرسة الوفاء لتنمية القدرات التابعة لمدينة الشارقة للخدمات الانسانية في خلال هذه الفترة كان محمد ما زال ملتزماً بالحضانة ولأن الحضانات تشترط عمراً محدداً لاستقبال الأطفال كان لا بد من البحث عن مدرسة لمحمد، وكان الخيار هو مدرسة الوفاء لتنمية القدرات حيث تمت مقابلته وعمل تقييم نفسي له، قبل على إثره فعلياً في المدرسة.
في سنته الأولى كان يتلقى مهارات تؤهله للاعتماد على نفسه بالإضافة إلى الانشطة التعليمية والترفيهية ومهارات ما قبل المدرسة من رسم وتلوين وكتابة وغيرها بالإضافة إلى جلسات تخاطب لتحسين الأداء اللغوي وجلسات حاسوب وحصص رياضة وموسيقى وتأهيل مهني.. فأحب محمد المدرسة ومعلماته وأصدقاءه.
لم تغفل مدرسته الأنشطة الخارجية والرحلات والورش التدريبية في كل ما يعلم ويؤهل، وكان محمد وبفضل الله من الطلاب المشاركين دوماً بنشاط وتفاعل ملحوظ.
وها هو اليوم قد أتم السابعة في مدرسة الوفاء لتنمية القدرات التي انتهجت نظاماً أكاديمياً حيث وضعت خطة للطالب كل حسب قدراته ومهاراته تضمنت هذه الخطة مواد دراسية متنوعة؛ تربية إسلامية، لغة عربية ولغة إنجليزية واجتماعيات وعلوم وحساب وحاسوب وقرآن كريم بالإضافة إلى حصص التخاطب والتأهيل المهني والموسيقى والرياضة والرسم وبحمد الله وفضله وبجهود الجميع وتعاون الأسرة مع المدرسة تحققت أفضل النتائج وتمكن محمد من تحقيق معظم الأهداف… لن أكل ولن أمل وسأبقى على عهدي ووعدي بأن يتلقى محمد حقه من التعليم والتأهيل بإذن الله.
نشيد الوفاء
مدرستي مدرستي مدرسة الوفاء
مدرستي مدرستي حب وعطاء
مدرستي مدرستي صحبة وإخاء
مدرستي مدرستي مدرسة الوفاء
نذهب إليها صبحاً ومساء
كل يوم فيها نجدد اللقاء
مع معلماتي وأحلى الأصدقاء
ننشد عيشي بلادي تحية الولاء
فيها نتعلم حروف الهجاء
نرسم ونلون أجمل الأشياء
ننشد ونغني ونحن سعداء
في درس التخاطب يتحسن الأداء
نلعب الرياضة فنصبح أقوياء
في درس الحاسوب ننمي الذكاء
قرآننا الكريم هو أفضل العلوم
نحفظ آياته فنرقى في السماء
مدرستي مدرستي مدرسة الوفاء
مدرستي مدرستي يا بحر العطاء
تلك هديتي لمحمد ومدرسته في عامه الدراسي أنشودة بسيطة جميلة معبرة ليوم دراسي حافل بالنشاط والحيوية والايجابية.
وتستمر الحكاية وتطول وبطلها محمد فلذة الكبد ومهجة الروح هدية الله وفرحة العائلة وآخر العنقود وحبيب الكل وصديق الأطفال… اللهم كما أنعمت فتمم… اللهم أعنّا على تربيته وتمكينه… اللهم اجعله قرة عين لنا… اللهم اجعله عملنا الصالح في الدنيا ومفتاحاً للجنة يوم لقاك…
كلمة أخيرة أقولها في حق ولدي محمد وفلذة كبدي:
بالجد والمتابعة والتحفيز نحصل على أفضل النتائج ونحقق ما نريد من الأهداف
لا للإحباط لا للكسل لا لليأس نعم للعمل المستمر
نعم للعطاء نعم للمساندة والمساعدة نعم للأمل نعم للمحبة والتعاون
نعم للنجاح والسعادة مع الحبيب حمودة.
هند محمد فائق خصاونة
المملكة الأردنية الهاشمية
دبلوم تربية اسلامية واجتماعيات
عملت مدرسة في مدرسة خاصه لمدة عشر سنين
حالياً ربة بيت