حكى لي رجل ذهب إلى الحج في الزمن السابق أيام كان المسلمون يسيرون في الدهناء وسط الطرق الوعرة، يخرجون بالسيارات ولا يصلون إلى مكة إلا بعد أسبوع.
يقول: كنت راكباً في السيارة بالخلف، وإذا مرت السيارة في رمال الصحراء الحمراء الناعمة، وثقل سيرها في الرمل، وجذبتها الرمال، وكادت أن تقف، وهي تحنو علينا من رملها الناعم الأحمر بواسطة العجلات، فتمتلئ أنوفنا وعيوننا وآذاننا، وتغطينا طبقة من الغبار، قلت: انزل من السيارة ثم أظل أدفعها من الخلف حتى أساعدها على النهوض، والتخلص من الرمل، فإذا عادت إلى سيرها الطبيعي قفزت مرة ثانية، ودخلت أنا من الخلف، وكنت الوحيد فيها من الخلف مع التموين.
وذات مرة إذ مرت السيارة في واد واسع من الرمال الناعمة، هضاب بعد هضاب، وأرض بكر رسمت عليها رياح الشمال خطوطها، ولا ترى على قممها إلا عشيبات متناثرة متباعدة تتصارع مع الظمأ، فإذا جاءها الليل ارتشفت من نداه قطرات تتبلغ بها طول النهار المتوهج، وقد حولت أوراقها إلى أشواك، وليس لها ظل لدقة أغصانها.
يقول: تثاقلت السيارة في سيرها، فألقيت بنفسي ثم أخذت أدفعها، والسيارة تتباطأ ويثور الغبار، وأدفعها ويثور الغبار، ثم أسرعت السيارة وعلقت نعلي في التراب، فتأخرت أبحث مكان خطواتي لأخرج نعلي، لأنني لا أستطيع السير على الصحراء دونها لحرارة الأرض.
وأسرعت السيارة، وظن السائق أنني ركبت، والغبار يثور خلفه فلا يراني في المرآة.. وواصلت السيارة في سرعتها، وواصلت أنا في بحثي عن النعال، فلما وجدتها كانت السيارة قد بعدت، وهبطت في واد جديد من الرمال.. فأصبحت في حيرة، أأبحث عن نعلي أم أجري خلفها بأقصى سرعتي! تركت نعلي وجريت بما أعطاني الله من سرعة، ولكن السيارة نهضت من عثرتها وانطلقت بين الوديان بعيداً بعيداً، ولم أعد أرى منها إلا نقطة حمراء ما لبثت أن تلاشت عبر الصحراء، ولم يذكروني ولم يلتفتوا إلى، فعدت أبحث عن النعال من جديد..
يقول: فوجدتها ولبستها ثم واصلت السير، والقلب مني يخفق، والنفس تتلجلج، وأخذت أسير على إثر السيارة لعلهم يذكرونني عند وقوفهم لطعام الغداء، بعد العصر، فهم إنما يستريحون عند انكسار الشمس، ويصلون الظهر مع العصر جمع تأخير.. فلابد أن يفتقدوني ويعودون للبحث عني..
فلما جاء وقت الظهر وأصبح الظل تحت الحذاء، إذ لا ظل تحت القدم، والشمس لها وهج أحس أنه يحفر أخاديد نيرانية داخل رأسي وجلدي، وقد ألقيت على وجهي غطاء رأسي، إذ بدأت الرياح تهب والرمال تلتوي كالثعابين من تحتي، ولو توقفت قليلاً أو جثوت على الأرض لغطتني الرمال سريعاً، فتلك الأراضي ذات كثبان متحركة ومعالمها متغيرة لا تستقر على حال. وأثناء سيري كانت قدماي تغوصان إلى الساقين مرة، وأمر على كتل من الصوان مرة.
يقول: فلما بلغت الشمس كبد السماء، وبدأت الرمال تتخلل بين فتحات النعال أحسست أنني أخوض في نار، لا أدري ماذا كان شعوري ساعتها إلا أنني أرفع رجلاً وأخفض الأخرى، وأجثو مرة، وأحبو على يدي ورجلي مرة، وأضع غطاء رأسي تحت قدمي، ثم أعود فأضعه على رأسي، ولم أعد أرى جيداً، وصار لساني في سقف حلقي وكأنه قطعة من الجلد المتشقق، أو الخشب اليابس، وأصبحت شفتاي ممزقتين أتألم منهما، إذا حركتهما نزفتا دماً، وأخذت أسير وأنا أنظر إلى أصابع يدي وقد تحولت إلى سوداء نحيفة، وبدأ شيء كالحمى يجتاح نفسي، وقد كنت في الساعات الأولى أتعرق، أما الآن فلا عرق، وإنما يفوح من جسمي لسان نار لافح.
وظللت في سيري، ولكنه سير الذي تملكه الأعياء والتعب، ولا تزال بعض معالم السيارة على الأرض إذ أن الرياح قد غطت معظمها، فكنت أسير مدة طويلة فلا أكاد أقع على أثرها إلا أن الله وفقني إذ ظللت أسير متحسساً آثارها.
وكلما اكتشفت أثراً لها من صعود أو هبوط كأنني عثرت على ماء، إذ لا يزال الأمل يحدوني. يقول: فلما بلغ الظمأ مني مبلغه وأخذت أسير وأترنح والدنيا تدور أمامي، وقد مالت الشمس، ولمحت من بعيد أشياء وكأنها أشجار عالية ضخمة، ثم أراها بعد ذلك ترتفع في السماء، ثم أراها بعد ذلك كأنها على شكل شلالات وبحار تسبح، فعلمت أنه السراب الخادع، وتذكرت قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} (النور 39).
يقول: ظل السراب أمامي وأنا لا أتبعه بل أتبع آثار السيارة، وبلغ الحال بي أنني أخذت أسير وألتفت لعلي أجد عشبة تحتها أدنى ظل، فأضع شفتي تحت ظلها استروح هواءها البارد فلم أجد، وأحسست بحريق في كبدي وأخذت أزحف على يدي ورجلي، والرمال تملأ فمي، ولكنني لم أيأس من روح الله ورحمته.
وفيما أنا على هذه الحال إذ ألهمني الله كلمة: {ولنبلونكم.. ولنبلونكم} ثم وقفت وأخذت استجمع فكري فإذا هي آية في كتاب الله تذكرتها جيداً: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة 155 ـ 157).
فما إن تذكرتها بقلبي ومرت بخاطري واستوعبها عقلي إلا وأحسست أن فرج الله مني قريب. وكأنني بين أهلي وولدي، وأن رحمة الله قريبة من المحسنين، وواصلت زحفي فإذا بي أرى من بعيد نقطة خضراء.. فقلت ويحي!! أهي عشبة!! يجب أن أسرع إليها وأضع رأسي تحتها وأموت عندها.
يقول: فلما اقتربت وحدقت بعيني الممتلئتين بالرمل الصحراوي، أذهلتني المفاجأة وتعجبت من سرعة استجابة الله لدعائي، فإذا هي حبة من «بطيخ» قد سقطت من السيارة وهم لا يعلمون.
يقول: فأخذت أزحف وأترنح وأجر نفسي حتى ألقيت نفسي عليها وأخذت أنفاسي، ثم كسرتها ووضعت وجهي عليها كي أحس ببردها، ولم أطق أكلها لشدة بردها كأنها الثلج المذاب، وبدأت أصرخ من شدة الألم، ولكن نزلت بعض القطرات في فمي وأحسست بها كنزول الماء على الحديد المحمى، ثم أخذ لساني يلين قليلاً، وتلين شفتاي، ويذهب الألم، وأعود أمرغ وجهي فيها، ويذهب الألم شيئاً فشيئاً.
يقول: حتى أخذت منها قضمة صغيرة أخذت تحفر لها طريقاً في فمي حتى استقرت في المعدة فبرد اللهيب، فأخذت أغرف ما فيها وأشرب حتى ارتويت، فقد رزقني الله الماء والغذاء والحمد لله رب العالمين.
ثم أخذت ما تبقى من قشرها ووضعته على رأسي، ثم وضعت الغطاء عليه ثم وقفت وقد ارتويت وذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر، ثم أخذت نصفها الباقي وهو أغلى عندي من نفسي ومالي وأهلي وولدي ودنياي، وتذكرت ساعتها حب الله: أن يكون حبي له أكثر من الماء البارد على الظمأ..
فقلت: لابد أن يكون حبي لله أكثر مما لهذا النصف في هذا الجو العصيب من أثر وقيمة، وهذا ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (خير الدعاء دعاء داود: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ).
يقول: وواصلت المسير بخطى ثابتة أحمل بكلتا يدي نصفها، والنصف الباقي على رأسي، وقد مالت الشمس إلى الاصفرار وانكسرت، واقترب الغروب بشفقه الأحمر، وإذا بهم عائدون يبحثون عني في نفس الطريق، فوقفت أنظر إليهم وانتظرهم فإنهم آتون فلما وصلوا إلى قالوا: أحي أنت؟! قلت: نعم.. قالوا: وكيف؟! قلت: إن الحي الذي لا يموت قد رزقني هذه البطيخة يوم أن أوشكت أن أموت، والله لا يضيع حياة عبده. فحملوني حتى وصلنا المعسكر واسترحنا تلك الليلة وتابعنا سيرنا بحمد الله ورحمته.. فيا لها من نعمة.
يا لها من نعمة عظيمة لا تقدر بثمن، يا لها من نعمة لا تقدر بثمن يوم أن يحس العبد وهو في سرائه أو ضرائه يحس بقربه من الله رب العالمين.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق 2).
تذكر أخي المؤمن عند صومك وأنت تأخذ كأس الماء البارد وقت إفطارك، أن يكون حب الله إلى قلبك أحب من هذا الماء البارد الذي بين يديك.
لقد كان عبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنه ـ إذا جاء وقت الإفطار، وحمل الماء البارد وقربه من شفتيه، انهمرت دموعه، فيقول له الناس: لماذا تبكي يا ابن المبارك ساعة الإفطار؟ فيقول: لقد تذكرت قول الله في أهل النار: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ 54). ألا إنهم يشتهون الماء البارد وهم في لهيب النار، وها هو الماء البارد بين يدي، اللهم إني أشربه لظمأ يوم القيامة فيشربه..
وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما يشرب ماء زمزم يشربه لظمأ يوم القيامة، ليوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون.
اللهم إنا نعوذ بك من الظمأ الأكبر، ظمأ يوم القيامة، وأفض علينا من أنهار الجنة.. آمين.
خواطر داعية:
الشيخ أحمد القطان