ربما يكون من البديهيات أن الفن لا ينفصل عن الأدب، وما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما، ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر، وكلاهما يعتبران بوابة فسيحة لقضية الإعاقة وشريحة الأشخاص من ذوي الإعاقة ليست بصفتهم استثناءً بل لأنهم جزء لا يتجزأ من البنيان الاجتماعي له الحق كل الحق في علومه الإنسانية، وعليه واجب الإبداع والعطاء في كنفه وفسيح رحابه، اللوحة التي تتربع عرش هذه المقالة أبدعها معاق عبر من خلالها عن الكل والجزء، عن الحلم والعقبات، عن الأمل والطريق، فكان كمن يكتب قصة غاية في الإيضاح والإيجاز والجمال، لقد عرضتها على من زارنا وكانوا من شرائح اجتماعية مختلفة ومن مستويات تعليمية ـ حتى لا أقول ثقافية ـ متنوعة، وبأعمار مختلفة، ومن الذكور والإناث، وكنت أرى الغالبية العظمى منهم يتمعنون بها وكأنهم يقرؤون كتاباً مفتوحاً فعرفت من ذلك أن صاحب الفن قد رسم وعبَّر، قد كتب وأبدع، قد فرح وأتحف، لقد أردت منهم أن يدوِّنوا ما توحي لهم به اللوحة فحصلت من كتاباتهم على سفر نفيس أحاول ألا أظلمه باختزالي له من أجل تعميم الفائدة.
لقد كانت اختراقاً للحواجز الموجودة أمام الذات التي قد لا تستطيع التعبير بطرق أخرى، والحواجز المتراكمة في المحيط، والتي قد لا تدع الآخرين يرون الحقيقة، والحواجز التي يصنعها الزمان بوفاة الإنسان ـ بعد عمر طويل ـ لقد شعرت أن صاحب اللوحة هو شخص من ذوي الإعاقة الجسدية؟ وأنا حقيقة لا أعرفه، وربما إعاقته حركية بفقد إحدى ساقيه، لقد رسم القدم المصابة والتي غالباً ما كانت قدماً اصطناعية على شكل حذاء كبير بلون أسود، وكانت الساق فوقها بنفس اللون وذات الهيئة مع وجود انزياح بتراكبهما وكأنه يقول: إن التقنيات العصرية لا تزال ثقيلة ولم تصل الكمال المنشود، ورسم داخل الساق شبكة من النوابض دليل التعقيد الذي لا تزال الأجهزة تعاني منه، وإلى اليسار من القدم في الأسفل رسم بصمة قدمين أحداهما لم يصبها شيء والآخرى صناعية، ويبدو أن المفقود هي القدم اليمنى، لقد جعل لليسرى التي لم تصب تقاسيم أكثر من اليمنى، ولون جزءاً منها بالأحمر في الأمام ورسم لها ستة نوابض في مقدمتها، ولا أعرف إن قصد الأباخس (أصابع القدم)، أم أنه طفل؟، أم أن لديه بالفعل ستة أصابع، وفي الجزء الخلفي رسم قاعدة استناد مربعة قوية وحولها مسند واحد على شكل كرسي مبسط، أما اليمنى فكان السواد يوشحها وهي بثلاثة أصابع، ونقطة استنادها غابت أو ربما اندمجت بالجزء الأمامي الأسود المظلل، وفيها ثلاثة مساند وهي الدلالة على ما يبدو أنها السبب الرئيسي للحاجة للكرسي الخاص بهذا النوع من الإعاقات.
في الزواية العليا اليمنى من اللوحة كان هناك رسم رمزي لكرسي الإعاقة، وكان عجله بلون أحمر وكأنه المكمل للقدم اليسرى، وربما يشير الكرسي لكون الإعاقة تشمل الطرفين أو أكثر ولو جزئياً حتى استدعت الكرسي ولم تحل قضيتها بعكازة فحسب، لقد كان مسند الكرسي مكوناً من ثلاث طبقات من النوابض تذكرنا بالمساند الثلاثة التي رسمها ضمن القدم الصناعية، إن الرسم المبهم لمسند الكرسي وما يحيط به ربما يشير إلى أنه حتى هذا الكرسي لا يملكه ذلك الشخص من ذوي الإعاقة إلا بالحلم، لقد كان الكرسي يتجه نحو اليمين بينما القدم اتجهت نحو اليسار وربما قصد من ذلك أن الحلم لا يزال بعيداً، أو أن تقنية القدم الصناعية لا تزال بحاجة للمزيد.
في الزاوية اليمنى السفلى كان هناك بيت بسيط متواضع يشير لحلم طبيعي له مثله مثل أي إنسان بسكن يؤيه، وربما أشارت نوافذه الأربعة إلى أنه لا يهمه أين سيكون بيته في زوايا الأرض الأربع، أما النوابض التي كللت المنزل ونوافذه فقد أشارت إلى أن الأمر لا يزال في إطار الحلم، ويلفت النظر ذلك الباب المغلق بإحكام وكأنه يشير لصعوبة الولوج نحو ذلك الحلم.
في الزاوية اليسرى العليا تصادفنا إشارة تعجب كبيرة لم يكتف صاحب اللوحة بأن يرسمها بخطوط واضحة وإنما جعلها على رقعة سميكة منفصلة ولصقها لصقاً على اللوحة، وكأنه يريد أن يؤكد القول على أنها واقع حقيقي، وربما قصد بعملية اللصق أن يقول إنها رغم واقعيتها ووجودها الحقيقي إلا أنها لا تمثل حقيقة الإنسان، لقد رسم داخل إشارة التعجب العديد من الشخوص البشرية وبألوان مختلفة، وكأنه يقول لنا عن كثرتها وأنها من كل عروق البشر، إنه يستغرب تعجب هؤلاء الناس الكثر منه ومن إعاقته وأولاً وأخيراً من حقه الطبيعي بالحلم، وكونه حصر أولئك الناس على كثرتهم بحدود إشارة التعجب الملصوقة فهو يعرف محدوديتهم وأنهم لا يمثلون كل البشر، ولا أعرف إن قصد من وراء عددهم الـ (50) أنهم نصف البشر، وبالتالي قسم المعمورة لنصفين أسود وأبيض، أم أنها الصدفة ليس إلا، وبالطبع لن أتجرأ على القول أنه قصد الـ (50) ولاية أمريكية!، لقد رسم أربعة نوابض ما بين قدميه وإشارة التعجب تلك، وكان اتجاه أباخسه نحو تلك الإشارة وكأنه يقول إنه يسعى نحو الآخرين رغم جفائهم واستغرابهم منه ورغم وجود حواجز بينه وبينهم هي واهية بنظره ولو اعتقد الغير خلاف ذلك.
أما اعتناء صاحب اللوحة بها من ناحية الشكل، ورسمها على رقعة جلدية، وعمل إطار خشبي لها بشكل بديع فإنما يدل على إتقان المبدعين من ذوي الإعاقة لصنعتهم.
هذه اللوحة التي أعتز بها و أعتبرها (موناليزا العصر) هي الآن ملك أياد نبيلة خدمت قضية الإعاقة قلباً و قالباً، إنها مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية وعلى رأسها الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي، ولم أجد مكاناً أهلاً لتلك اللوحة الرمز أكثر من تلك الأيادي.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.