أندريه موروا (ولد في 26 يوليو 1885 وتوفي في 9 أكتوبر 1967) كاتب فرنسي، متعدد المواهب والإهتمامات، غزير الإنتاج، فقد أخرج خلال حياته الإبداعية ما يقرب من (200) كتاب، بين رواية، ومجموعة قصصية، وسيرة ذاتية، وبحث تأريخي. وذاعت شهرته عندما نشر روايته الأولى (صمت الكولونيل برامل) (1917) والتي ترجمت في السنة ذاتها إلى اللغة الإنجليزية في إنجلترا وأميركا. وطرحت روايته الثانية (أجواء) (1928) وجهتي نظر المرأة والرجل في العلاقة الزوجية. ومن رواياته (الحلقة العائلية) (1932)، و(غريزة السعادة) (1934)، و(حالة لقراءة الأفكار) (1937) وغيرها كثير.
ورغم القيمة الفنية العالية لهذه الروايات، وأسلوب موروا الجذاب، إلا أن مكانته الأدبية ترسخت كثيراً عندما كتب سلسلة روايات عن السير الذاتية لمشاهير المؤلفين الفرنسيين والإنجليز، شملت تراجم شيلي، وڤولتير، وشاتوبريان، وبايرون، وجورج صاند، وڤكتور هوگو، وبلزاك، وبروست، وغيرهم. كما أن له مؤلفات تاريخية، لاقت رواجاً كبيرًا. انتخب موروا عام 1937 عضوا في الأكاديمية الفرنسية..
كان موروا يتمتع بحسّ مرهف؛ ومن ثمّ لجأ إلى أسلوب فكاهي يخفف من وطأة الحقيقة المرة التي أراد قولها. وهذه القصة التي نقدمها اليوم، تهكم ذكي وسخرية لاذعة من أدعياء الفن، الباحثين عن الشهرة عن طرق تقليعات وصرعات (الحداثة) المزيفة التي يلجأ إليها من يفتقر إلى الموهبة الحقيقية ويطبل لها مرتزقة النقد التشكيلي وتجاره والإعلام المضلل، وأصحاب قاعات العرض. موروا يدين هنا، ظاهرة تحويل الفن إلى سلعة في السوق. والغريب في الأمر أن الفنان بيير دوش الذي وافق متردداً على القيام بدور هزلي من أجل الشهرة، يندمج تدريجياً في هذا الدور ـ الذي رسمه له صديقه الكاتب للسخرية من (الحداثة) الشكلية الفارغة ـ ، ويخيل اليه أن لوحاته ذات قيمة فنية حقاً وأنه فنان عبقري. لا أريد أن أضيّع على القارىء الكريم متعة قراءة القصة هذه القصة الجميلة الساخرة، التي حاولت عند ترجمتها الحفاظ على روح النص الأصلي وايقاعه.
القصة:
حين دخل الكاتب بول أميل غليز إلى المرسم، كان الفنان پيير دوش قد انتهى لتوه من إنجاز لوحته الفنية الجديدة التي كانت تمثل منظراً طبيعياً في مقدمته باقة ورد في أنية زهور، وباذنجان في صحن. وقف الكاتب للحظات يرقب صديقه، الذي كان منهمكاً في العمل، ثم قال في نبرة قاطعة:
ـ كلا! ليس هذا هو المطلوب!
توقف الفنان عن النظر إلى الباذنجان وتطلع إلى ضيفه مندهشاً. فقال الكاتب مرة أخرى:
ـ كلا ثم كلا. لن تحرز أي نجاح عن هذا الطريق. لديك المهارة الفنية، الموهبة، الصدق، ولكن كل ما تفعله ياعزيزي عادي. إن لوحتك لا تصرخ، لا تذهل، وهي لن تستوقف المشاهد الوسنان بين خمسة آلاف لوحة معروضة في القاعة. كلا يا بيير دوش. لن تكون مشهوراً أبداً! وهذا أمر مؤسف.
ـ ولكن لماذا؟ تساءل بيير الطيب البسيط وهو يتنهد: أنا أرسم ما أراه، وأحاول التعبير عما أشعر به.
ـ وهل المشكلة تكمن هنا يا صديقي الساذج؟ عندك زوجة وثلاثة أطفال. كل واحد منهم بحاجة إلى ثلاثة آلاف سعرة حرارية في اليوم، وعدد اللوحات المعروضة أكثر من عدد الراغبين في الشراء، والجهلاء أكثر من المتذوقين.. ولما كانت المسألة على هذا النحو فإنه يتعين عليك يا بيير دوش أن تبحث عن الشيء الذي سيميزك عن عديمي الموهبة والفاشلين وعما يمكن أن ينقذك..
أجاب بيير دوش: بالعمل، والصدق الفني في لوحاتي.
ـ لا تكن طفلاً يا بيير، إن الوسيلة الوحيدة لهز مشاعر الحمقى هي أن تقوم بشيء هائل… قل إنك ستسافر إلى القطب الشمالي، أخرج إلى الشارع بالبرنس والطربوش، أعلن نفسك رائداً لمدرسة فنية جديدة، اصرخ دفعة واحدة بحفنة من الكلمات والمصطلحات المختلفة: أكستير يوريزم، الدينامية، اللاوعي، التجريد. اكتب عدة بيانات، اعلن أنك ترفض هذا الشيء أو ذاك: الحركة أو السكون، اللون الأبيض أو الأسود، المربع أو الدائرة. اخترع الرسم الجديد الجبار الذي لا يعترف سوى باللونين الأحمر والأصفر، أو الرسم الأسطواني، أو الرسم المجسم المتعدد الأسطح، أو الرسم ذا الأبعاد الأربعة.
وفي هذه اللحظة هب عبير زكي ناعم ينبيء بقدوم السيدة كوسنيفسكايا ـ الحسناء البولونية المغرية، التي كان بيير دوش مفتوناً بعينيها البنفسجيتين. كانت السيدة كوسنيفسكايا، مشتركة في أغلى المجلات الفنية التي تعنى بنشر الصور الباذخة لروائع فنية مستنسخة من قبل رسامين ناشئين لا تزيد أعمارهم المهنية عن ثلاث سنوات، ولم يرد اسم دوش النبيل في تلك المجلات ولا مرة واحدة، لذا كانت السيدة كوسنيفسيكايا تستخف بأعمال دوش. ارتمت الضيفة على الأريكة وألقت نظرة خاطفة على اللوحة التي كان دوش قد شرع بالعمل فيها، وهزت خصلات شعرها الذهبي بضجر.
ـ كنت أمس في معرض (الفن الزنجي في العصر الذهبي) ـ قالت ذلك بصوتها الرخيم وهي تمطط كلمة الزنجي ـ يا لها من قوة تعبيرية هائلة… يا له من فن رفيع.
أشار دوش إلى عمله الجديد (البورتريه) الذي كان راضياً عنها، فقالت على مضض:
ـ لطيف جداً.
ثم نهضت في ضيق وغادرت القاعة مندفعة، رشيقة، صاخبة، تتضوع بأريج شذى فواح.
قذف الفنان لوحة الألوان إلى الزاوية وتهالك على الأريكة في يأس:
ـ كلا! من الأفضل للمرء أن يعمل وكيلاً لشركة تأمين، أو موظفاً في أحد البنوك، أو مفتشاً في البوليس… أما الرسم، فهذا آخر شيء يمكن أن يفكر فيه الإنسان. الحرفيون هم وحدهم الذين يفرحهم إعجاب الجهلاء بنتاجاتهم، والنقاد لا يحترمون الموهوبين، بل الجهلاء.. ينبغي وضع حد لكل هذا!.
كان الكاتب بول ـ أميل يصغي طوال الوقت إلى صديقه، ثم أطرق مفكراً وهو يدخن سيجارته، وأخيراً سأل صديقه الفنان:
ـ قل لي من فضلك: هل تستطيع أن تصرح بلهجة جادة للسيدة كوسنيقسكايا ولبعض الأشخاص الأخرين، أنك مشغول منذ عشر سنوات بالبحث عن أسلوب إبداعي جديد؟
ـ أنا..؟
ـ أجل أنت.. اصغ!. سأخبر بذلك بعضاً من (المختارين). كل ما تحتاج إليه هو عدة مقالات في مجلات معينة تعلن عن انشغالك بإنشاء المدرسة الأيدو ـ تحليلية في الفن، لأن كافة رسامي (البورتريه) السابقين كانوا يركزون عن جهل على دراسة الوجه الإنساني.وهذا محض هراء! لأن تصوير الإنسان على نحو صادق يكون عن طريق رسم ما نتصوره عنه.. فعلى سبيل المثال يكون بورتريه كولونيل ما: عبارة عن خلفية زرقاء ـ ذهبية تقطعها خمسة أشرطة كبيرة، وثمة جواد في إحدى زوايا اللوحة وفي الأخرى عدة صلبان. أما بورتريه رجل الصناعة، فإنه ينبغي أن يتكون من مدخنة وقبضة مشدودة تستند إلى الطاولة. أتدري يا بيير دوش، ما الذي يمكنك أن تقدمه للعالم؟ بوسعك أن تنجز عشرين لوحة أيديو ـ تحليلية في شهر واحد؟
ـ بل وحتى في ساعة واحدة!
قال الفنان ذلك وهو يبتسم في حزن، ثم أردف قائلاً:
ـ ولكن ما يحزنني حقاً ياغليز، هو أن كل شيء كان سيتغير لو كنت إنساناً آخر.
ـ هل نجرب؟
ـ لست أستاذاً في الثرثرة.
ـ إذن ما عليك ـ حين يطلب منك تقديم بعض الإيضاحات ـ إلا أن تصمت برهة، ثم اشعل غليونك، واسحب منه نفساً وانفخه في وجه محدثك، وقل له بكل بساطة العبارة التالية: (هل شاهدت يوماً كيف يجري النهر)؟
ـ وماذا يعني ذلك؟
لا شيء… لا شيء البتة. ولهذا فإن الكل سيظن أن ثمة شيئاً ما، وعندما سيكتشفونك، ويفسرون أعمالك ويرفعونك إلى العلا، ستقص عليهم هذه الحكاية وتسخر منهم.
بعد مضي شهرين تم افتتاح معرض نتاجات بيير دوش، وأصاب نجاحاً هائلاً.. وكانت السيدة كوسنيفسكايا الرائعة، المتدفقة الحيوية، الصاخبة العبقة، لا تتخلف خطوة واحدة عن صديقها العبقري الجديد بيير. وكانت طوال الوقت تردد:
ـ آه.. يا له من تعبير، يا لها من قوة، يا لها من دقة. كيف استطعت يا عزيزي أن تتوصل إلى هذا التركيب؟
صمت الفنان برهة وأشعل غليونه ونفث موجة كبيرة من الدخان وقال:
ـ هل شاهدت يوماً كيف يجري النهر؟
ارتعشت شفاه السيدة كوسنيفسكايا الرائعة، وكان فيها وعد بالأفراح المغردة الجامحة. وفي ركن من صالة العرض وقف شاب أنيق، يرتدي معطفاً ذا ياقة من الفرو ـ هو السيد سترونسكي، يخطب في الجمهور:
ـ لابد أن ثمة شيئاً ما هنا، شيئاً قوياً جداً.! قل لي يا بيير دوش، كيف توصلت إلى ذلك..؟ وما الذي كان بمثابة حافز بالنسبة لك؟ مقالاتي؟
تريث بيير دوش في الإجابة، ثم نفخ الدخان في وجه محدثه مزهواً وقال:
ـ هل شاهدت يا عزيزي يوماً، كيف يجري النهر؟
صاح سترونسكي: رائع… رائع وبسيط.
وفي هذه الأثناء كان تاجر لوحات يتجول في أنحاء المعرض، ثم اقترب من الفنان وأمسك ذراعه وانتحى به جانباً وقال له:
صديقي العزيز أنت إنسان ماكر، وهذا الشيء يمكن إستغلاله. سأشتري منك جميع اللوحات المعروضة وخمسين لوحة كل عام، فما رأيك؟
صمت دوش وأخذ يدخن وقد ارتسم على وجهه تعبير مبهم. وبدأ الجمهور يغادر القاعة تدريجياً، وعندما أغلق بول أميل غليز الباب وراء آخر زائر، كانت صيحات الإعجاب ما تزال تأتي من السلم، متباعدة ولم يبق في القاعة سوى الكاتب والرسام.
قال الكاتب في فرح غامر: ما رأيك الان أيها العجوز؟ لكم كنا ماهرين في تدبير هذا الأمر. أسمعت ما قاله ذلك الشاب الأنيق وما قالته كوسنيفسكايا والفتيات الثلاث (المصبوغات اللواتي كن يردددن دونما انقطاع. يا للجدة، يا للجدة ، يا للجدة!) آه بيير دوش.. لقد كنت دائماً أظن أن الغباء الإنساني لا حدود له… ولكن هذا المعرض تجاوز كل توقعاتي.
وأطلق الكاتب ضحكة مجلجلة. قطب دوش وجهه، ولما كان غليز لا يتوقف عن الضحك فقد صرخ به:
ـ أبله!
تساءل الكاتب في غضب:
ـ أنا أبله! بعد كل ما صنعته من أجلك؟
تطلع الفنان باعتداد إلى لوحاته الأيديو ـ تحليلية، وقال بلهجة شخص واثق من نفسه:
ـ أجل ياغليز. أنت أبله حقيقي… فثمة شيء ما في نتاجاتي..
وحملق الكاتب في وجه الرسام مذهولاً وقال له:
كلا، هذا أكثر مما يمكنني احتماله، وصاح به:
تذكر يا بيير من الذي أوحى لك بالفكرة الجديدة؟
سكت بيير برهة، ثم نفث الدخان وقال:
هل شاهدت يوماً كيف يجري النهر؟
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.