ـ 1 ـ
القبورُ تنتقلُ.. والسَّماءُ تنزلُ بالمطرِ، وحفيفُ الأشجارِ يمتَدُّ ينتشِرُ، وعُشٌّ دافئ بين الأغصانِ، وقش يتحطَّمُ ويندَثِرُ، وأنا لستُ هناكَ سوى قبر مضيءٌ سائرٌ بين ظلام المقبرة وبين القبور المتنقلةِ الخائفةِ المضطربة… ولم يكن بين الغابةِ والبحرِ إلا بضع خُطوات، والمقبرةُ بينهُما تلقي النُّورَ المشِعَّ وهي تتسلَّقُ الظِّلالَ الممَددَةِ للأشجارِ الوارفةِ السَّامِقةِ، والَّتي لم تعُد تحلمُ بالبحرِ…
ـ 2 ـ
اللَّونُ الأبيضُ المشِعُّ على امتدادِ الأفُقِ، يكسر اللونين الأخضر والأزرق، ثم يتوارى ويقبعُ خلفَ ستائر الخشوعِ إجلالاً لمن رحَلُوا، الجميع ينامُ رغماً عنهُ هنا الآنَ…! وأنا المجنَّحُ الوحيدُ بين هذه الحشودِ النَّائمةِ، أشعرُ كأني بقيتُ مُنزوياً منعزلاً وحدي هنا، وكأنه لم يعد لي شيءٌ سوى أن أشربَ الحياةَ في جوفِ البحرِ… وأتنفس الهواء العليل في مكنونِ الغابةِ، وأتدثر بأوراقِها وأتسربلُ بأزهارها وأستنشقُ عبيرَ أريجها، وأتنقلُ في رَحِمِ طُهْرِها وصَفائِها، وأحتمي كقبرٍ مضيئٍ بنقاءِ وصفاءِ نقائها…
ـ 3 ـ
أرنُو إلى المقبرةِ فأرى على الشواهد أسماءَ مَنْ مَرُّوا، أستنفرُ خطايَ مِنْ مكانٍ لآخرَ، أرى الغابةَ والبحرَ تمتلئ الحياةُ في عيني مزيجاً من الثَّراءِ، في عِبارةٍ أو شَذْرةٍ من شذراتِ الولَهِ “هذه خلوةُ مَن خبرَ الحياةَ وعبرَ في صمتٍ”.
البحرُ زاخرٌ بأَشْرِعَةِ الحياةِ والأسرارِ، والغابةُ حين تنحني كأنها تنبئ بسرِّ الوُجودِ لتمتَدَّ في الأعالي شامخةً بعد هدوءِ العواصفِ والأنواءِ، ضاربة في أعماقِ الأرضِ والحياةِ بالظِّلالِ والعَطاءِ… أجلسُ القُرْفُصاءَ أمام المقبرةِ… أُدْرِكُ أنَّ هُنا سِرُّ الأسرارِ.. تَنْبُتُ أحزاني فجأةً، أسحبُ أطرافَ الأفكارِ المبتورةِ الموزَّعَةِ على كافَّةِ الأرجاءِ بينَ البحرِ والغابةِ… تلك انطلاقةٌ أُخْرَى لتضربَ بأجنحتِكَ الوقتَ الآسر…
ـ 4 ـ
وكأنَّني أجتازُ قفراً من الغرَابةِ والعُزلةِ الآنَ…! أدُورُ في متاهاتِ تفكيرٍ تائهٍ، أغْفُو وأَسْبَحُ متأمِّلاً، أرى ما لا يُرى، يعتريني طيفٌ مِنَ الرُّؤَى والوجوهِ والصورِ، مثقلة بالآيات والعِبَر، فعلى لِحى أشجارِ الغابةِ نُحِثَتْ أسماءٌ وقلوبٌ…، وعلى شواهدِ القبورِ رُصِّعَتْ أسماءٌ وأسماءٌ لمنْ عَبَرَ في هذهِ الحياةِ، وآياتٌ وعِبَرٌ شتَّى أُخَر..، أرنُو إلى المقبرةِ فأرى الشَّاهدَ شاهِدَ صاحبِ الخلوةِ، فأتلبَّس بحرفِ البدءِ والختمِ مَرَّةً أُخْرَى “هُنا يرقدُ.. من كانَ يحبُّ الحياةَ!!” فأشتعِلُ بالوَلَهِ!! تَضْطَرِبُ حالتي، تختَفي مَعَالمُ طَريقِي، وأَجْزَعُ من الخاتمةِ! أُفتَتنُ كمن يرتعِشُ في يدهِ مفتاحُ بابٍ وهو في عَجَلةٍ من أمرهِ لموعدِه معَ سفرٍ عاجلٍ لَمْ يُرَتِّب لَهُ وَلم يكن في الحُسْبَان، رَحَّالَةٌ بلا محطَّاتِ وُصُول… هو الَّذي كانَ يحلُمُ بالحُبِّ والسَّفَرِ البعيدِ، لكن هذهِ المرة تتَثاقَلُ الخُطُواتُ كمَنْ لا ينوي الوُصُولَ…
ـ 5 ـ
الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهدَ القبور كان غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلأى بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ… لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ…! رحالة تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!!
ـ 6 ـ
هذانِ دَربانِ، الأوَّلُ يأخُذُني للبحرِ، والثاني يأخذُني للمَقْبرَةِ… فأَرْنُو إلى القبورِ، أستنفرُ خُطايَ، أفكر في النهاية، أحتاطُ من المجهولِ، أُنْصِتُ لنداءِ الغيبِ، البحرُ زاخرٌ بصنوفِ الحياةِ، يمنحُ الكائنَ أسرارَ الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والقبرُ مليء بحياةٍ أبديةٍ حقيقيةٍ خاليةٍ من الزَّيْفِ، حياةٌ طاهرةٌ صامتةٌ لكنها كاشفة، هُنا جواب واعضٌ يقينِيٌّ عن كل أسئلتي وحَيْرَتِي، وأرى ما لا يرى، فهأنذَا أطوفُ ما أطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ بي قدمايَ رغماً عَني حيثُ تريدُ…
ـ 7 ـ
أعتمِرُ قُبَّعَتي ثم أُصَوِّبُ خُطايَ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ…، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لا يُدْرَكُ، والقلبُ يَنْخَلِعُ من مكانهِ، يتهَلَّلُ للوداعِ، قد تهدينا الخُطُواتُ إلى ما قد وُجِدَ بهما، قد أركضُ وأَجْتَرُّ حرَّ الآهِ…! ثم أنبِشُ عن مُسْتَقَرٍّ يمسحُ ما في القلبِ من كَمَدٍ، مستقر أُسائِلُ فيه عن حرفِ البَدْءِ وحرفِ الختمِ، فأطلبُ مدداً…، غير أنَّ خُطوةً واحدةً خاطئةً قد ترميني في الهُوَّةِ السَّحيقَةِ، لكن حَسْبِي الاحتماء بالحذرِ إن نفَعْ، أُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ أُخْرَى، كمَنْ لا يَنْوِي الوُصُول…
ـ 8 ـ
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي… ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك… وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء…
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ …
ـ 9 ـ
الخطواتُ تتلوها الخطواتُ، وهو يمشي ثمَّةَ مكانٌ سوف يصلُ إليه، وبعدهُ ثمةَ مكانٌ آخر، لم يحس بخطاه أبداً، لا يلتَفِتُ، كلُّ الأشياءِ من حولهِ تبدُو غائمةً، والشمسُ محرقةٌ، والسرابُ يكتَسِحُ الطريقَ الوَعْرَ الجافَّ، منذُ ساعاتٍ وهو يسيرُ، شرَدَ ذهنُهُ إلى بعيدٍ، إلى الماضي الَّذي تجسَّدَ أمامهُ في هذهِ اللَّحَظاتِ، فَرَاحَ يستعرضُ صُوَّرَهُ… كمَنْ يحاولُ عبثاً أن يُقَصِّرَ المسافَةَ، فلا الطريقُ قصُرَت، ولا الذِّكرَياتُ جادَت، تعب ولم يتعب الشُّرودُ، ووَهْمُ الوصولِ مُرْفَقٌ بألفِ احتمالٍ، فلقاءُ أُمِّهِ قد يكونُ الأخيرَ..
كم هو فظيعٌ أَلمُ الفراقِ… سنواتٌ سيئة، حين يعيش الإنسانُ على ألمِ الفقدِ، وكعادتهِ يظلُّ يمشي تائهاً يستَبِدُّ بِهِ الشُّرُودُ من كفنٍ إلى كفن، يعصُرُه الصَّمْتُ سحاباتٍ وقلَّما باسماتٍ، تسقي أَدِيمَ الرَّحيل، يتجرَّعُهُ العَويلُ مسافاتٍ بين النَّعيمِ والجَحِيمِ، بين اليقظَةِ والحُلْمِ، والخُطوات تصيرُ أَمْيالاً!
تَعِبَ من كثرةِ المشْيِ، المسافةُ طويلةٌ، وحقيبةُ الأغراضِ الَّتي يحملُها على كتفهِ ثقيلةٌ، والطريقُ ما تزال طويلة، تحسَّسَ الصَّخْرةَ الملساءَ بالقربِ من الشَّجرَةِ الوارفَةِ الظِّلالِ فجلسَ، نَظَر َبالقُربِ منهُ قافلةٌ من النَّملِ راح يُتابِعُها، ثم نظرَ بعيداً…
هُوَ الَّذي قد ترحلُ أمُّهُ هذا اليوم، يأخذهُ الشَّتاتُ والتِّيهُ إلى حيثُ لا يدري، يُسنِدُ ظهرَهُ إلى جذعِ الشَّجَرةِ ليستريحَ، يُمَدِّدُ جسَدهُ على الأرضِ العراءِ كمَنْ لا يَنْوِي الوُصُولَ.
ـ 10 ـ
كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي… ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك… وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء…
لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ …
ـ 11 ـ
أجل، لقد غابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ… لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فمن بين ما أتذكر من دُرَرهم وحكمهم وبمزيج من العشق والشوق، ما ذكره لي ذات يوم أبي ناصحا “لو علمت السرعة التي سينساك بها الناس بعد موتك يا بني… فلن تعيشَ لإرضاء أحد سوى الله”.
منذُ ذلك اليوم، وأنا أدعو لوالدي أن يتغمدَهُ الله برحمته، ولم ولن أنساه ما حييتُ.
باحث وكاتب من المملكة المغربية، لديه إصدارات شعرية وسردية وقصصية