النفس البشرية كموج البحر تارة يهيج هيجاناً، وتارة بينَ بين، وتارة يعمه الهدوء فيكون متعة للناظرين.
النفس المسلمة المطمئنة ـ نسأل الله إياها ـ تجعل الهيجان همة تدفعها لفعل الخير، وتجعل البين بيناً للدعاء، وتجعل هدوءها للاستغفار.
هذه مقتطفات من وحي الخاطر أبثها إليك، عسى الله أن يرحمنا.
أخذت أبحث عن صديق دائم أشكو له. صديق دائم يدوم لي، يشاركني فرحي وحزني، صديق يهتم بي ولا يفارقني. بحثت وبحثت فوجدت أنه لا حبيب، ولا رقيب، ولا معين، ولا حليم، ولا رازق للفرح والسعادة، ولا دائم وباق لي إلا.
إلا المعين، إلا الحليم، إلا الكامل، إلا الرزاق، الذي هو أزلي لا يموت، معي دوماً، وإن فارقني الأحبة، وإن كان معي الأحبة، وجدت بأنه خير من يجب أن أذكره دوماً، خير من أشتاق لرؤياه، خير من أعاتب نفسي وأذمها من أجل عصيان أمره.. خير من أعظمه.. خير من أشكو له فلا يردني.
إنه الله.
ربي الجبار يعطي عبده ويرزقه ما يشاء فهو بيده الخير كله، يعطيه إن كان مقصده رضا الله، ليزداد إيماناً، ويبني ويشيد في الأرض بناء.. ويعطي عبده الجاحد الذي مقصده الدنيا، يجحد ويتكبر بهذه النعمة والعطاء فيمكر عبده الضعيف.. ولكن الله خير الماكرين.. فيزيد عبده من خيره، حتى ينغمس في لذائذ الدنيا ويجحد، وينكر فضل ربه، ويبتعد عن رحمته فالله هو الغني عن عبيده يعطيهم إن شكروا، وإن جحدوا، فالدنيا عنده لا تساوي جناح بعوضة
أنسى الماضي الذي هو منذ سنة، وأنسى الماضي الذي هو أسبوع، وأنسى الماضي الذي هو البارحة، وأنسى الماضي الذي هو الصبح.
أنسى الماضي الأليم، فأنسى الذي يثبطني عن العمل الجاد المثمر، وأعيش في الحاضر، في الحقيقة، وأعمل للمساء، وأعمل للغد، وأعمل للأسبوع القادم، وأعمل للسنة الآتية، وللموت الآتي، أعمل وأقع، ومن ثم أقف.. أعمل وأجرح ومن ثم يلتئم الجرح، أعمل وأبكي ومن ثم يأتي الفرح.. أعيش في الواقع الذي هو الآن، فأحفره بأسناني، وأناملي حتى أعيش في شيء اسمه الحقيقة
قل للذي يقول: ماذا عسانا فاعلين في أمواج الفساد هذه!
ألا ترى النبتة الخضراء مغروسة وسط الجبل الأسود!
ألا ترى النبتة الخضراء مغروسة وسط الرمال الصفراء!
فنحن سنسد الثغرة تلو الثغرة، وسط ظلام الفساد، بعد عونه تعالى ومنّه وكرمه.
إلهي يا ذا الجود والكرم.. إلهي من سواك، فأنا العبد الفقير، الذليل الذي أذلته الدنيا، وأغواه الشيطان.. أنا العبد الذي يزل ويسقط، وبعونك يا كريم يقف ويمشي.
نعم. يمشي ليكمل مسيره في هذه الدنيا، وهو عالم بضعفه.. عالم بفقره إليك، عالم ـ وأنت الأعلم ـ بأنه الجاحد المنكر لعفوك وكرمك.. ولكن من له سواك إن جحد.. إن سكّرت بوجهه كل أبواب الدنيا في ناظريه.. فلن يجد إلا بابك.
وعدوه ـ نفسه ـ التي بين أضلعه يكاد يقتله رويداً. رويداً.
ولكن عبدك الفقير يستلذ بتعذيب نفسه له! نعم.. فهو يجد لذة فقره إليك، ولذة عفوك عنه.
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا لعبادتك.
لو كل آدمي على وجه هذه الأرض نظر بأم عينه أن لا معين له إلا الجبار، لعمل بكل يقين وإخلاص، لما انتظر أهل الدنيا كي يبدأوا، بل يمضي ويقول: ربي.. ربي فبفضل الله رزقنا الفطرة التي تدلنا على طريق الغرباء، ولنا الشرف أن نكون غرباء ولا نرجو من الله إلا المغفرة والرحمة، والجود منه جل علاه.
إن الإنسان جُبل على حب المال والدنيا، وجهاد النفس فيهما شيء جميل.. فبمالك أخي المسلم تبني دياراً قد هدمت، وتشبع بطوناً قد ضمرت.
إنها رحمة من الله بالبشرية أن يكون في الكون فقير وغني. ففيه اختبار، وميزان عدل. إذ قال عليه الصلاة والسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام: «فرب درهم أخلص صاحبه في نواياه يا سهماً صائباً في قلب عدو».
نعم. فاجعل مقصدك رب العباد.. (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) للمتقين الذين يطفئون نار السيئة بنور الصدقة.
مهما خططت عن الرحمن، فإن عقلي الفقير سيكل وقلمي الصغير سيجف.. إن ربي كرمه كبير وجوده عظيم، ومن جوده الجليل (العقل).
نحمده على أن ميّزنا عن باقي مخلوقاته بهذا العقل.
ولكن!
إن للعقل المكرم به الإنسان وظيفة جليلة، وعمل مشكور عليه إن كرّمه صاحبه، وحلّق بناظريه في ملكوت الله، وما يحويه من معان سامية.
في الشمس إذا أشرقت تذكّر نور الهداية. في الشمس إذا غربت تذكر بأن الله حي لا يموت. في الشجر الأخضر النابت. في البذرة. في القشرة. في كل شيء.
وفي النهاية يجد الإنسان بأنه فقير، يطرق باب رحمة الجبار، في كل عمل خالص لوجهه.
بالعقل إن اختار صاحبه طريق الإخلاص، لنيل الجنان، وسمت روحه عن الشهوات السفلى، أصبح عند الله أفضل من الملائكة! نعم. لأنه جعل قلبه خالصاً لربه ونسي الدنيا وما فيها.
عندما تلتمس ضوء الدنيا مقلتا الوليد، فإن نفسه في تلك اللحظة تكون كالثوب الأبيض الخالي من الدنس، وعندما تكابد وتعاصر هذه النفس محطات الحياة الدنيوية، وتغفل في لحظات إيمانية، فإن الثوب الأبيض الطاهر تدنسه الذنوب، وتلطخه بعار الجرم، وعار حب الدنيا، وسواد الجري وراء شهواتها ولذائذها.. فعليه بدوام الاستغفار، فالمرء جُبِلَ على الخطأ والنسيان
وأخيراً.. أخي العزيز (كلمة من اليتيم إليك):
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة» (رواه مسلم).
إليك أيها الأب الرؤوف.. إليك أيتها الأم الحنون
أشتاق ليد حانية تمسح على رأسي.. أشتاق لصدر دافىء أضم به كلّي وجوانحي
انفق عليّ ينفق عليك الرحمن، انفق عليّ ولو بكلمة طيبة، أو ببسمة طاهرة أريد قلباً ينبض بالحب يحتويني يعرف مشاكلي وهمومي، ولو من بعيد.. يكون لي أباً أو أما أو أخاً صادق الوعد
اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها.