اسمحوا لي أن أهمس لكم بتجربة ربما سمعتم بها يوماً ولكنكم لم تدخلوا في أعماقها لتروا ما يدور داخلها وما تهدف إليه.
كانت صدفة عندما قرأت في إحدى الصحف عن دعوة للتطوع، لم أتردد كثيراً ففي قلب المرء طاقات لعمل الخير لكنها تنتظر من يدعوها أو يسمح لها بالمرور.
رفعت الهاتف لأستكمل تفاصيل الدعوة التي ربما لا تصادفني مرة أخرى، فكان للحديث طلاوة وتشويقاً، إنها دعوة هادئة للعمل على مساعدة أبنائنا فلذات أكبادنا من الأشخاص ذوي الإعاقة من أجل النهوض بهم ومساعدتهم في التكيف مع الإعاقة، دعوة وجدت في القلب مساحة خضراء وشوقاً زائداً كأنني كنت أبحث عن بداية الخيط في العمل التطوعي الذي يرفع من شأن الفرد أمام الله وتسعد به النفس فوجدته.
عزمت على خوض التجربة واتجهت إلى مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية صاحبة الدعوة والمنظمة لها والساعية لإنجاحها، ولأنني أحب البدايات أردت أن تكون أولى خطوات عملي التطوعي من مركز التدخل المبكر الذي هو جزء من المدينة ويحمل في قلبه أطفالاً تقل أعمارهم عن ست سنوات، وهو كغيره من أقسام المدينة يسعى إلى الحد من الإعاقة والتخفيف من وطأتها بتدريب الطفل والأسرة من خلال برامج مدروسة ومتقنة.
في البداية كنت أظن أنني أول من سعى لتلبية الدعوة، ولكني فوجئت أن المشاعر التي امتلىء بها قلبي عند سماع الدعوة لقيت إستجابة طيبة لدى كثيرين غيري مما زاد من حماسي وإصراري على خوض هذه التجربة.
يبدأ اليوم بالطابور الصباحي والنشيد الوطني وبعض الأناشيد الجميلة التي تحض على العلم والمعرفة تتغنى بها أصوات قد تتلعثم لوجود إعاقات مختلفة ولكنها تحتفظ بمعاني الكلمات موسيقا مرحة تتداخل مع الأصوات لتشكل نغمات تطرب لسماعها الأذن وكأنها سمفونية تود لو تستمع إليها مرات ومرات.
وكأنهم أحسوا بما يجول في خاطري فعادوا وأنشدوا ومن قال حرفاً أعاده كلمة ومن قال كلمة أكملها جملة،.. وهكذا هي بداية الأماني في غد نتصدى فيه للإعاقة ونخطو فوقها فيطويها النسيان.
يتحرك الطابور كالقطارات تتجه بركابها إلى أوطانهم، إلى فصول واسعة جميلة مليئة بالألعاب والمجسمات التي لا تراها إلا في هذا الصرح العملاق، كل ما يحيط بالطفل في عالمه له مجسم يستطيع به أن يتعرف على اسمه ولونه وحجمه وصوته، ورويداً رويداً يعي الطفل هذه الأشياء ويفهم مغزاها وما تهدف إليه في عالمه المتجدد.
ولا ننسى قرآننا الكريم، فذكر الله دوماً في كل صباح يحمل لنا البشرى فتطمئن قلوب الصغار وتتعالى على الإعاقة.
إنه عمل شيق ودؤوب ولكن لا ملل فيه، فطفولتنا التي نحتفظ بها في وجداننا تتفجر مع هؤلاء الصغار فنذوب تفاعلاً وانسجاماً ويحيط بنا جو من المرح والعلم والتجربة تشبع به رغباتهم وربما رغباتك أنت!
نستمر سوياً، نتوقف ولو لدقائق مع ملائكة العلاج الطبيعي والوظيفي، يذهب معهم أحد الصغار ويحيي زملاءه الآخرين بكلمات أو إشارة، ويطفح وجهه بعلامات السعادة، ربما لأنه نودي عليه فخص بالذكر دون الآخرين أو أن ما ينتظره عمل شيق فيه مرح أكثر مما كان فيه.
تمر الساعات وتطوى كصفوف الأشجار في طريق سريع تعلوها حمامة ترفرف علينا بجناحيها فتطوينا معها بصدق وحب وخير يتدفق.
رويداً رويداً تشعر أن هذا بيتك، وهم أبناؤك، إن غاب الصغير لا تهدأ إلا بعد الاطمئنان عليه، وإن غضب الصغير أظلمت الدنيا في وجهك لفقد بسمة اعتدت عليها، وإن ناداك بحرف أكملته كلمة، وإن أكملها كلمة جعلناها جملة فقصة تغدو لنا أشعاراً لصبح وقمر لا يغيب.
إن إحساسك بطفل يتغلب على الإعاقة هو غاية النفس ومناها في هذا الجمع الجميل الذي لا مكان فيه للأحلام، فالواقع أروع من الحلم.
السعادة تغمر الجميع عندما نرى طفلاً يتحسن، وما أسرع ما يتحسن الصغار ويهرولون نحو الغد المشرق لأن إرادة الحياة قوية لا تقبل أبداً العودة إلى الوراء.
إن فكرة التطوع هي دعوة مفتوحة لكل من يشعر في ذاته أن لديه ملكات خاصة يستطيع بها أن يتعامل مع الاشخاص من ذوي الإعاقة فيكتسب مهارات جديدة بالعلم والتجربة ويغدو عضواً نافعاً لنفسه أولاً ولأمته ثانياً.
أنين القلب
تأنّ يا قلبي تمهل
ستفتح لك أبواب الأقدار
تحلم بكأس مترعة
ترويك بمائها كالأنهار
تضم الصغير إلى صدرك
فتعلو بين الناس بافتخار
تجوب الكون دروباً
فتعشق قدميك الديار
تودع أحلاماً زائفة
تحيا بحلم يزهو فيه الصغار
يا قلبي كفاك أنيناً
فحبك اليوم أشعار