ضمن برنامج تدريبي لتأهيل عاملين في مجال الصم المكفوفين كان لابد من معايشة خبرة الصمم وكف البصر لنصف ساعة.. كنا مجموعتين نتبادل الأدوار؛ الأولى هم الصم المكفوفون الذين سدت آذانهم، وغميت أبصارهم بوسائل اصطنعها المشرفون، ولم تنجح في حجب السمع أو البصر كلياً، والثانية هم الشركاء الذين يقومون بالرعاية أو المشاركة في الخبرة والتفاعل، ومهمتهم رعاية الشريك الكفيف الأصم وإبعاده عن كل ما قد يسبب له الأذى، وأيضاً محاولة التواصل معه، ولم يكن مسموح لنا استخدام اللغة المنطوقة مطلقاً، عدا ذلك يسمح بأي وسيلة يمكن للشريكين التواصل من خلالها، وتضمنت الخبرة التى عشناها معاً صعود السلم إلى سطح البناية الذي كان مساحة واسعة تحوطها أسوار منخفضة، وتتناثر عليه بعض الأشياء الملموسة.
بداية عشت دور الشريك ذي الحواس.. ذهبت إلى زميلتي المنتظرة خارجاً بلا سمع أو بصر.. سلمت عليها.. عرفتني.. امتدت يدي إلى يدها كى نبدأ التحرك.. خطوة واحدة وجذبت يدها بعنف.. تسمرت بمكانها.. احتويتها بجسدي.. أحاول طمأنتها وإفهامها إننا سنصعد سلماً.. بعد جهد توهمتُ أنها فهمتني وبدأنا وأنا ممسكة بيديها.. تستمر محاولاتي لإحتوائها. جذبت يدها مني بعنف أكثر.. صدمني ما حدث.. لم فعلت ذلك؟!! بغضب مكتوم أتساءل داخلي لم تعاملني بهذا العنف؟!! وقالت هي فيما بعد عن تلك اللحظة (شعرتُ بأمومتها لي.. فعلاً شعرت بالأمان، لكنها أرادت تقييدي ألم يكفني قيد الصمم وكف البصر؟) وقفتُ للحظة.. مدت يدها اليسرى تتحسس الجدار.. في لحظة استبصار سمحتُ ليدها اليسرى أن تمتد وأن ترى بها ما تريد.. بدأت تطمئن.. صعدنا السلم معاً.. مشينا بهدوء على أرضية سطح البناية.. أنتشي متوهمة وجود لغة مشتركة بيننا؛ ناضلتُ كثيراً لكي تتعرف على (مجسم لسمكة) وتوهمتُ فهمها.. ثم علمتُ بعد انتهاء الورشة أن ما فهمته شريكتي الصماء الكفيفة كان أن المجسم لفأر!!!!
حين تبادلنا الأدوار.. كنت أعلم حدود المكان، وأننى قد أتعرض لخبرة مفاجئة لبحث رد الفعل كما كانت بيني وشريكتي بعض الإشارات اللمسية الناجحة التي اتفقنا على معان لها من خلال خبرتنا المشتركة: المشي.. صعود السلم.. الموافقة على عمل ما أو رفضه.. الكرسي.. وجود حجر يجب تجاوزه.. بدأتُ بوضع سدادات الأذن.. احتواني صمت مخيف.. تذكرت ولديّ فاقدَي السمع.. رفعت بصري إلى السماء.. فاجأتني طائرة تعبر.. أختنق بألمي.. لم يسمح الوقت بالمزيد من التأمل؛ وضعوا غمامة على عيني، اختفت صلتي بكل ما أعرف.. امتدت يدي باحثة عن بعض الأمان في شريكتي.. أدرك يداً.. من خلال ملمس كم الجاكيت أعي أنها شريكتي.. فهمت أننا سنسير.. الفضاء يمتد بلا نهاية، والخوف يحتويني بلا اطمئنان.. أحاول التمسك بأقرب شيء.. لا أجد سوى الأرض.. سحبتني شريكتي بلا هدف. لا أعرف إلى أين نمضي؟ أشحذ خبراتي للتعرف على المكان.. ها هو السور.. لكنها تعود بي إلى اللاهدف.. تمسك يدي وتحركها.. لا أفهم أي شيء.. أحاول.. أناضل كي أعي ما تريد إبلاغي به.. أفشل.. أستسلم.. تقودني مسلوبة الإرادة.. يمر الوقت بطيئاً.. متى سننتهي؟ ماذا سيحل بي؟ الكون حولي خوف يمتد.. ألتمس الأمان في أي شيء.. أتشبث بالأرض لحظة.. أجلس وأقوم.. شريكتي لا تعي خوفي.. أستخدم كل أسلحتي لقتل الوقت حتى ننتهي.. أدعي أني متعبة، وأريد الجلوس على الكرسي، في الحقيقة أردت الاحتماء…كنت أعي أني قد أتعرض لخبرة مفاجئة كدفع الكرسي ذي العجلات للتحرك لكنني آثرت أن أمر بخبرة أعلمها وإن كانت مؤلمة.. تظل أفضل من المجهول.. أخذتني إلى منضدة عليها بعض الأشياء.. وضعت في يدي خيطاً يبرز من أسطوانة صلبة.. أدركت أنها شمعة.. نفختُ أمثل عملية إطفاء الشمعة لتعرف شريكتي أني نجحت في التعرف على ما أعطتني.. فوجئت بها تأتي بإشارات غريبة.. أتأمل.. أركز جيداً.. ماذا تريد؟ وماذا تعني؟!! تستمر محاولاتها بلا ملل.. فهمت أخيراً أنها ترمز لاستخدام الشمع في الاحتفال بسبوع المولود كعادة مصرية للسبوع، وحينها تجهمت بشدة.. شعرت بغضب وضيق حقيقي.. أسئلتي بداخلي تتوالد : تعرفتُ على ما أرادت؟ أنجزتُ مهمتي.. ماذا تريد مني؟ لم لا تعطيني بقية الأشياء؟ ترى ماذا على المنضدة أيضاً؟ هي ترى تجهم وجهي.. أدركته لكنها لم تفعل شيئاً تمتد يدي رغماً عني تريد نزع الغمامة، وسدادات الأذن.. تمنيت أن أقذفهما من أعلى البناية إلى حيث لايمكن أن يجدهما أحد.. تذكرت أني في مهمة مؤقتة.. لكن الوقت يمر ولا ينتهي.. أجلس مستسلمة لما لا أعرف.. أتمتم حين نزعوا غمامتي: الحمد لله الذي عافانا، تثور دموعي وكأنها تطهرنا من وزر عجزنا عن التواصل مع من فقدوا السمع والبصر؟
وأكتفي الآن بسؤال سأعود إليه: أليس من حق الكفيف الأصم أن يكون له شريك كفء؟!!
سهير عبد الحفيظ عمر «أم الرجال»
د. سهير عبد الحفيظ عمر (أم الرجال),
- استشاري التربية الخاصة وتأهيل الأطفال الصم المكفوفين.
- حاصلة على أول دكتوراه في الوطن العربي تتناول تنمية التواصل لدى الأشخاص الصم المكفوفين، تجمع بين الدراسة العلمية ـ كباحثة أكاديمية لها العديد من الدراسات ـ والخبرة والممارسة العملية التي تنوعت بين أمومتها الخاصة لاثنين من فاقدي السمع المتميزين ذوي التجارب الرائدة والعمل في مجال تأهيل الأطفال ذوي الإعاقة السمعبصرية.
- تمتد خبرتها العلمية والعملية في مجال الإعاقتين السمعية والسمعبصرية إلى ما يقرب العشرين عاما، تعمل كمستشار لعدد من الجمعيات والمواقع الإلكترونية العاملة في مجال الإعاقة.
- عضو مجلس أمناء مركز القاهرة للتدخل المبكر واتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب الإنترنت العرب.
- محاضر ومشارك في عدد من المؤتمرات والدورات وورش العمل المحلية والعربية والدولية المتخصصة في مجال الإعاقة.