لم يكن حلمي أو سعيي لاستكمال ابنيَ ضعاف السمع الشديد تعليمهما العالي إلا لتمكينهما ودعم استقلاليتهما، وبعد مرور سنوات على حصول أحمد على درجة بكالوريوس الفنون التطبيقية وكريم على بكالوريوس علوم الحاسب يبدو التعليم العالي خطوة في رحلة تستمر.
التحق أحمد – الأكبر ذو الصمم العميق والذي يرتدي سماعتيّ أذن ويتواصل من خلال الكلام وقراءة الشفاه – بالمدارس النظامية مثل السامعين، كنا نخفي صممه كي لا يحول إلى مدارس التربية الخاصة التي لا تؤهل للالتحاق بالتعليم العالي، ورغم كل النضال وعلى الرغم من تقديراته ونتائجه الممتازة اضطرتنا القوانين في بعض السنوات إلى بقائه في المنزل مع تحمل الأسرة مسؤولية تعليمه مناهج السامعين.
لم تكن فرحتنا باجتياز الثانوية العامة كافية للتغلب على صعوبات صراع المنافسة في مكتب التنسيق؛ كانت قرارات المجلس الأعلى للجامعات المصرية تسمح لمن لديهم إعاقة تعوقهم عن تدوين المحاضرات باستكمال دراستهم الجامعية في كليات نظرية هي الآداب والحقوق دون منافسة غيرهم في مكتب التنسيق، ولم يكن ذلك – وفق رؤيتنا – طريق التمكين لشخص يؤثّر الفقد السمعي على قدراته اللغوية وعلى تواصله مع الآخرين؛ لم أنس كلمات أحد المسؤولين الذين التقيتهم في رحلة البحث عن حل ليدرس أحمد الفنون التطبيقية: (دي كلية بتاخد 90٪، احمدي ربنا إنه هيكمل ف أي حاجة وشجعيه يدرس حقوق أو آداب)..!
كانت قناعتنا وما زالت أن لكل شخص الحق في دراسة تسمح بها قدراته، وكنا نؤمن بقدرات ابننا ولم يكن أمامنا سوى معهد خاص بمصروفات بدت مرهقة لأسرة متوسطة تضم فردين من ضعاف السمع بما يتطلبه هذا الضعف من معينات سمعية وصيانة وبطاريات، أعترف بأن هذه المصروفات – رغم ضخامتها في تصورنا ـ لا يمكن مقارنتها بما فرضته زراعة القوقعة لاحقاً من أعباء.
أتاح المعهد العالي للفنون التطبيقية لأحمد دراسة عملية أحبها وتميز بها في قسم التصميم والإعلان، وقدم له بعض الخدمات المساندة للتغلب على مشكلات التواصل كمحاضرات أو تعليمات مكتوبة وأحياناً جلسات فردية في بعض المواد، كما منحه التعليم العالي في هذا المعهد مجتمعاً محباً داعماً من الزملاء الذين انتخبوه في سنته النهائية ضمن اتحاد الطلاب ويسروا مشاركته بل وقيادته لبعض الأنشطة.
على الرغم من دعم أساتذته وزملائه إلا أن الاتجاهات السلبية وتدني التوقعات دفعته إلى تكرار أحد مشروعاته التعليمية ثلاث مرات مع شرح خطوات واجراءات التنفيذ ليتثبت أستاذه من قدرته، لقد منحه الأستاذ تقدير ممتاز، ولكن بعد بذله ثلاثة أضعاف الجهد المطلوب من زملائه السامعين.
حصل أحمد على بكالوريوس الفنون التطبيقية بتقدير جيد جداً على الرغم من إقامته في مدينة بعيدة عن الأسرة، وتفرض موهبة أحمد في التصميم نفسها ويعمل متنقلاً بين عدة شركات، ويستقر في شركة عالمية موظفوها متعددو الجنسيات لتتضاءل مشكلات التواصل ويكتب: لست المختلف الوحيد.
يبدو أن أحمد لم يجد ذاته المتأملة للطبيعة والذائبة بين النجوم إلا في التصوير لا التصميم، ومن خلال تواصله عبر الانترنت مع مصورين، ومع رحلة بحثه المتواصلة وتعلمه الذاتي يقرر العمل كمصور ومع براعته في تصوير الفيديو بكاميرات التصوير الفوتوغرافي وفي تقنية التايم لابس يفرض وجوده في مجال العمل كفنان مصور، ويتواصل معه المخرجون من خلال الكتابة في معظم الأحيان.
أجرى أحمد زراعة القوقعة منذ عامين تقريباً، وتستمر رحلة التأهيل موثقاً تجربته الفريدة في فيلم وثائقي آملاً أن تكون نهاية الفيلم من خلال قدرته على التواصل مع عملائه وزملائه من خلال حديث هاتفي.
تعلمنا كثيراً من تجربة أحمد، أجدنا محاولات التهرب كي يستمر كريم في مدارس التعليم العام التي رأيناها ضرورة اجتماعية مع استمرار الدعم التعليمي من خلال الأسرة في المنزل.
وبعد اجتياز كريم لبوابة الالتحاق الأولى وربما الوحيدة للتعليم العالي وهي الثانوية العامة علمي رياضة بمجموع 70% بدأت رحلة البحث عن مكان خاص بمصروفات يتقبل كريم فاقد السمع الشديد الذي يرتدي سماعتي أذن ويتواصل بقراءة الشفاه.. كانت الرحلة أكثر صعوبة لرغبة كريم في الإقامة مع الأسرة والمبيت يومياً في مدينتنا بوسط دلتا نيل مصر، الاختيارات محدودة، والتقبل أقل، وفكرة اكمال الأشخاص الصم وضعاف السمع تعليماً عالياً غير مألوفة. كم طفت ووالده المعاهد والجامعات الخاصة لمناقشة تقبل الالتحاق وبحث سبل المساندة، وكم من مرات غلبتني دموعي رغم نضالي لإخفائها عن كريم لرفض بعض الأماكن مجرد مناقشة فكرة الالتحاق.
كريم متطوعاً في لجنة البرامج والأنشطة في مخيم الأمل 28 بالشارقة (ديسمبر 2017)
مع استمرار السعي التحق كريم بالمعهد العالي لعلوم الحاسب بمصروفات بتكلفة تقل كثيراً عن الفنون التطبيقية وتبدو كذلك جودة الخدمات التعليمية، حصل كريم على بكالوريوس علوم الحاسب معادلاً لما تمنحه الجامعات المصرية لكنه لم يكن مؤهلاً لسوق العمل، وكنا نؤمن ان لكريم قدرات خاصة يمكن تطبيقها في مجال البرمجة لكنه لم يجد من يعلمه ألف باء البرمجة ليحول الحروف إلى كلمات وتنطلق قدراته الابداعية كما أظن. لجأنا إلى أشخاص لتعليمه في جلسات فردية ولم نوفق، تعلم ذاتياً قيادة الكمبيوتر وحصل على رخصته الدولية، ودورات متقدمة في ادخال البيانات لكنه لم يوفق في الحصول على عمل.
مرت ست سنوات على حصول كريم على البكالوريوس ولم يعمل، يحاول الآن تعلم البرمجة ذاتياً من خلال مواد الانترنت، المحتوى العربي غير متاح لكريم وأمثاله فعلى الرغم من الفقد السمعي الشديد لكريم إلا أنه أقرب لمجتمع ضعاف السمع فهو لا يستخدم لغة الإشارة ولا يعرفها، وبحاجة لإتاحة المحتوى السمعي للبرامج مكتوباً نصياً، بدأنا في تحويل الفيديوهات إلى كتابة نصية، طلب دعم متطوعين من خلال تويتر، تواصل معه مبرمجون، يرشدونه إلى محتوى أجنبي متاح نصيا ويبدو أيسر.
أجرى كريم زراعة قوقعة مع شقيقه منذ عام ونصف، يسجل يومياته بفرح عبر تويتر، ويشاركه المتابعون بهجة تمييز الأصوات ورحلة التأهيل.
أما أنا فأتابع فرحة كريم وأنصت إلى تصفيقه لنفسه صارخاً بعد نجاح أي مهمة جديدة يتعلمها من خلال فيديوهات تعليم البرمجة.
يبدو أن التمكين يقترب.
د. سهير عبد الحفيظ عمر (أم الرجال),
- استشاري التربية الخاصة وتأهيل الأطفال الصم المكفوفين.
- حاصلة على أول دكتوراه في الوطن العربي تتناول تنمية التواصل لدى الأشخاص الصم المكفوفين، تجمع بين الدراسة العلمية ـ كباحثة أكاديمية لها العديد من الدراسات ـ والخبرة والممارسة العملية التي تنوعت بين أمومتها الخاصة لاثنين من فاقدي السمع المتميزين ذوي التجارب الرائدة والعمل في مجال تأهيل الأطفال ذوي الإعاقة السمعبصرية.
- تمتد خبرتها العلمية والعملية في مجال الإعاقتين السمعية والسمعبصرية إلى ما يقرب العشرين عاما، تعمل كمستشار لعدد من الجمعيات والمواقع الإلكترونية العاملة في مجال الإعاقة.
- عضو مجلس أمناء مركز القاهرة للتدخل المبكر واتحاد كتاب مصر واتحاد كتاب الإنترنت العرب.
- محاضر ومشارك في عدد من المؤتمرات والدورات وورش العمل المحلية والعربية والدولية المتخصصة في مجال الإعاقة.