بهدوئها المريح وابتسامتها الحقيقية تستقبلك الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي من على مدخل المنزل، لتسأل عن أحوالك وأسرتك وعملك، وتدعوك لمشاركتها في ارتشاف القهوة، ومن ثم يبدأ الحوار (أنا مستعدة)…
هي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية منذ حوالي 35 سنة، وهذا المكان الذي تحب هو المكان الذي يحبها فيه أصدقاؤها أو أولادها ذوو الإعاقة الذين ـ وبحسب قولها ـ شكلوا شخصيتها، فمعهم وبينهم تمضي أجمل أوقاتها.
هي الأولى التي اقتحمت هذا المجال على الرغم من صغر سنها، واستطاعت أن تتفرد بالكثير من القضايا التي تحولت إلى قرارات وتشريعات فيما بعد، كونها تبنت الدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والوصول إلى تحقيقها: الدمج، التعليم، التوظيف، وغيرها من القضايا التي نادت بها من دون كلل وملل، وصولاً إلى المدينة الشاملة والإمارة الصديقة للأشخاص ذوي الإعاقة، تسعى الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي لتكونا واقعاً حياً على أرض الإمارة التي تنتمي إليها «الشارقة»، ومن أحب إلى قلبها أكثر من الشارقة، المدينة النموذجية للدمج بين أفراد المجتمع كافة وبين الأشخاص ذوي الإعاقة والتي تتوافر فيها جميع المرافق الخدمية والاجتماعية والعلاجية والمساحات الخضراء، إضافة إلى مباني مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية وأقسامها كاملة، على مساحة أرض تبلغ 575 ألف متر مربع، وبمساحة لمشروع المدينة تبلغ 135 ألف متر مربع.
وتالياً نص الحوار معها:
هل قمتم بسد نقص في مجال الأشخاص ذوي الإعاقة؟
ـ طبعاً، على مستوى الدولة كان يوجد نقص كبير في هذه المراكز، والدليل أن الأعداد كانت تتزايد في المدينة، إضافة إلى ظهور بعض الإعاقات التي لا تتوفر لها أية خدمات، كما أننا افتتحنا مراكز تأهيل مهنية للفئة الأكبر سناً، فمثلاً عندما كان الولد يبلغ سن السادسة عشرة لم يكن له مكان في مراكز وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (وقتها)، ويطلب من أهله إيجاد مكان آخر له لعدم وجود خدمات لهذه الشريحة، ويحتار الأهل أين سيتوجهون به؟ فعمدنا إلى تأسيس مراكز التأهيل المهنية لاحتضان أفراد هذه الشريحة، والتي كانت مهامها تهيئتهم للانخراط في سوق العمل.
وكذلك من الثغرات التي ساهمنا في إغلاقها حالات التوحد والتي لم يكن لها أية أمكنة أو مراكز متخصصة لها، فبدأنا بدمجهم في الفصول بمدرسة الوفاء لتنمية القدرات في المدينة والتي تختص بالإعاقات الذهنية، وبعد ذلك عملنا لهم فصولاً منفصلة، ثم أسسنا مركزاً للتوحد قائماً بذاته، وأخيراً مركز صعوبات التعلم الذي تم افتتاحه مؤخراً حيث يتم استخدام تقنيات تربوية تساعد الطلبة في التغلب على مشاكلهم.
التوجيه من صاحب السمو حاكم الشارقة
من كان يخطط معك وبالتالي يساعدك على وضع الحلول لهذه الفئة؟
ـ أولاً التوجيه كان يأتيني من صاحب السمو حاكم الشارقة، الذي كان أقرب إلى معرفة حاجات المجتمع مني، والتي كان آخرها مركز صعوبات التعلم، بعد أن تلقى سموه الكثير من الشكاوى من الأهالي لأن المدارس لا تستقبل أولادهم، وطلب سموه مني افتتاح مركز لاحتوائهم، وأصدر في الأول من أغسطس 2016 المرسوم الأميري رقم 49 لسنة 2016 بشأن إنشاء مركز الشارقة لصعوبات التعلم الذي سيعمل بإشراف وتحت مظلة مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، وكنت قبلها غير موافقة على الأمر كون هذه المسؤولية تقع على عاتق وزارة التربية والتعليم، إلا أن سموه أصر عليّ معلقاً بالقول: دعي الوزارة وشأنها ولا تفكري بهم، هي مسؤوليتنا وعلينا أن نقوم بها تجاههم.
والأمر لم يكن سهلاً لأنه لم يكن لدي أدنى فكرة عن علاج حالات صعوبات التعلم، وبدأت بالتعلم من جديد والالتقاء بالكثير منهم والتحاور معهم، وشعرت بذنب كبير كوني تأخرت في الالتفات إليهم قبل الآن، خاصة وأن معالجة حالتهم لا تحتاج إلى الكثير من الجهد.
أين قصرت الوزارة وقتها برأيك؟
ـ لم يوفروا لهم الموارد اللازمة للتربية الخاصة بالطلبة ذوي الإعاقة على الرغم من وجود قسم للتربية الخاصة، والذي ترأسه اليوم منى المري التي كانت مديرة مركز التدخل المبكر سابقاً في المدينة، وعندما نقلت استبشرنا خيراً كونها تعي المسؤولية والاحتياجات وهي نشيطة ولديها فكر وعلم ورغبة بالتغيير، ولكنني أعتقد أنها واجهت بعض الصعوبات في تحقيق التغيير وسبب ذلك ـ بتقديري ـ عدم توفير موازنات أو تصاريح الروتين وغيرها. فمثلاً صدر قرار الدمج في المدارس إلا أنه لا يوجد اختصاصيون وخبرات في هذا المجال.
هل الشخص ذو الإعاقة إنسان سعيد في الإمارات؟
ـ إن السعادة أمر نفسي ولكن متى حصل أي شخص كان على حقوقه فستكون أمامه فرصة للسعادة. وأعتقد أن قرار صاحب السمو حاكم الشارقة بفتح المجال أمام جميع ذوي الإعاقة للدراسة في جامعة الشارقة مجاناً جلب أو حقق السعادة لهم.
ونتمنى من الجميع المساهمة في حملة الزكاة «قد أفلح من تزكى» لرمضان هذا العام والتي تهدف إلى تحقيق 12 مليون درهم، مخصصة لتغطية الرسوم للحالات غير القادرة على دفعها.
دمج الأشخاص ذوي الإعاقة
كنتم أول من دعوتم إلى دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المدارس؟
ـ نعم، وكان ذلك في بداية التسعينات، وحتى إنني أرسلت رسالة إلى وزارة التربية تتعلق بضرورة ضم فئة الأشخاص المكفوفين إلى التربية الخاصة في وزارة التربية بدلاً من مراكز وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (وقتها)، حيث يتم ضمهم إلى إعاقات أخرى وقد وافقوا على هذا الأمر. واليوم ما نتميز به عن غيرنا من المدارس بأن الشخص الكفيف يدرس ويتخرج في المدارس.
متى بدأت المدينة بأخذ رسوم من الطلبة؟
ـ في البداية كنا نأخذ مبلغاً رمزياً قدره 3 آلاف درهم سنوياً، وصولاً إلى 8 آلاف بحسب الإعاقات ومن أهم الأمور التي جعلتنا نلجأ إلى الرسوم هي أن نجعل أهل الطفل ذي الإعاقة يدركون أن تعليم ولدهم يساوي تعليم أولادهم من غير ذوي الإعاقة، لأن النظرة أو الفكرة السائدة للأسف أن الأهل لا يتوقعون أن يحصل ولدهم على نتيجة لكونه من ذوي الإعاقة، «فلماذا نصرف عليه المال لتعليمه من دون جدوى، في حين أن أخاه قد يصبح طبيباً أو مهندساً، ويصرف علينا».. وأرد على هؤلاء أنه أولاً وبحسب القوانين فإن التعليم هو حق من حقوق الإنسان للجميع من دون استثناء، والأمر الثاني هو أن الأشخاص من ذوي الإعاقة لديهم مهارات وقدرات مختلفة ومن حقهم علينا أن يتم صقلها وتنميتها، وحتى من يعاني إعاقة شديدة أو مزدوجة من حقه أن يتعلم، وأبسط أنواع التعليم وبحسب ما تعلمنا من الخبراء هو أن مجرد لمسهم لأجسادهم وشعورهم بها هو تعليم بالنسبة لهم.
نظرة دونية
إلى أي مدى استطعتم أن تغيروا هذه النظرة المجتمعية إزاء التعليم؟
ـ تغيرت إلى حد ما، ولكن ما زالت هناك نظرة دونية لهم، وهناك من يلحق ولده بالتعليم والتدريب كونه مضطراً بسبب العطف أو تطبيقاً لحقوق الإنسان أو القوانين لكن بداخله لا يكون مقتنعاً.
بالعودة إلى حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الوطن العربي بصفة عامة والإمارات بشكل خاص، هل أنت من المقتنعين بأنها كافية؟
ـ هناك قانون في الدولة صدر عام 2006 ولكنه لم يحدد بشكل واضح حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ومن المفروض أن تكون التشريعات مفصلة بحقهم.
قانون وديمة ألم يتطرق لهم؟
ـ ذكرت فيه الإساءة إلى الأطفال ولا أعتقد أن فيه تخصيصاً لهم، بل اعتبر أن الطفل من ذوي الإعاقة شأنه شأن الآخرين من الأطفال. والإمارات مصادقة على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والتي تنص على الكثير من الحقوق ونحن ملزمون تجاه كل من يقيم على أرض الدولة من الأشخاص ذوي الإعاقة وليس فقط المواطنين وعلينا أن نمنحهم هذه الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية، وهذا يشكل لنا تحدياً كبيراً، لأن الحقوق تتعلق بالصحة والترفيه والعمل والإتاحة.
فرص العمل
ما قولك في النسبة المخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة فيما يتعلق بالوظائف وفرص العمل؟
ـ حول هذه النقطة لابد من الإشارة إلى وجود جهات طبقت النسبة المطلوبة ولكن كيف؟ فمثلاً توظف لديها النسبة المفروضة عليها، إلا أنها تطلب من العامل من ذوي الإعاقة أو تتفق معه أن يبقى في منزله ويستلم راتبه. كي لا تشغل بالها بمشاكله كما تعتقد، أو عطفاً عليه مثلاً، وفي المقابل يرضى الطرف الآخر بهذه الاتفاقية، إلا أننا نرفض هذا الأمر لأننا لا نريد أن يصبحوا اتكاليين على الآخرين وأن يستغلوا إعاقتهم أو أن يشعروا بالتمييز لكونهم من ذوي الإعاقة، لذلك لا نقول: ذوو الاحتياجات الخاصة بل أشخاص ذوو الإعاقة لتحديد ومعرفة ما هي حاجاتهم، وتوفيرها لهم بقدرها لا أكثر ولا أقل.
ما عدد العاملين من ذوي الإعاقة حالياً في المدينة؟
ـ يشكلون 8% وعدد المستفيدين من المدينة نحو 1780 مستفيداً.
ما هو التشريع الخاص بالأشخاص ذوي الإعاقة الذي تتمنين صدوره قريباً؟
ـ الكثير من التشريعات، والأهم حقوق الإتاحة والتصميم الشامل، بمعنى أن تكون في المدينة مواصفات تتواءم مع حاجات الأشخاص ذوي الإعاقة من مبان ومواقع إلكترونية وأن تكون متاحة، الكثير من المدن القديمة بالعالم اليوم بدأت بتعديل مبانيها القديمة في حين أن الجديد منها كله مصمم بالتصميم الشامل الذي لا يخص الأشخاص ذوي الإعاقة فقط بل يتماشى مع أحدث المواصفات والمعايير ويناسب الجميع.
هل تسعين إلى أن تكون الشارقة مدينة صديقة للأشخاص ذوي الإعاقة؟
ـ منذ فترة طويلة نتناول هذا الموضوع مع المجلس التنفيذي لحكومة الشارقة، وأفادونا بأن هناك توجيهات من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، إضافة إلى أن لكل القوانين والقرارات الصادرة جميعها مهيئة لأن تكون الشارقة مناسبة ومتاحة لكل الأفراد. ولكن أيضاً نحتاج إلى المزيد من التطبيقات، فمثلاً هناك مبان بنيت من دون وجود مواصفات مناسبة، والسبب في ذلك عدم وجود جهة رقابية كما هو الحال في مراقبة المحال والصالونات والنوادي وغيرها، وهي بنسبة 60 إلى 70% تتوافر فيها مواصفات مناسبة للمدن الصديقة للأشخاص ذوي الإعاقة بحسب ما نسمعه من الخبراء وضيوف المدينة في الملتقيات والمؤتمرات. ونحن نعمل على تطبيق المدينة الشاملة ولكن بصمت، فهذه المدينة قبل أن تكون صديقة للشخص من ذوي الإعاقة هي صديقة للجميع.
ولكن المبنى الجديد الذي سيتم الانتقال إليه إن شاء الله، سيحقق الدمج لأننا لا نريد أن تكون المدينة معزولة عن الناس بل في قلب المدينة، لذا ستكون المنطقة المحيطة بالمبنى مكاناً ملائماً للدمج، وسيكون هناك مدارس استثمارية أو وقفية نحقق فيها مبدأ الدمج، ومبان تجارية نحقق فيها التصميم الشامل، وستكون بمثابة مدينة نموذجية تدعم عملنا في المدينة.
وتقع المدينة على مساحة 135 ألف متر من مساحة الأرض وهي 575 ألف متر، بمساحة استثمار 440 ألف متر، وتشمل المدينة خمسة مبان تكلفتها قد تصل إلى 500 مليون درهم، وحالياً مبادرات صاحب السمو رئيس الدولة قدمت لنا 80 مليون درهم.
إمارات الخير
عن رأيها بإطلاق مبادرة «عام الخير» تقول الشيخة جميلة القاسمي:
جميل أن نطلق «عام الخير» على أحد الأعوام، ولكن نحن كل عام لدينا عام الخير، فأنا منذ فتحت عيني على الحياة وجدت أن كل أعوام الإمارات هي عام الخير، ليس فقط لأهل الإمارات بل لكل دول العالم.
(*) مقابلة مع سعادة الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية أجرتها الصحافية القديرة الأستاذة ميرفت الخطيب ونشرت في جريدة الخليج يوم الثلاثاء 7 يونيو 2017.