من بين رواد العمل التطوعي في العالم العربي، يحتل الدكتور موسى شرف الدين مكانة بارزة، ليس فقط لكونه استطاع بنجاح أن يجعل من ابنيه ثامر ومحمود المعاقين ذهنيا شابين يعتمدان على نفسيهما ويستقلان في معظم أمور حياتهما، ولكن لما قدمه من جهود وما واجهه من مصاعب في سبيل حصول المعاقين على حقوقهم، ما أهله لأن يشغل الآن منصب نائب رئيس كبرى المنظمات العالمية في رعاية المعاقين في العالم، وهي منظمة الاحتواء الشامل العالمية.
ويعتبر الدكتور شرف الدين واحدا من مؤسسي الاتحاد العربي لجمعيات المعاقين، ويترأس في الوقت ذاته واحدة من كبرى الجمعيات اللبنانية الإنسانية لخدمات المعاقين، هي جمعية أصدقاء المعاق اللبنانية، في الوقت الذي يمارس فيه عمله كواحد من أشهر أساتذة التخدير في الوطن العربي.
ويقول الدكتور موسى شرف الدين إنه تخرج في كلية الطب بالجامعة الأمريكية في بيروت، وعمل بعدها بالتدريس في نفس الكلية، وتزوج فور انتهائه من الدراسة، حيث كان موعده مع الإعاقة وعن ذلك يقول: بعد أن رزقني الله بأول طفل لي وسميناه فراس تيقن لي أن عنده مشكلة في النمو وأنه مصاب بإعاقة ذهنية، حاولت بكل السبل أن أجد علاجا لحالته، لم أترك طبيبا في العالم سمعت عن مهارته في مجال مرض ابني إلا وزرته، في لندن وباريس ومعظم دول أوروبا، ولم أوفق كثيرا، ورضينا أنا وزوجتي بما قسم الله لنا، وبدأنا إعداد أنفسنا لتحمل مسؤولية هذا الصغير، ومرت فترة صغيرة وحملت زوجتي للمرة الثانية، وبدأت مخاوفي كطبيب من أن تتكرر إصابة الجنين الثاني بنفس أمراض الأول، فأجرينا بعض التحاليل وهنا كانت صدمتي الثانية فاكتشفت أن بيني وبين وزوجتي ما يسمى طبيا "عدم توافق وراثي"، وهو ما يعني أن يكون أطفالنا أكثر عرضة للإصابة بالإعاقة الذهنية. وهنا أصبحت في مأزق: هل تجري زوجتي عملية إجهاض خوفا من أن يكون الجنين معاقا ذهنيا مثل أخيه؟ أم يستمر الحمل ونتحمل النتائج التي في أغلبها خروج جنين ثان معاق ذهنيا؟
رضا بالأمر الواقع
استشار الدكتور شرف الدين أساتذته في الأمر، فاختلفت آراؤهم، وحتى يحسم الأمر لجأ إلى طبيب بريطاني يثق به فنصحه بعدم الإقدام على عملية الإجهاض، وكان منطقه أنه إذا كان عندي طفل معاق ورزقت بآخر، فالقدرة على التعامل مع الطفل الثاني سوف تكون أكبر وأسهل بحكم خبرة التعامل مع الطفل الأول، وإذا خرج الجنين سليما فهذا هو الهدف الأساسي.
ويقول الدكتور شرف الدين: احتفظنا بالجنين، وأراد الله أن يكون محمد معاقا مثل أخيه فراس، وتقبلنا أنا وزوجتي عطاء الله بصدر رحب، وتأكدنا أنه لن ينسانا أبدا إذا ما بذلنا ما في وسعنا مع طفلينا.
بدأ الدكتور شرف الدين يقرأ كثيرا عن الإعاقة وعن طرق التعامل وأساليب التربية للمعاقين ذهنيا، وعن ذلك يقول: وجدتني أنجذب في داخلي لعالم المعاقين بكل براءته وخصوصيته، وبدأت بالتردد على الجمعيات المهتمة بشؤون المعاقين، وفي العام 1978 أسست مع مجموعة أصدقاء جمعية أصدقاء المعاقين، وبعد أربعة أعوام حدث ما لم أكن أتوقعه، عندما اجتاحت القوات "الإسرائيلية" لبنان في العام 1982، ودمرت ضمن ما دمرت في لبنان مبنى الجمعية تدميرا كاملا.
وأمام عجز الجميع عن التصرف، تم تسريح المعاقين وأغلقت الجمعية، وفي هذه الأثناء أراد رفيق الحريري إنشاء مؤسسة إنسانية كبيرة لمعاقي لبنان، ويتذكر الدكتور موسى هذه الأحداث ويقول: اتصل بي المرحوم الشهيد رفيق الحريري يبدي رغبته في أن أدير مؤسسته الجديدة فأجبته بأني أبدي تفهما كبيرا للمهمة الإنسانية التي يقبل على القيام بها، لكنني في نفس الوقت لا أنوي وليست عندي رغبة في متابعة شؤون الإعاقة. وأمام إصرار منه وافقت وكان عليّ أن أسافر إلى أمريكا في البداية حتى أدرس بشكل متخصص إدارة المؤسسات الطبية وعلوم الإعاقة، وغادرت بالفعل في نهاية 1982 إلى جامعة "جونز هوبكنز" لمدة ثلاث سنوات، حصلت خلالها على ماجستير بالإدارة الطبية، وثان بكافة أنواع الإعاقة، وثالث بإدارة المؤسسات، فكنت أول خبير عربي يحمل هذه المراتب في مجال الإعاقة.
جمعية رائدة
عاد الدكتور موسى شرف الدين إلى لبنان في عام 1986 وحاول رغم ظروف الحرب الأهلية أن يلملم أعضاء جمعية أصدقاء المعاق القدامى، حتى كتب للجمعية أن ترى النور مرة ثانية، وشيئا فشيئا تعالى وتعاظم دورها بشكل كبير، إذ شهدت تعاونا كبيرا من أولياء الأمور والأصدقاء، ويقول شرف الدين:نتيجة للإخلاص في العمل استطعنا أن نوفر مبلغ 4 ملايين دولار لتحديث الجمعية لتصبح الآن واحدة من الجمعيات الرائدة في العالم العربي في رعاية المعاقين.
وبالإضافة إلى عمله الأساسي كطبيب تخدير في عدة مستشفيات خاصة وعمله بجمعية أصدقاء المعاق، شرع موسى شرف الدين بعد عودته من أمريكا في تطبيق ما درسه في شؤون الإعاقة، بتنفيذ برامج خاصة للأطفال المعاقين من خلال الجمعيات اللبنانية المهتمة بهذا الشأن، وفي عام1991 أسس مع العديد من الناشطين اللبنانيين (اتحاد جمعيات المعاقين عقليا) في لبنان، ليشمل كافة الجمعيات اللبنانية العاملة في الخدمات الإنسانية بكافة انتماءاتها السياسية والطائفية، وفي عام 1994 بدأ نشاطه في الاتحاد العالمي لجمعيات الإعاقة العقلية أو ما سميت بعد ذلك المنظمة العالمية للاحتواء الشامل ومنذ عام 1996، وحتى 2009 انتخب نائب رئيس بالمنظمة العالمية ورئيس إقليم شمال إفريقيا والشرق الأوسط، (حتى 2012) ونجح في تنظيم ما لا يقل عن 80 مؤتمرا بإدارته الخاصة، وشارك في 180مؤتمرا في كافة أرجاء العالم ما بين أووربا وآسيا ودول الخليج وأمريكا اللاتينية وكندا وأستراليا، ودخل مع بداية الألفية الثالثة مع مجموعة عمل لصياغة الاتفاقية العالمية لحماية حقوق الأطفال المعاقين أو الأشخاص المعاقين، ومؤخرا زار باريس ليشارك بصياغة السياسة الإجتماعية في دول منظمة الدول الناطقين جزئيا أو كليا بالفرنسية أي منظمة الدول الفرانكوفونية والتي سيعرض كمشروع على مؤتمر الفمة الفرانكوفونية في داكار خلال ربيع 2013 كما سيكون بين مجموعة الخبراء العالميين لمناقشة وتعديل وثيقة منظمة العمل الدولية التي أطلقت في الصيف الماضي من أجل إرساء معايير وقواعد (مرتكزات سياسة الحماية الإجتماعية) في نيسان القادم وذلك في سويسرا في شهر أبريل القادم.
وكان قد شارك في مسقط وعمًان ودبي والدار البيضاء وتونس وبنغازي والقاهرة وغيرها من العواصم العربية للاجتماع بكافة الاتحادات المعنية بالإعاقة في المنطقة العربية من أجل رسم خطة لمناشدة كافة الأنظمة العربية للتوقيع على تلك المعاهدة ومتابعة الضغط من أجل إبرام تلك الاتفاقية مع المراجع في الأمم المتحدة.
وباعتباره مشرفا رقابيا على الجمعيات العربية العاملة في مجال رعاية المعاقين بحكم منصبه رئيسا تنفيذيا لإقليم شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة الاحتواء الشامل العالمية، (ما بين 1996 و2012 ) يرى الدكتور موسى أن دولة الإمارات تقف على رأس الدول العربية الداعمة لحقوق المعاقين، كما تحتل مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية المرتبة الأولى بلا منازع.
ويفخر د. موسى بأن ابنيه فراس ومحمد الآن يعتمدان على نفسيهما، حيث يعمل أحدهما بمصنع لإنتاج الجلديات والآخر يعمل بمحل لتغليف بعض المنتجات والهدايا. ومنذ تأسيس الدكتور موسى لجمعية أصدقاء المعاقين عام 1978 وحتى الآن وهو يعمل في الجمعية وفي الاتحاد العربي للمعاقين وفي منظمة الاحتواء الشامل بمجهود طوعي ودون مقابل مادي.
وبنظرة ملؤها السعادة بما قدمه طوال عمله التطوعي مع المعاقين يذكر د. موسى أنه لم يحدث في وقت من الأوقات طوال عمله في مجال الإعاقة أن تلقى أي مبلغ مهما كان ضئيلا، وأن كل ما يقوم به من جهود على المستوى الدولي والإقليمي والعربي واللبناني يأتي خصما من وقته وجهده في مهنته كواحد من أشهر أطباء التخدير اللبنانيين، ومدير برنامج تأمين صحي لنقابة المهندسين في بيروت.
حصل د. موسى على وسام رمز العطاء في لبنان عام 1996، وشهادة تقدير من الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله نظير مساهمته في صياغة تشريعات في المملكة العربية السعودية تخص المعاقين، بالإضافة إلى 145 درعا ووساما من جمعيات واتحادات المعاقين في لبنان والعالم العربي والعالم الخارجي.
مؤلفات مهمة
للدكتور موسى شرف الدين عدد من المؤلفات في مجال الإعاقة أهمها كتابه "الكفاءات الإنسانية إنماء وتطوير"، الذي أصدره عام 1986، والذي يعد أول دليل شامل للأسرة العربية والعاملين الفنيين المختصين بالإعاقة في الاكتشاف والتدخل المبكر للإعاقات الإنمائية والمصابين بها، وكتيبات عن "الشلل الدماغي" و"الدمج المدرسي" و"متلازمة داون" و"الحقوق الإنسانية والإعاقة العقلية"، وله أبحاث نشرت في كندا حول حقوق الإنسان المعاق والهندسة الجينية، ودراسة موثقة منشورة في مجلات علمية حول حالات التحدي التي يمر بها أفراد أسر المعاقين في المنطقة العربية، إضافة إلى تنقيح استبيان منظمة الصحة العالمية حول اكتشاف المصابين بالتخلف العقلي، أما الإنجاز الأهم الذي أعده فهو تنفيذ دراسة ميدانية حول الفقر والإعاقة على امتداد العالم العربي، حيث احتوت على رصد كامل للتشريعات ودور القطاع العام في الإعاقة في كل دولة عربية على حدة، وتعداد كافة جمعيات القطاع الخاص العاملة في مجال الإعاقة، وتقييم مدى نجاحها في مواجهة تحديات الفقر والإعاقة، أما الجانب الأهم في الدراسة فهو إثبات التلازم الذي يتحكم في العلاقة بين الفقر والإعاقة، ليصل إلى حقيقة مهمة وهي أن المعاقين هم أفقر الفقراء.