بقلم: نورا الشرابي
نظر في عينيها يبحث عن شخص عرفه لأعوام طويلة فتاه في فراغ لف محجريها المتجمدين منذ زمن وارتد بصره حسيراً مخذولاً صفر اليدين.
أين تلك المرأة من الكائن الماثل أمامه؟ انتابته رعشة والكلمات تجلجل في زوايا رأسه..
لقد ذهبت إلى غير رجعة… إلى حيث يذهب من فارقوا الحياة ولم يبق إلا دفن جسدها المنهك المتهالك بين براثن العجز والمرض.
أنا ابنك أحمد!
اقرا ايضا: اكتشاف 21 مورثاً مرتبطاً بألزهايمر
فارتد صدى صوته عن جسد كالصوان الأصم وأدرك أنه ودّع روحها مذ أصبحت فريسة العجز ولم يبق أمامه إلا بقايا جسد يصارع بما تبقى فيه من حياة ليعيش يوماً آخر يكون سهماً يدمي قلوب من أحبها حسرة عليها… ويحيا يوماً آخر كي يكون شاهداً على أن هذا الجسد سكنته امرأة عظيمة في يوم من الأيام وفارقته الآن إلى غير رجعة.
ما أقسى الزهايمر من مرض، يعصف بالأحبة فيتركهم كأعجاز نخل خاوية، يخطفهم ممن يحبونهم كما يخطف النسر فريسته.
لم تكن الحال هكذا في البداية، كانت أم أحمد بكامل صحتها وقوتها وحنانها وعطفها، ناهيك عن طعامها الشهي الذي لا يقاوم، فكانت “الغراء” الذي يجمع أفراد العائلة في الأعياد وفي عطل نهاية الأسبوع حيث تتعالى الأصوات والضحكات وتنبض كل زاوية في البيت بالحياة.
كانت ترضي الصغار قبل الكبار والكل ينهل من نبع حنانها وحبها.
بدأ الأمر عندما بدأت تنسى بعض الأشياء في مناسبات مختلفة، فكان إنذاراً مبكراً أن هناك شيئاً ما لابد من تقصيه.
تطورت مناسبات النسيان وزاد تواترها، وأصبحت أم أحمد لا تفرّق بين الأوراق النقدية ولم تعد تميز قيمة الأشياء وأثمانها.
وفي أحد الأيام بينما كان أحمد يأكل طعامه المفضل الذي برعت أمه في طبخه، استغرب الطعم، لم يكن كما اعتاد عليه!
يبدو أنها نسِيَتْ وضع بعض المُكوِّنات.
لم يكن من أحمد إلا أن أخذ أمه إلى الطبيب المختص وأجرى التحاليل والأشعة التي طلبها وأكد الطبيب أسوأ مخاوفه:
- إنه الزهايمر، ويبدو أن هناك ضموراً في الفص الجبهي للدماغ وهذا الأمر سيزداد سوءاً مع الوقت.
هيّأ الطبيب أحمد لمواجهة أوقات سيضطر فيها إلى أن يجوع وأن يعطش وأن يتألم عن أمه، لأنها لن تستطيع أن تعبّر عن مكان ألمها أو أن تطلب الطعام أو الشراب.
امتدت طويلاً مرحلة تكرار السؤال وتكرار القصص وكأن حياة أم أحمد يعاد ضبطها كل دقيقة.
قد تذكر أموراً في الماضي بشكل جلي، لكن الحاضر يتجدد بالنسبة إليها في كل دقيقة فتنسى ما حدث في الدقيقة التي مضت.
فإن كانت قصة فهي تعاد مرة أخرى وإن كان سؤالاً فهو يكرر أكثر من مرة. كان الأمر غريباً في البداية لكن تعود الجميع على التكرار فكانوا يتعاملون مع الأمر بروح مرحة حتى أنهم كانوا يغيّرون الأجوبة في كل مرة تعيد السؤال عليهم فيعم جو من المرح رغم المرض والعجز.
تطورت حالة أم أحمد شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام تماماً كما قال الطبيب، كانت ماتزال قادرة على التعرف على أحمد وحيدها كلما دخل إلى غرفتها، فهي تبكي في بعض الأحيان عندما يضطر إلى السفر، وتستقبله بالدموع عند عودته.
مع مرور الوقت لم تعد تظهر على وجهها أية تعابير لدى قدومه أو مغادرته.
باتت نظراتها ملؤها الشك… من أنت؟ لم تعد قادرة على بث أية مشاعر … انكفأت على نفسها في بحر من الشكوك: “من هؤلاء؟” “أين أنا؟”
توقفت الأسئلة وتلاشت القصص المكررة إلى غير رجعة وصمتت أم أحمد ولم تعد تتكلم وخلا وجهها من التعابير فتحول إلى وجه خشبي تجمدت عضلاته كما تجمد الزمن بالنسبة لأم أحمد يوم نال منها الزهايمر بأذرعه الأخطبوطية.
تألم أحمد كثيراً، فمعاينة الشيء أقوى وقعاً على النفس من الكلام عنه؛ إذ من الصعب جداً أن تكون غريباً عن أمك وأنت تحاول بشتى الطرق أن تطمئنها وتزيل شكوكها لكن دون جدوى.
ومع مرور الوقت أصبحت نظراته إليها نظرات حنان وعطف لكنه تأقلم شيئاً فشيئاً مع الوضع القائم، وعاد يمارس حياته وكذلك كل أفراد العائلة وكأنها غير موجودة.
إنها مفارقة غريبة، فالكل يحبها ويخدمها إلا أنها بالنسبة للجميع باتت كأي شيء موجود في الغرفة لأنها لا تعرف أحداً منهم ولا تتفاعل مع أي حدث، وكأنهم غرباء عنها ولا تدري بأن نظراتها الفارغة هي كالسكاكين تغرز في قلوب محبيها.
بات أحمد يجوع عنها ويعطش عنها ويتوقع سبب ألمها إن تألمت تماماً كما أخبره الطبيب.
تحولت حياتها إلى روتين يومي ممتد، كل يوم كالذي قبله ولا يختلف عن الذي بعده، ثلاث وجبات ونوم ليس إلا.
تعود أحمد في الماضي أن يسبح في بحر من الحنان والأمان بمجرد النظر إلى عينيها… فما أن تلتقي عيناه بهما حتى تغمره موجات من الدفء تبث في روحه راحة قلما يجدها في تقلباته.. كم آلمه ما آلت إليه، افتقد أحمد ذلك الحنان فقد باتت نظراتها رشقات رصاص لا راد لها ولا وِجَاءَ من قسوتها.
ذهبت تلك النظرات بلا عودة وخلفت وراءها حزناً ويتماً وحسرة مع أنها لم ترحل بعد.
إجازة في الصيدلة.
كاتبة ومؤلفة .
الكتب المنشورة:
- سلسلة الكلمات المتقاطعة – دار الفكر للطباعة والنشر – دمشق ، سوريا –1997
- دليل الأم في الإرضاع من الثدي – دار الفكر للطباعة والنشر – دمشق ، سوريا –2002
- التعابير العامية الدارجة في اللغة الإنكليزية (الأميركية)-دار الفكر للطباعة والنشر-دمشق-سوريا-2005
- هكذا نقيد الأجيال-دار الفكر للطباعة والنشر-دمشق-سوريا-2010
- أوراق خريفية – دار الفكر للطباعة والنشر- دمشق- سوريا- 2013
- المشاركة في كتابة نص مسرحية بعنوان “وين ندق المسمار” ، عرضت في ثلاث ولايات أميركية أوهايو – تكساس – ولوس أنجلوس –
من المقالات التي نشرت لها:
- مقالة “الرحم.. أول مدرسة في التاريخ” مجلة الراشد العدد الثاني والعشرون، تاريخ نيسان 2003.–دبي ، الإمارات العربية المتحدة .
- مقالة “غريبان تحت سقف واحد” – مجلة مودة ، العدد 26 كانون أول 2003– أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة
- مقالة “الطفل في المطبخ عود ثقاب متحرك”- مجلة راشد، العدد 24 ديسمبر 2003
- مداخلة تحليلية لتحقيق بعنوان ” نساء يصرخن: لا للوظيفة نعم للبيت- مجلة زهرة الخليج، العدد1334 تشرين أول 2004
- مقالة ” دور الفرد في خلق التوازن النفسي الأسري- مجلة المجتمع العدد الرابع، أغسطس 2004
- ملف التسالي في مجلة أنت – قطر
- ملف التسالي في مجلة ولدي – الكويت
- للروح نصيب – مجلة المنال الإلكترونية – العدد مايو 2019 – الشارقة – الإمارات
- من هي المرأة الجميلة حقا؟ – مجلة المنال الإلكترونية – العدد ابريل 2019 – الشارقة -الإمارات العربية المتحدة.
- ملف التسالي في مجلة مرامي
- مسؤولة سابقة عن ملف التسالي لعدة مجلات إماراتية: الجزيرة الرياضية – همسات- مودة- راشد
- البوصلة الإنسانية ما بعد كورونا – مجلة المنال الإلكترونية – العدد ديسمبر 2020
- مهن السراء والضراء – مجلة المنال الإلكترونية – العدد مارس 2021
- الأشخاص ذوو الإعاقة وسوق العمل- مجلة المنال الإلكترونية- العدد مايو , 2022
شهادات تقدير وانجازات:
- مصنفة ضمن أدباء وأديبات القرن العشرين في سوريا ” أدب الأطفال وأدبائهم في سورية بالقرن العشرين ” – دار شهرزاد للنشر – دكتور مهيار الملوحي – دمشق – سوريا – 2004
- مؤسسة ورئيسة سابقة لرابطة الفنانات المسلمات والتي أدرجت في بحث أكاديمي بعنوان:
Muslim Women Visual Artists’ Online Organizations: A Study of IMAN and MWIA
رابط البحث
- شهادة تقدير من مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
المقابلات الإعلامية :
- مقابلة صحفية مع صحيفة أوكلاند برس الأميركية في ولاية ميتشيغان بقلم هوزيه هواريز – كانون أول – 1997
- مقابلة صحفية مع صحيفة أوكلاند برس الأميركية في ولاية ميتشيغان بعنوان “للزوجين ، الإسلام هو الحياة” بقلم دوج بومان -كانون أول – 1997
- مقابلة في جريدة خليج تايمز (Khaliij times) – “Authoring Success Stories”- By Anu Prabhakar, Published: Fri 8 May 2009 https://www.khaleejtimes.com/article/authoring-success-stories
أعمال إضافية :
- إعداد 240 ساعة إذاعية لبرنامج “راديو إي أو إف” . على محطة WNZK 680 AM في ولاية ميتشيغان الأميركية 1998-1999.