عندما بدأ أحمد* (31 سنة)، بمساعدة من أسرته ومعارفه، رحلة البحث عن عروس، كما هو متبع في الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، توقع أن تصعّب حقيقة كونه مشلول الساقين، المهمة، وتطيل أمدها، لكنه لم يتوقع أن تستمر الرحلة خمس سنوات كاملة، كانت إعاقته، خلالها، هي السبب الوحيد لرفضه. حتى اضطر في النهاية أن يتبع نصيحة صديق له، كان قد أصيب هو نفسه بالشلل قبل أكثر من ثلاثين سنة، ونصحه أن يتعامل بـ «واقعية» وأن «يتنازل». وهذا يعني، كما شرح له الصديق، أن يوسع، دائرة البحث لتشمل فتيات ليس لديهن، وفق المعايير الاجتماعية السائدة، حظوظ عالية في «سوق» الزواج: «حكالي مش غلط تكون أكبر منك، أو مش حلوة، أو حتى عندها إعاقة بسيطة».
لم ير أحمد أن من العدل أن تمنعه إعاقته من الزواج بفتاة تمتلك الحد الأدنى من المواصفات المتعارف عليها، والمقبولة اجتماعياً. خاصة أن الإعاقة لم تمنعه من إنجاز ما يسعى لإنجازه أي شخص «طبيعي» (غير معاق = من المحرر) وفق المعايير الاجتماعية.
كان أحمد في الثالثة عشرة عندما أصيب بالتهاب في حبله الشوكي، أدى إلى شلل في ساقيه. ورغم ذلك، تكيّف، بمساعدة من حوله، مع إصابته؛ فتعلم كيف يعتني بشؤونه الشخصية، وانخرط في رياضات المعوّقين، وأكمل دراسته الجامعية. ولأن أصحاب العمل القلائل، الذين قبلوا توظيفه، عرضوا رواتب ضئيلة، كانت، كما يقول، ستذهب معظمها مصاريف تنقل، أنشأ بقالة وفّرت له دخلاً جيداً، مكّنه خلال سنوات قليلة من تكوين نفسه مادياً.
خلال رحلة بحثه عن زوجة، تمحور الرفض، كما يقول، حول ثلاثة أسباب؛ اعتقاد الفتاة وأهلها أنه سيكون بحاجة إلى خدمة في أدق شؤونه الشخصية، «كانت البنت بتفكر إنها رح تتعامل مع شوال، تشيله وتحطّه»، السبب الثاني هو القناعة بأنه عاجز جنسيّاً، أو على الأقل غير قادر على الإنجاب، أمّا الثالث، فهو أنه إن أنجب، سيورّث أطفاله الإعاقة.
ورغم أنه أجرى، قبل أن يبدأ البحث عن شريكة حياة، كل الفحوص المطلوبة، وحصل على تقارير أثبتت قدرته على ممارسة الجنس والإنجاب، وكان يبرز هذه التقارير للفتيات وعائلاتهن في كل منزل يدخله، لكن القناعات المسبقة كانت، كما يقول، أقوى حتى من التقارير الطبية.
لهذا عمل بنصيحة الصديق. وقبْل سنة ونصف، تزوّج أخيراً من فتاة كانت وقتها في الثامنة والعشرين من العمر، مصابة بالسكري منذ الطفولة، وفقدت إحدى عينيها في حادث.
خلال خمس سنوات تلقى أحمد الرفض، المسبق، وراء الآخر من فتيات وعائلات لم يعطين أنفسهنّ فرصة للتعرف عليه بوصفه إنساناً، واكتشاف جوانب من شخصيته، وحياته، وآليات تكيّفه. وهو أمر كان يمكن لو حدث، أن يجعلهن يتجاوزن عن إعاقته، فيصححن، من ناحية ثانية، المفاهيم المغلوطة عنها.
إنه نهج في اختيار الشركاء لا ينطبق على الأشخاص ذوي الإعاقة فقط. ففي مجتمع يفصل بين الجنسين، ولا يعترف بشرعية أي علاقة خارج الخطبة والزواج، لا يستطيع معظم الرجال والنساء إقامة علاقات ينفذون من خلالها إلى دواخل بعضهم، فيضطرّون، بالتالي، إلى الوقوف على السطح، واختيار بعضهم بعضاً بناء على ما يمكن لمسه وقياسه بالعين المجردة من مواصفات، مثل الشكل والعمر والحالة المادية والشهادة العلمية والوظيفة، وسلامة الجسد من العيوب. هذه المواصفات، وإن كانت تلعب دوراً هامّاً في أي زواج، لكنها تفتقد، كما تقول إيمان، لديها شلل أطفال، إلى الركن الذي يشكل قاعدة أي علاقة إنسانية وجوهرها: التركيبة النفسية والعاطفية والفكرية للشخص. وهو أمر لا يمكن اكتشافه إلا من خلال علاقة عميقة، تسمح إذا توفرت للناس أن يتسامحوا مع الكثير مما سبق.
لقد كانت هذه آلية الاختيار التي اتبعتها الفتيات وعائلاتهن، وكان أحمد ضحية لها، وللمفارقة، كانت هي آلية بحثه هو أيضاً.
لكن جمال (31 سنة)، لديه منذ الطفولة خلل في الأعصاب يحدّ بشكل كبير من قدرته على استخدام يديه، ويجعله يمشي بصعوبة، يرفض الاستسلام لهذا المنطق، ويقول إنه لن يخوض مشروع زواج لا يكون مبنيّاً على انسجام عاطفي وفكري.
«مش مسألة إني بشوف حالي أحسن منهن،
أنا بس مش مستعد أرتبط بوحدة ما يكون بيني وبينها انسجام وعاطفة، بس لإنّه عندي إعاقة».
أكمل جمال دراسته الجامعية في الهندسة، ويعمل في تخصصه منذ التخرج. وفرص الزواج المتاحة أمامه حاليا، هي لفتيات لا فرص أخرى حقيقية لديهن، «مش مسألة إني بشوف حالي أحسن منهن، أنا بس مش مستعد أرتبط بوحدة ما يكون بيني وبينها انسجام وعاطفة، بس لإنّه عندي إعاقة».
هذه النظرة المجتمعية التي تقلل من إنسانية ذوي الإعاقة، تتجلّى أيضًا في نمطٍ من التعامل كان جمال يلاحظه من قبل فئة محافظة اجتماعيّاً من زميلات الدراسة والعمل. كان يلاحظ أنهنّ يتجنبن الاختلاط بالزملاء من الذكور، لكنهن يستثنين من ذلك الذكور ذوي الإعاقة، كما لو أن الإعاقة تجعل الواحد منهم، «أقل رجولة، أو إنه المعاق بالنسبة إلهن إنسان ناقص الذكورة»، يقول جمال.
ما سبق لا يجعل جمال ينكفئ فيما يسميه «قوقعة مجتمع المعاقين» في النوادي الخاصة بهم، بل يخرج منها إلى أوساط يرى أنها تمكنه من التعرف إلى أشخاص ينسجم معهم فكريّاً، مثل الندوات والفعاليات الثقافية، وهي أوساط ترتفع فيها، كما يقول، فرصته بلقاء فتيات يؤهلهنّ وعيهن للتجاوز عن إعاقته.
«عملوها مسخرة. حكولها شو هالهبل، بدك توخذي واحد معاق؟»
قبل سبع سنوات، ارتبط جمال فعلاً بعلاقة مع فتاة ليس لديها إعاقة، التقى بها في فعالية ثقافية. وبعد علاقة استمرّت سنتين، تقرّر أن يتقدم إلى خطبتها، لكن أهلها لم يقبلوا حتى استقباله: «عملوها مسخرة. حكولها شو هالهبل، بدك توخذي واحد معاق؟». رضخت الفتاة، كما يقول، لأن أهلها أفهموها أن الفكرة مرفوضة بالمطلق: «الناس بفترضوا إنه معاق يعني رح يقضي وقته في المستشفيات، ما بجيب أولاد، ومش رح يقدر يأمن دخل مناسب. وحتى لو كان عنده فعلا وظيفة ودخل ممتاز، بفترضوا إنه مهدد بأي لحظة يفقد وظيفته، من دون ما يكون في أي أساس منطقي لهذا الافتراض».
ضحايا الفصل المزدوج
ما يعمق مأساة الأشخاص ذوي الإعاقة، هو أنهم، إضافة إلى ما سبق، ضحية لنوع آخر من الفصل، هو الفصل الناتج عما يكاد يكون انعداماً للتهيئة البيئية التي تسمح لهم بالتنقل والحضور في الفضاء العام، كما تقول إيمان (42 سنة) التي تحمل درجة الماجستير، وتعمل في وظيفة إدارية: «اتطلعي على كثير من بلاد برة، بتشوفي كيف البيئة المادية كثير سهلة للي عندهم إعاقة، وكيف هم موجودين بكل مكان (…). كثير بفوت على يوتيوب وبحضر قصص عن ناس بكون هو أو هي ما عنده إعاقة وتزوج حدا عنده إعاقة، وارتبطوا ببعض. نتيجة إنه في اختلاط وانفتاح وتواصل. صرت تعرفني وأعرفك، بتقرب مني وبقرب منك».
عزل المجتمع لأصحاب الإعاقات، كما تقول إيمان، يعمّق حالة جهل، تقول إنها، منتشرة فيما يتعلق بطبيعة الإعاقات وحياة أصحابها، ما يكرّس «مفاهيم مشوهة»، تقول إنها، نفسها، كانت ضحية للكثير منها. وفي قضية محاطة بالكثير من الحساسية الاجتماعية، مثل الحاجة الجنسية، تقول إيمان إن عائلتها نفسها هم من تبنى بعض هذه الاعتقادات. فعندما كانت في التاسعة والعشرين، خطبت لشاب، كان مثلها على كرسي متحرك. ووصلها وقتها عن طريق أمها أن أخوتها علّقوا على الخطبة بأنها وخطيبها بعد الزواج «رح يعيشوا مع بعض هيك». و«هيك»، كما شرحت تعني من دون علاقة جنسية، لأنهم افترضوا أنها ما دامت وإياه على كراس متحرّكة، فإن هذا يعني حكماً أنهما لن يتمكنا من إقامة علاقة.
فسخت الخطبة لأسباب لا علاقة لها بالإعاقة. وقبل خمس سنوات، تقدم إليها شاب لديه إعاقة بسيطة في قدمه، لكن أهلها رفضوا هذه المرة أيضاً، لأنهم كما تقول، لم يكونوا مقتنعين أنها قادرة على إقامة هذه العلاقة: «ما بفترضوا إنو هاي الحاجة موجودة عند البنت اللي عندها إعاقة. إنتِ بس مخلوق على شكل بنت. كلي واشربي ونامي وروحي وتعالي – طبعا هذا إذا أعطوك الحرية تروحي وتيجي- وبفكروا إنه هيك كل شي موفرلك، فليش تفكري بهذا الإشي».
وضع جميع الإعاقات في سلّة واحدة، وربطها جميعا بالعجز الجنسي، وعدم القدرة على الإنجاب، أو حتى التوريث الحتمي للإعاقة في حالة الإنجاب، هو أحد الاعتقادات المغلوطة، وفق اختصاصي الطب الطبيعي والتأهيل، في وزارة الصحة، الدكتور علي الرجوب.
مشهد الإعاقات، كما يؤكد الرجوب، بالغ التنوع والتعقيد. ولكل إعاقة خصوصيتها، وتأثيراتها المختلفة على الشخص. ففيما يتعلق بشلل الأطفال مثلًا، يقول الرجوب إن «الإصابة هي فقط فيما يسمى بالعصب الطرفي، ما يؤثر على عملية المشي. وما عدا ذلك، فالمصاب هو شخص طبيعي تماماً في كل وظائفه الأخرى، بما فيها الرغبة الجنسية، والقدرة على والإنجاب».
الإعاقات الحركية التي يمكن أن تؤثر على الوظيفة التناسلية، كما يلفت الرجوب، هي تلك المتعلقة بإصابات الحبل الشوكي، والتي يمكن أن تكون قد تسببت بإيذاء الأعصاب المغذية للجهاز التناسلي، ما قد يؤثر على القدرة الجنسية، بصور مختلفة. لكن حتى في الحالات التي يفقد فيها الشخص القدرة على الممارسة الجنسية، قد يكون هناك إمكانية للإنجاب بواسطة تقنية الأنابيب.
أما عن الاعتقاد الشائع بتوريث الإعاقة للأطفال، يقول الرجوب إن هذا الاحتمال قائم فقط عندما تكون الإعاقة مرتبطة بعامل وراثي، هنا، قد يولد الأطفال حاملين للسمة الوراثية. وهو أمر يمكن التثبت منه بالفحوص المناسبة. أما الإعاقات الناجمة، عن حوادث، أو على سبيل المثال، نقص الأكسجين أثناء الولادة، فإنه لا يمكن أبدًا توريثها.
في كل الأحوال، يعود الرجوب ليؤكد أن لكل حالة إعاقة خصوصيتها. والموصى به دائماً، هو أن يخضع الرجل أو المرأة الراغبان بالزواج للفحوصات المناسبة. فهذا ما يجعل الشخص على بينة من الفرص التي يملكها.
«أنا كفيفة من النخلة وبرة»
تشير فرح (41 سنة)، إلى النخلة** المنتصبة أمام مدخل بيت عائلتها، وتقول إنها تفقد الرؤية بمجرد اجتياز الشجرة إلى الشارع. ما عدا ذلك، فهي تفعل كل ما يفعله أفراد عائلتها المبصرون. وليس المقصود فقط أنها قادرة على خدمة نفسها، هي أيضاً تنهض بنصيب عادل من أعمال المنزل: «بغسل وبطبخ وبنظّف. بحفر كوسا وبلف دوالي، وبعمل أشغال يدوية كمان (…). بحكولي دايماً في البيت إنت كذابة، إنت بتشوفي».
فرح التي أنهت الثانوية العامة، والتحقت بدورات مهنية بعدها، لكنها لم تعمل في أي وظيفة، لا تتمتع بالثقة نفسها عندما تخرج من المنزل. ولا يقتصر الأمر على الشوارع غير المؤهلة. هناك، بشكل أساسي، المضايقات التي تتعرض لها، عندما تمشي وحدها في الشارع: «كثير ناس بتتحركش فيّ. ومرات بلقى حدا بحسس عليّ في الباص. وبطّلت مثل زمان أقدر أطلع لحالي في التكسيات. شوفيرية التكاسي مش زي أول».
خاضت فرح التي فقدت الإبصار في سن الثانية عشرة، نتيجة مرض ألم بعينيها، ابتداء من سن الرابعة والعشرين، ثلاثة مشاريع زواج، جميعها مع أشخاص مكفوفين، وانتهت جميعها النهاية نفسها: الرفض القاطع من أهل الشاب أن يتزوج من كفيفة، موقف لخّصه ما قاله أهل حبيبها الأول، الذي تعرفت عليه في ناد للأشخاص المكفوفين، وارتبطت به لسنتين: «حكوله كيف رح تدبروا حالكم في البيت ومع الأولاد، وإنتو اثنين مكفوفين؟ (…) أصرّوا يجوزوه وحدة مش كفيفة عشان تساعده. وفعلا، بالآخر تركني وتزوج وحدة بتشوف».
تكاتفت الدراما مع الموروث الشعبي ـ كما يرى الدكتور مهند صلاح العزة ـ على تكريس صورة نمطية للأشخاص ذوي الإعاقة، تربطهم، غالباً، بالضعف والفقر
مثل أي شخص آخر، ما يحدد ما يستطيع صاحب الإعاقة فعله، كما يقول رئيس المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين، الدكتور مهند صلاح العزة، هو الظروف المهيئة له. وفي بيئة تخلو من العوائق، وتتوفر فيها الوسائل التقنية المساعدة، يستطيع هؤلاء القيام بما يقوم به الأشخاص غير المعاقين: «لا يستوعب الناس أن رجلًا أو امرأة كفيفين مثلًا، يمكنهما القيام بالأعمال المنزلية، ورعاية الأطفال، وباقي المهام الحياتية فيما لو توفرت التسهيلات (…). لدى الناس فكرة نمطية، هي أن التعامل مع الأشياء يتم حصرياً بطرق محددة، ولا يستوعبون حقيقة أن صاحب الإعاقة يطور آليات تعلّم خاصة به، ولديه من وسائل استشعار الأشياء ما يمكنه من التعامل معها. فالتعامل مع الفرن مثلًا، لا يكون وفق الفكرة النمطية إلا من خلال العين التي ترى شعلة النار، لكن الكفيف يستطيع التعامل معه من خلال استشعار السخونة والبرودة، والرائحة والصوت».
لقد تكاتفت الدراما مع الموروث الشعبي، كما يرى العزة على تكريس صورة نمطية للأشخاص ذوي الإعاقة، تربطهم، غالباً، بالضعف والفقر. صورة كرّسها خطاب ديني يستحضرهم دائماً في سياق الحثّ على رعايتهم، وربط ذلك بالأجر والثواب، بحيث يصبح الإحسان إليهم جسر الناس إلى الجنة، إلى أن استحكمت هذه الصورة في الأذهان.
يروي العزة، وهو كفيف، أنه والعديد من أصدقائه من الأشخاص ذوي الإعاقة، تعرّضوا كثيراً إلى موقف يتلخّص في أن يكونوا في مكان عام، ثم يأتي شخص ليضع في أيديهم صدقة. واحد من هذه المواقف، تعرّض له قبل ثلاث سنوات، عندما كان عضواً في مجلس الأعيان. كان يقف في الشارع، عندما تقدمت منه امرأة ومدّت إليه ديناراً. يقول إن موقفاً مثل هذا كان في بداية شبابه يستثير لديه غضباً شديداً، لكنه الآن لم يعد يفعل.
يومها، سأل السيدة بهدوء عن دخلها، وعندما أجابته، قال لها إن دخله أعلى بثلاث مرات، وإنه هو من يجب أن يتصدق عليها: «قلتلها أنا عندي بنت عمرها خمس سنين. لو كانت معي بهاي اللحظة وشافت الموقف، كيف ممكن أفسرلها؟ شو ممكن أحكيلها؟ كيف صورة مثل هاي ممكن تروح من مخيلتها؟».
ما حدث مع العزة، حدث ذاته أكثر من مرة مع سامي (35 سنة)، بالتحديد، أثناء صلاة الجمعة في المسجد، إذ فوجئ أكثر من مرة، وهو جالس يؤدي الصلاة على كرسي، وإلى جانبه «الووكر»، بشخص يضع في حجره قطعة نقدية: «مع إني بكون لابس ومتأنق، وحالق لحيتي، وحاطّ جل على شعري (…) غريب كيف لما يتطلعوا عليك ما بشوفوا غير الووكر، وكيف مباشرة بربطوه بالفقر والحاجة».
كان سامي في الخامسة والعشرين عندما أصيب بالتهاب في النخاع الشوكي، نتج عنه شلل في جانبه الأيسر. وقتها، كان قد تخرج من الجامعة، والتحق بعمل. أمضى ستة شهور في المستشفيات، ثم خرج منها على كرسي متحرك. وخلال عشر سنوات، طرأ تحسن تدريجي على وضعه، جعله يستعيض عن الكرسي المتحرك بـ «ووكر».
كان قبل إصابته على علاقة مع فتاة، بدأت تنسحب من حياته بالتدريج. وبعد خمسة شهور من الإصابة، انتهت العلاقة تماماً. ولم يجرؤ بعدها على القيام بأي مبادرة جدية تجاه أي فتاة. فقد وضع نصب عينيه هدفاً، هو أن يواصل رحلة علاجه، وألا يدخل أي علاقة قبل أن يصل إلى حدّ أدنى من التحسن.
هو يعرف، كما يقول، إنه لن يصل إلى الشفاء التام، لكنه يطمح أن يصل، على الأقل، إلى مرحلة يكون فيها واثقًا من قدرته على إقامة علاقة جنسية، والإنجاب: «أخوي الصغير تجوز، وإجاه بيبي. وكثير متألم إني ما بقدر أحمله، بدي إذا إجاني بيبي أقدر أحمله».
يفتقد سامي، في الأثناء، بشدة، كما يقول العلاقة مع الجنس الآخر. يخطر له أحياناً أن يكون أكثر مرونة في الأهداف التي وضعها لنفسه، خصوصاً أن السنوات تمر، لكنه لا يستطيع بعد التغلب على أعظم مخاوفه، وهو أن تفشل العلاقة الجنسية، ويكون ذلك سببًا لانفصاله. لهذا يغلق الباب أمام كل ما يمكن أن يستثير الرغبة: «مرات كثير بقول لحالي أجرّب حتى، على الأقل، تهيئني [التجربة] للزواج، وتبني عندي ثقة، بس بقمع هاي الأفكار، وبخلّي الحاجة تتراجع لورا (…) إذا إجى مشهد في فيلم بغير عنه. مباشرة بطلع حالي من الجو، بطلع للشارع، بعزم صديق، بكتب. ولحالهم عقلي وجسمي بنسحبوا».
يقول سامي إن الأمر استغرق منه سنوات من «التدريب» حتى أصبح قادراً على ضبط رغبته. لكن ما يشعر أنه ما يزال يضغط عليه بشدّة هو الحاجة العاطفية التي تلبيها علاقة حب بين رجل وامرأة، لأن: «الزواج مش بس جنس وأطفال؛ عندي حاجة لحدا غير أمي يحضني. كل إنسان عنده حق إنه ينحضن من حدا غير أمه. هذا مرّات كثير بعوّض حتى عن الجنس والأطفال».
المطلوب هو، «تحييد الإعاقة»، أي الكف عن اختزال أصحاب الإعاقات في إعاقاتهم،
باستحضارها في كل تعامل معهم
وهو ذاته ما تقوله فرح: «هاي الحاجة العاطفية إنه يكون عندك حدا يسمعك، ويتعامل معك بلطافة، مش أبوك ومش أخوك».
تشعر فرح بظلم شديد للسبب الذي من أجله فشلت مشاريع زواجها. وتقول إن الأغلبية الساحقة من الفتيات الكفيفات اللواتي تعرفهن عانين القصة ذاتها، عندما ارتبطن بأكفّاء تركوهن ليتزوجوا مبصرات: «الزواج بلبّي حاجة عاطفية وجسدية هي حق طبيعي لكل إنسان. حتى الحيوانات عندها هذا الحق. شو يعني إذا ما بشوف، حياتي تنتهي؟».
تنخرط فرح حالياً في علاقات «عابرة» مع مبصرين وغير مبصرين، كما تقول. وهي علاقات، تؤكد أنها تعرف منذ بدايتها انها ستكون عابرة، لكنها، خلال «اشتعالها» فترة الشهرين أو ثلاثة التي تستغرقها كل علاقة، تسدّ بعض الفراغ: «ممكن الواحد يلهّي حاله عن الحاجة الجسدية؛ أنا مثلا مدمنة نت، بحضر على يوتيوب مسلسلات وأفلام، وبقرأ كثير كتب صوتية، بس الحاجة العاطفية ما بتموت، بتتخزن وبتضغط نفسيّاً. ومرات كثيرة بحس باكتئاب».
في المقابل فإن إيمان حريصة على عدم الدخول في هذا النوع من العلاقات؛ بالنسبة إليها، العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تسد الفراغ لديها بشكل حقيقي، هي العلاقة المعلنة: «إذا ما كانت العلاقة مقبولة اجتماعيّاً، رح تضلي دايماً بخوف وقلق، وعارفة الإشي رح ينتهي بالآخر (…) هذا الشخص مش رح يكون دايماً إلك، ولا رح تلاقيه وقت الزنقات». موقفها هذا، كما تقول، انسجام منطقي مع ما تريده هي من العلاقة الإنسانية: «الشخص اللي ما بده يتقدم رسمياً، ممكن يكون كل اللي عنده مجرد رغبة، إلها وقت وبتنتهي. وهذا إشي بعتبره مهين إلي».
انتهت علاقات فرح فعلًا، لكنها تقول إنها ليست نادمة على أيّ منها، حتى عندما كانت تكتشف أن من ارتبطت به كان ينظر إليها على أنها ترتكب خطأ، الأمر الذي تراه متنافياً مع المنطق؛ أن يعتقد شخص أن ما تفعله خطأ، في وقت يكون هو نفسه شريكاً في هذا الفعل: «هذا حقي مثل ما هو حقك. مثل ما إنت إلك احتياجاتك، أنا إلي احتياجاتي. مثل ما عندك مشاعر وأحاسيس وحقك تعيشها، أنا عندي زيّها، وحقي أعيشها».
يرتبط الموقف المجتمعي من الأشخاص ذوي الإعاقة، كما يرى العزة، بثقافة تتسم بضعف ثقافة فهم الاختلاف وقبوله، سواء كان هذا اختلافاً في الدين أو التقاليد أو اللون أو غيرها. وهو رفض تزيد من حدّته مفاهيم مشوهة عن الإعاقات وأصحابها، تراكمت عبر سنوات طويلة، وكرست العديد من الصور النمطية، كان على رأسها ربطهم بالنقص.
المطلوب هو، كما يقول، «تحييد الإعاقة»، أي الكف عن اختزال أصحاب الإعاقات في إعاقاتهم، باستحضارها في كل تعامل معهم؛ فهذا وحده ما يساعد على دمجهم في المجتمع، وقبولهم بوصفهم جزءاً من التنوع البشري.
( * ) غيرت الأسماء في التقرير للحفاظ على خصوصية أصحابها
(**) غيّر نوع الشجرة منعا لأن تقود المعلومة إلى التعرف على الشخصية
معدة التقرير: دلال سلامة
[email protected]
عملت معلمة لغة عربية 13 سنة في مدارس وزارة التربية، ثم تحولت إلى الصحافة العام 2008، حيث عملت في عدة مؤسسات أبرزها مجلة السجل وصحيفة الغد ومرصد مصداقية الإعلام الأردني (أكيد) التابع لمعهد الإعلام الأردني.
رابط التقرير: هنا
(حبر = 7iber)
· مجلة الكترونية ومؤسسة إعلامية تسعى لإيصال المعلومة وتشجيع المواطنين على سرد قصصهم والتفاعل من أجل الوصول إلى مجتمع أكثر انفتاحاً وتواصلاً. تقوم حبر بإنتاج محتوى تفاعلي ذي قيمة معلوماتية ونوفر مساحة لحوارات نقدية وآراء متعددة، كما تنظم ورش عمل ودورات تدريبية في مجال الإعلام الرقمي، وتجمع الناس معاً في نشاطات مجتمعية.
· تؤمن حبر بحقوق الإنسان وحرية التعبير والوصول إلى المعلومة. وتؤمن بأن الأفراد والمجتمعات يجب أن يملكوا حرية سرد ومشاركة قصصهم وآرائهم الخاصة. وتعمل على تطبيق هذه القيم من خلال النشاطات المختلفة التي تقوم بها.
· انطلقت حبر في عام 2007 كمنصة لإعلام المواطن وتمت تغطية التكلفة الأولية للموقع من قبل المؤسسين. منذ 2009، كبرت حبر وتطورت لتصبح مؤسسة مسجلة كشركة محدودة المسؤولية في الأردن، تموّل من خلال منح ومشاريع إعلامية مختلفة تقوم بتصميمها، إضافة إلى التدريب.
· حالياً داعموها الأساسيون هم: المؤسسة الأوروبية من أجل الديمقراطية، مؤسسة دعم الإعلام العالمي IMS، سفارة مملكة هولندا في عمّان، السفارة السويسرية في عمّان، ومؤسسة هيفوس Hivos.
· حصلت حبر سابقاً على دعم من مؤسسة المجتمع المفتوح Open Society Foundation، ومؤسسة هينريتش بول Heinrich Boell Foundation، والوكالة السويدية للتنمية والتعاون الدولي، وصندوق الشراكة العربية، ومؤسسة إنترنيوز Internews.