تطور مفهوم المواطنة من حيث مضامينه وعناصره تبعاً للتحولات الإجتماعية والتاريخية ضمن حركية تقوم على تطور العلاقات والحاجات والحقوق والإلتزامات حيث تجاوزت دلالاته الأبعاد السياسية والقانونية مع بروز أزمة الدولة القومية التي شكلت أساس الفكر الليبرالي لسنوات عديدة؛ كما طرح بحدة مع تنامي النزاعات العنيفة العرقية والإثنية والدينية داخل الدولة الواحدة في أعقاب نهاية الحرب الباردة.
وتحيل كلمة "المواطنة" إلى الوطن؛ أي ذلك الفضاء الجغرافي والسياسي الذي يقيم فيه الإنسان وتجمعه به علاقات قانونية مجسّدة في الجنسية وثقافية وسياسية واجتماعية ترتبط بالشعور بالإنتماء الوجداني والتاريخي والثقافي والتمتع بمختلف الحقوق والإلتزام بالواجبات وهناك من يعتبرها نتاجاً للشراكة في وطن واحد.
وتتنوّع أشكالها بين القسريّ والفطريّ من جهة والاختياريّ من جهة أخرى؛ كما أن حقوق المواطنة تعني المواطنين ذوي الجنسية الأصيلة أو المكتسبة، وهي تقوم على مجموعة من المبادئ في علاقتها بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات؛ والحرية في مختلف تجلياتها (التنقل، ممارسة الشعائر الدينية، التعبير، التفكير..)، المشاركة السياسية، والمسؤولية الاجتماعية..
إنها عصب الديمقراطية باعتبارها (المواطنة) حقّا وواجباً تتعايش عبرها الخصوصيات الحضارية والثقافية.. ويتقوّى الشعور بالمواطنة داخل المجتمعات الديمقراطية التي تترسّخ فيها قيم العدالة والحرية والمساواة، وهي لا تتأتّى مع الاستبداد الذي يلغي حقوق المواطنة ولا يعترف غالبا إلا بالواجبات، حيث تتحوّل معه المواطنة إلى نوع من العبودية.
تشير الكثير من الدراسات إلى أن الوطن الذي لا يستوعب مكوناته الاجتماعية بمختلف تجلياتها (الثقافية والعرقية والإثنية والدينية..) ولا يدعم حقوق الأفراد في إطار من الأمن والإستقرار الذي يحميه وجود تعاقد بين الفرد والدولة يؤدي إلى اختلالات تقتل روح المواطنة وتربكها.
وفي هذا السياق يتأثّر ولاء وانتماء الأشخاص إلى كيانات معينة بمجموعة من العوامل حيث يتسع ويضيق الشعور بالمواطنة تبعاً لمجموعة من الشروط في علاقتها بالظروف التي يعيش فيها الفرد (التنشئة الإجتماعية؛ طبيعة النظام السياسي السائد..) كما أن الشعور بالخطر الخارجي وتهديد المصالح المختلفة ينمّي الشعور بالمواطنة..
وتشير التحولات المختلفة التي شهدتها المجتمعات داخلياً أو تلك المرتبطة بتطورات المحيط الدولي إلى أنه لم يعد بإمكان القنوات التقليدية من أسرة ومدرسة ورفقاء.. أن تؤثر بمفردها في تشكيل القناعات والمرجعيات والقيم الثقافية والإنتماءات بعدما دخلت على الخط قنوات متطوّرة يتجاوز تأثيرها حدود الدولة أو المجتمع الواحد.
إن الشعور بالمواطنة هو مؤشر على تمتّع الإنسان بحقوقه الإقتصادية والإجتماعية والمدنية والثقافية والسياسية؛ ونظراً لأهمية هذا المفهوم في تفسير عدد كبير من الظواهر السياسية والإجتماعية والثقافية في أي مجتمع؛ فقد حظي باهتمام عالمي متزايد من قبل الباحثين والمهتمين منذ أكثر من عقدين، فهناك ارتباط وثيق بين حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً وحقوق المواطنة التي تحيل إلى مجموعة من الحقوق الاقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية والدينية التي تترتّب عنها.
وإذا كان دعم قيم المواطنة وحقوقها هو دعم لحقوق الإنسان؛ فإن الحقوق المترتبة عن المواطنة تحتلّ مركزاً أساسيا ضمن الممارسة الديمقراطية متى رسّخت الشعور بالمساواة والعدالة والحرية.
وتؤكّد التجارب والممارسات الميدانية أن درجة انصهار وتعايش الأفراد داخل المجتمع الواحد تظلّ في جانب مهم منها متوقفة على طبيعة التعامل الذي تسلكه السلطات السياسية والإجتماعية نحوها، فالنأي عن العدالة والحرية والديمقراطية يحرض مختلف المكونات الإجتماعية على الإختباء خلف الخصوصية والميل نحو الإنغلاق عن المحيط العام، والبحث عن انتماءات ضيقة بديلة، مما يفضي إلى مظاهر من الصراع والإضطراب والتعصب والإنقسام، فيما التشبث بهذه القيم والمبادئ يرسخ الشعور بالمواطنة ويدفع نحو التعايش والإندماج.
وإذا كان الحراك المجتمعي القائم في المنطقة العربية قد شكّل مناسبة لرفع عدد من المطالب (الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية والدستورية..) التي تنحو إلى إعادة النظر في العلاقة المتوتّرة بين المواطن والنظم السياسية القائمة من العلاقة التي يطبعها الحذر والصدام إلى علاقة مبنية على التواصل واحترام الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية في إطار تعاقد اجتماعي جديد قادر على بلورة مواطنة تحتكم إلى المؤسسات واحترام الحقوق والواجبات وتحقيق المصالحة والتواصل المفتقدين بين الشعوب والأنظمة السياسية في المنطقة.. فإن ما يعرفه العالم من تحولات اقتصادية وثقافية.. وتطورات مذهلة في مجال التكنولوجيا الحديثة يطرح أكثر من سؤال بصدد هذا المفهوم؛ ومدى تأثّره بهذه التحولات الكبرى؛ بما يوسّع من دلالاته ويسمح باستيعابه لهذه المتغيرات نحو التأسيس لـ "مواطنة عالمية"..
إن التعريفات الواردة بصدد "المواطن العالمي" أو "المواطن المعولم" لا زالت تحمل قدراً من الإلتباس والغموض؛ بين من يعتبره ذلك الشخص المنفتح الذي يرى في العالم بتشابكه وعلاقاته ومصالحه التي تعلو على كل مصلحة أو انتماء سياسي أو عرقي أو إيديولوجي ضيق وطنا له، وبين من يرى فيه تحصيلاً طبيعياً للتحولات الدولية الجارية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي باتجاه العولمة والاهتمام بقضايا ومخاطر مشتركة تتجاوز الحدود السياسية..
وتنتج عن "المواطنة العالمية" على غرار المواطنة المحلية حقوق وواجبات كونية بموجب التشريعات والمواثيق الدولية، وتشير الكثير من الأبحاث والدراسات إلى أن حقوق "المواطن العالمي" تنتعش وتزدهر في ظل السلم والأمن الدوليين واحترام الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فيما تتهدّد وتتدهور في أجواء الحروب والتوترات والصراعات والأزمات العالمية المختلفة.
وهناك مجموعة من العوامل التي بدأت تسهم في تراجع مفهوم المواطنة في مظهره الضيق والمحلي مقابل بروز ما يسمى "بالمواطنة العالمية" أو المواطن العالمي، ذلك أن تطور العولمة التي أضحى بموجبها العالم قرية صغيرة تجمعها مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتشابك المصالح وتنامي الإعتماد المتبادل بين الدول؛ وتزايد أدوار الفاعلين الجدد في الساحة الدولية من منظمات دولية وشركات كبرى وأفراد ورأي عام عالمي.. أسهم في تآكل المفهوم التقليدي للسيادة وتراجعه.
كما أن تزايد الإهتمام بقضايا حقوق الإنسان في أبعادها الكونية بعيداً عن أي تمييز عرقي أو ديني أو أي عامل آخر مرتبط باللون أو النوع أو الجنس.. أسهم إلى جانب تطور تكنولوجيا الاتصال وبروز المواطن الصحفي مع تطور شبكة الإنترنت؛ في بلورة ثقافة وانتماءات تتجاوز حدود الدول الجغرافية؛ وفي تآكل الإيديولوجيا واعتبار شعوب العالم شركاء في كوكب واحد تتهدّد سكانه مخاطر مشتركة..
ولعبت التكتلات الواعدة واستثمارها للمشترك الجماعي؛ أدوراً كبيرة في بلورة روح واسعة للمواطنة تتجاوز حدود الدولة الواحدة؛ حيث تنامي الإهتمام بالقضايا والمخاطر الدولية التي تلقي بظلالها أمام كل دول العالم بشمالها وجنوبها.. كما توسّع مدلول السلم والأمن الدوليين؛ مع بروز مخاطر غير عسكرية تفرض تحديات أمام "المجتمع الدولي" برمته ("الإرهاب" الدولي؛ الجريمة المنظمة؛ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمراض الخطيرة العابرة للحدود؛ وتلوث البيئة).
أستاذ العلاقات الدولية والحياة السياسية في كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض في مراكش.
حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 2001.
مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، وهو أستاذ متعاون مع الأكاديمية العربية في الدانمارك، ورئيس منتدى المنارة لأبحاث التنمية وعضو الهيئة الاستشارية لنقابة الصحفيين المغاربة.
شارك في أكثر من خمسين مؤتمراً وطنياً ودولياً (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، الأردن، لبنان، السعودية والكويت).
نشر له أكثر من خمسين دراسة وبحثاً مرتبطة بالقانو ن والعلاقات الدوليين والشؤون العربية والعلوم ا لسياسية في عدد من المجلات العربية المتخصصة في المغرب ومختلف الدول العربية (المستقبل العربي، شؤون عربية، دراسات استراتيجية، السياسة الدولية، رؤى تربوية، نوافذ، المسبار الشهري، الديمقراطية، التاريخ العربي والمنبر القانوني).
نشرت له العشرات من المقالات في عدد من الصحف المغربية و العربية كالقدس العربي والعرب اللندنية والعرب القطرية والمحرر التونسية والوسط البحرينية وأخبار العرب السعودية والرأي الكويتية، الغد الأردنية والاتحاد الإماراتية والعالم العراقية..
أجريت معه العشرات من الحوارات ونشرت في عدد من الصحف المغربية والعربية والدولية، وترجمت بعضها إلى لغات أجنبية كالفرنسية والايطالية والانجليزية.
ينشر مقالاته في مواقع الكترونية كالعربية نت ومركز الجزيرة للدراسات ودروب ومنبر الحرية وأسبار.
صدر له كتابان الأول تحت عنوان: (التداعيات الدولية الكبرى لأحداث 11 سبتمبر) صدر في المغرب سنة 2005، والثاني تحت عنوان: (إدارة الأزمات في عالم متغير؛ المفهوم والمقومات والوسائل والتحديات)، صدر عن المركز العلمي للدراسات السياسية في الأردن سنة 2010.
أسهم في عدد من الكتب الجماعية منها: العرب والعالم بعد 11 ايلول / سبتمبر (صدر في بيروت)، وكتاب: العولمة والنظام العالمي الجديد (صدر في بيروت)، وكتاب: نحو استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، وكتاب: العنف والجريمة: التجليات والاجراءات (2011).
حاصل على إحدى جوائز العدالة الانتقالية من مركز الكواكبي بتونس سنة 2010.