هناك أمور شائعة في حياتنا اليومية، وهي تحدث بقصد أو بدون قصد، عن رغبة أو بدون رغبة، وقد لا نفكر بأثرها على الطفل، ولعل من أبرز تلك الحالات قضية الفراق أو البعاد بين الناس بأنواعها ودرجاتها المختلفة، وهي حالات يمكن أن تحدث بشكل ما لأي إنسان – لا سمح الله – وبأي زمان ومكان.
تحدث حالات الفراق السريعة بغياب الوالدين أو أحدهما لفترات قصيرة مثل ساعات في اليوم، أو حتى يوم كامل أحياناً، ويكون أثرها أقل من حالات الفراق المديدة أكثر أو المتكررة مع تذكرنا دوماً للنصيحة التربوية المثلى بضرورة ملازمة الآباء والأمهات لأبنائهم لأطول فترة ممكنة، إن التأثير المتوقع لأي حدث يجب أن يؤخذ بضوء العمر والمرحلة التطورية للطفل، وكذلك على ضوء العلاقة الخاصة ما بين الطفل والشخص المفقود سواء لجهة درجة القرابة، أو لمدى التعلق والارتباط بينهما، وأيضاً على ضوء طبيعة الفراق الحاصل، فمثلاً ترك الطفل في المستشفى يحمل أثرأً أبلغ بكثير من تركه عند جده أو جدته، مع أن الحالتين تنطويان على غياب للوالدين، ولكن عملية التعويض مختلفة في المثالين، أما حالات الفراق القاسية والتي تشتمل على غياب أحد الوالدين بشكل دائم أو شبه دائم فإنها ذات أثر أعمق وأخطر بالتأكيد.
إن الإرتكاس الأولي للفراق عند الأطفال الصغار يمكن أن يشتمل على بكاء أو صراخ أو سلوك يشبه (المظاهرة)، أو على العكس قد ينطوي على حالة من الهدوء والسكون (الذي يسبق العاصفة)، فبعد ساعات قليلة أو حتى يوم من الزمن تظهر على الطفل آثار أعمق، فتحدث عنده حالة من الانسحاب والانعزال والسكينة الزائدة أو حالة من الهياج والعنف ومقاومة الجهات الجديدة التي تتولى رعايته، وبكلا الحالتين فإن اضطراب الشهية وارد، ويمكن أن تحدث مصاعب حقيقية وقت النوم مثل مقاومة الذهاب للسرير وحالات من الأرق والقلق واضطراب النوم وصعوبة الوصول لنوم هادئ، وقد يحدث سلوك نكوصي أو تراجعي مثل التبويل على النفس في السرير، ويمكن لهؤلاء الأطفال أن يسألوا بشكل متكرر عن الغائب، ومتى سيعود أو تعود، وبعضهم قد لا يشير لذلك إطلاقاً، أما البعض الآخر فيذهب إلى الباب أو النافذة أو إلى الجيران بحثاً عن المفقود، وقلة قد يهيمون على وجوههم ويغادرون المنزل أو مكان الإقامة بحثاً عما فقدوه، ويجب أخذ هذا الإرتكاس الأخير رغم ندرته على محمل الجد نظراً لخطورته، وبالتالي بمجرد فقد الطفل بهذه الظروف ولو لوهلة ينبغي البحث عنه وبكل جدية.
إن استجابة الطفل لعودة الغائب رغم ما تحمله من معاني الفرح والسعادة لكل الأطراف إلا أنها قد تكون مذهلة ومؤثرة أحياناً، فمثلاً قد يتفاجأ الأب العائد إلى بيته يغمره السرور بأن يقابله ابنه القلق والحذر باللامبالاة أو بتركه بعد فترة قصيرة والابتعاد عنه غير مكترث بعودته، ويمكن تفسير ذلك بنمط وطبيعة ذلك الطفل أولاً وطبيعة العلاقات المحيطة به ثانياً، فقد يعزى ذلك لحالة الغضب من عملية تركه، أو من حالة الخوف اللاشعوري من تكرار ذلك ثانية في المستقبل، فمثلاً إذا كانت الأم من النوع الذي يوبخ الطفل دائماً وتقول له (كف عن صراخك) أو (لقد جلبت لي الصداع)، إذا نومت هذه الأم في المستشفى فإن الطفل قد لا يشعر بالذنب أو الخطأ، وكنتيجة لهذه الأحاسيس سوف يصبح أكثر التصاقاً بوالده الآخر أكثر من الغائب، أو ربما يتعلق بالجد أو الجدة أو حتى المربية.
بعد عودة الغائب فوراً أو بعد عودته بأيام قليلة فإن بعض الأطفال وخصوصاً الصغار سوف يصبحون أكثر تعلقاً وأكثر اعتمادية من ذي قبل مع استمرار أي سلوك تراجعي قد حصل خلال الفراق، إن مثل هذه الإرتكاسات عادة ما تكون عابرة، وخلال أسبوع أو أسبوعين يتعافى الطفل منها ويستعيد سلوكه وتوازنه المعتاد، إن الفراق المتكرر يمكن أن يجعل الطفل أكثر قلقاً وحذراً في إعادة العلاقة مع الوالد الذي يغيب بشكل متكرر وذلك كدفاع طبيعي لا شعوري من قبله خشية تحطم العلاقة ثانية، هذا الأمر قد يؤثر حتى على العلاقات الشخصية الأخرى، وعلى أولياء الأمور عدم محاولة تحسين سلوك الطفل عبر التهديد أو مغادرة المنزل إطلاقاً.
إن ما ذكرناه يجرنا للحديث عن حالات فراق أشد إيلاماً مثل الطلاق – وهو أبغض الحلال إلى الله -، أو وضع الطفل في دور التربية والحضانة بشكل دائم لسبب ما، أو غير ذلك، وهذه تؤدي للتأثيرات المذكورة سابقاً، ولكن بشكل أكثر خطورة وشدة واستمرارية، إن الطفل في عمر المدرسة يمكن أن يرتكس على شكل اكتئاب أو لامبالاة أو غضب صريح، والبعض ينكرون أو يتجنبون الموضوع سلوكياً أو كلامياً، إن معظم الأطفال يعيشون بأمل أو تخيل أن ما حصل لم يحصل حقيقة، ويمكن أن يشعر الطفل بالذنب حيث أن بعضهم يتصورون أن ما حصل هو عملية طرد أو عقاب لهم على سلوك خاطئ، وبعض الأطفال يمكن أن يحملوا أنفسهم المسؤولية عما حصل، ويظنون أن عملهم السيء هو الذي دفع بأحد الوالدين أو كلاهما لتركه، ولذلك فإن الأطفال يشعرون بعقدة الذنب ولا يستطيعون إتهام الوالدين، بسبب شعورهم بأن ذلك يحمل خطورة أكثر وأكبر، إن الأطفال الذين يشعرون أن ما حصل هو بسبب سوء تصرفهم يعتقدون أن المشاكل بين الوالدين إنما هي بسببهم، والبعض تحدث لهم بالفعل أعراض سلوكية ونفسية جسدية ـ لا سمح الله – وللحديث بقية.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.