كانت تنتظر تلك الزيادة في راتب زوجها بفارغ الصبر لتجلب لأطفالها أشياء وعدتهم بها. عندما فتح الباب استقبلته بوجهها البشوش الرحب فأخبرها بقصة… لقد كان صديقه في ضيق فلم يتوانى عن إعطائه تلك الزيادة ليفرج بها كربه. وعندما انتهت قصته ابتسمت ابتسامة مشرقة دون تكلف والفرح يشع من عينيها وقالت: أحسنت صنعا أيها الحبيب وبارك الله لك في مالك.
ما الذي يجعل زوجة تتقبل هذا النوع من الأفعال من زوجها قلباً وقالباً ولو كان على حساب أولادها؟
وصلتنا عبر إرثنا التاريخي بطولات من هذا النوع كانت تقع على آذاننا وقعاً حسناً لكنها كانت تمثل قصصاً فقط نتندر بها وشتان بين أن نسمع الشيء وبين أن نراه أو نصنعه بأنفسنا.
ما السر العجيب في علاقة الزوج بزوجته ليجعل تلك العلاقة بهذا التميز؟
كيف يمكن للزوجة أن ترقى بفهمها لزوجها فتوافقه على غريب الأفعال دون أن تظهر قبولاً وتبطن تمعضاً؟
هذه الشفافية بالعلاقات تجعل من المستحيل واقعاً ومن غريب التصرفات أمراً عادياً.
من أين نبدأ؟
يعتبر البناء الفكري والديني والأخلاقي أساساً في الانطلاق نحو تلك الشفافية فبوجود الأساس يمكننا البناء. وتبدأ تلك المرحلة قبل لقاء الزوجين إلا أن العلاقة لابد لها من عوامل أخرى بعد الزواج لتصبح بذلك الرقي وبتلك الشفافية من تلك العوامل:
توسيع دائرة الاهتمام:
نبني كأفراد عائلات ونتكفل سراً وعلناً طوعاً وكراهيةً بتأمين احتياجات تلك العائلة. ومع دوران عجلة الحياة نغرق في هموم تلك العائلة بكافة أنواعها ونمارس مهامنا كآباء للخروج من تلك الهموم وتجاوز المطبات. هذا الأمر طبيعي ويشترك الجميع في القيام به كجزء من واجباتنا نحو تلك الأسرة إلا أننا بتوقفنا عند هذا الحد لن نستطيع أن نبني علاقة مميزة كأزواج فالشيء الذي يشترك به الجميع لا تميز فيه، فمن أين يأتي التميز؟ يأتي التميز من توسيع دائرة الاهتمام من عائلة صغيرة إلى آفاق أوسع فيستمر الزوجان بأداء واجباتهما نحو تلك الأسرة وعيونهما على الخارج بدءاً من الجيران إلى الأهل إلى الأصدقاء وربما اتسعت تلك الدائرة لتشمل المجتمع بأكمله لتصل إلى أرقى درجاتها. هذا النوع من الاهتمام قد يوحي للوهلة الأولى بتأثير سلبي على الأسرة ذاتها فالمنطق يقول توزيع الاهتمام على أشخاص أكثر يجعل حصة الأسرة أقل. لكن في هذه الحالة الأمر مختلف لأن المجتمع نسيج متماسك فكل تأثير إيجابي على المجتمع يعود على الأسرة مرة أخرى بالخير.
هل نهتم بأولادنا دون أن ننظر إلى أولاد الآخرين؟ إذا استطعنا أن ننظر إلى كل طفل كما ننظر إلى أطفالنا نكون قد قطعنا شوطاً واسعاً في الرقي بتلك العلاقة. فصلاح أصدقاء أبنائنا هو صلاح لأبنائنا وفسادهم هو فساد لهم. فتمني الخير وزرع الفضائل ونقل التجارب والمعارف إلى كل الأطفال يعود بالفائدة على الأسرة أولاً وأخيراً.
ما أجمل أن يجلس زوجان ويتناقشان في كتاب قد قرآه يستخلصان معاً العبر والحكم. هذا النوع من التواصل الفكري يجعل الزوج والزوجة كتفاً بكتف في طريق التطور الفكري لكل منهما لا يسبق أحدهما الآخر وهذا النوع من الممارسة الفكرية والأدبية يلغي أية فجوات قد تحصل عندما يتكاسل أحد الزوجين وينشط الآخر. ويولد هذا التقارب الفكري فهماً عميقاً بينهما ينجم عنه تناغم فريد وشفافية مميزة.
تبادل التجارب الاجتماعية:
تعيش الزوجة داخل المنزل تجارب تربوية من نوع خاص قد يكون الزوج بعيداً عنها بسبب انشغاله خارج المنزل والعكس بالعكس صحيح فالزوج يعيش تجارب اجتماعية من نوع خاص من خلال عمله ولقائه بالكثير من الأشخاص. فعندما يقوم الزوجان بتبادل تلك التجارب فإن تكاملاً من نوع خاص يحصل عند الشخصين كليهما بالإضافة إلى ذلك الوقت الثمين الذي ينفقه الزوجان في تلك الأحاديث بدلاً من إنفاقه في سبل أخرى لا تعود بمنفعة.
دفع الآخر نحو الأفضل:
يعتبر الزوجان أقرب شخصين لواقع كل منهما فهما يتعاملان مع بعضهما بعضاً على طبيعتهما دون تزييف في المشاعر ودون تكلف في المعاملة وهما أقدر الناس على كشف عيوب الآخر ومواطن نقصه. إنهما كتابان مفتوحان يستطيع أحدهما قراءة الآخر قراءة صحيحة. من هنا يأتي دور كل منهما في دفع الآخر نحو الأفضل والأكمل فعندما يرقى كل منهما بالآخر يرقيان معاً نحو علاقة متميزة بطرفين متميزين.
إن خلق علاقة بهذه الشفافية وهذا السمو بين زوجين قد يبدو صعباً للوهلة الأولى في عالم مزدحم يسعى فيه الجميع للمرور بسلام دون الإصابة بخدوش. إننا كأشخاص نملك الخيار في أن نمر بسلام أو أن نتوقف لنحصل على علاقة من هذا النوع لنحاول من خلالها تغيير ولو سلبية واحدة في هذا الازدحام الاجتماعي.
هذه الوقفة ليست بالأمر السهل وقد تصعب على النفس وهوى النفس إلا أن لحظة واحدة مميزة في علاقة مميزة بين زوجين تعدل ذلك جميعاً.
لا بد أن شراء ما وعدت تلك الأم أطفالها به كان سيدخل سعادة عارمة على قلبها وعلى قلوبهم إلا أن فرحتها بتلك القصة تنم على أنها قد قايضت تلك السعادة بسعادة أكبر منها.