أيهما أكثر تأثيراً في مستقبل النشء! التربية المنزلية أم تربية الشارع، من حيث اكتساب العادات الاجتماعية والسلوكية ونمو الشخصية واكتمال القدرات العقلية؟ بالطبع لكل من هذين العاملين تأثيره الكبير في تكوين النشء، فالأسرة تمنحه عادات وتوجه سلوكه في المستقبل وتمنحه الكثير من طباعها الهادئة والجدية أو العصبية والانفعالية ومما تختزنه في تكوينها لأن الطفل مقلد بالطبع ويحلو له تقليد الكبار ولا سيما والديه وأخوته الكبار، وللشارع تأثيره القوي الذي لا يمكن تجاهله سلباً أو ايجاباً!!
يمثل الشارع قوة تربوية مؤثرة لها إيجابياتها وسلبياتها؛ حسناتها أو سيئاتها. فالقوة الايجابية هي أن الولد يحب الشارع ويهرب إليه تاركاً وراءه أماً تصخب وأباً يغضب. إذ يستهويه الشارع لأنه يجد فيه رفاقاً من سنه يتفاهم ويتجاوب معهم في كثير من النواحي فضلاً عن الانسجام في اللعب والحديث. فالمستوى العقلي متقارب أو حتى واحد والرغبات والميول واحدة. فتراه يعطي ويأخذ ويقلد رفاقه في بعض سلوكياته فيكتسب منهم روح الجماعة ويخرج من انعزاليته إن كان من الخجولين ويتعلم الصراحة في الحديث وعدم الخجل ويكتسب أثناء اللعب كثيراً من الخبرات الجسمية والعقلية فتصقل نفسه وتتحلى بروح الجماعة فيعتاد على التسامح والتضامن والغيرية ويتعرف على الحياة ويعتاد على المشاركة في أعمال المجموعات من الأطفال.
ولقد ألح العالم السويسري (كلاباريد) على أثر اللعب ضمن مجموعات الأولاد في تربية قواهم العقلية والنفسية والخلقية، وأدخل أكثر المربين فعالية اللعب في تربية الحواس: الأجهزة الأساسية والهامة في ايصال الولد إلى الادراك المجرد ومعرفة حوادث الكون والعلاقات الإنسانية مع بعضها الآخر. وهذه الفعالية يجب أن تتم على شكل جماعات عمل كما هو الأمر في مدرسة (دوروش) الفرنسية المشهورة.
وكان (روسو) أيضاً قد أولى اللعب أكبر الأهمية في التربية، وهذا ما يلح عليه (مكارنكو ـ الاتحاد السوفييتي سابقاً). إذ أن اللعب أساس في تربية الطفل ـ الولد، والشارع يسمح له باللعب الكثير حتى يعرق جسمه وتنهك قواه، كما يسمح له أيضاً بالحرية في تصرفاته مما يتيح لشخصيته فرصة التكوين والظهور بشكل بارز.
أما من الناحية السلبية، ففي مجتمع كمجتمعنا لا يمكن ضمان المكتسبات الايجابية التي تحدثنا عنها فهناك من أخذ عن ذويه حب الذات والأنانية والكذب فلا يتصرف إلا ضمن هذه النقائص الخلقية فيقتدي به الطفل المتسم بالصدق. وقد قيل قديماً في الأمثال: (إن القرين بالمقارن يقتدي)، ثم هناك النواحي الاخلاقية من انحرافات جنسية والميل لتكوين العصابات التي تسرق وترتكب أخطاء لا يقرها المجتمع مقلدين بذلك ما يشاهدونه في السينما أو التلفزيون أو ما يطالعونه من كتب مسيئة.
ويعتاد الولد على الفوضى فلا يمتثل لنصح والديه ولا يلبي لهما طلباً لأنهما يمثلان القوة المقيدة للحرية أثمن سلوك يرغب فيه الولد ويجده في الشارع فقط، إذ في المنزل تقيد التصرفات، فالتربية المنزلية في السن المبكرة للولد يجب أن تنحصر في الوالدين وفي رياض الأطفال فهنا الحنان وتلبية الرغبات والصحة والنظافة وتمرين مبدئي للحياة المقبلة.
والحقيقة أن البيئة المنزلية السليمة لا تعوض بأية بيئة أخرى ولا سيما إذا كان جو المنزل يسوده التفاهم بين الأبوين وتزينه روح الحب والعطف والحنان وتزيده جمالاً موهبة فنية أو أدبية أو علمية يتمتع بها أحد الوالدين فيكون خير قدوة لولد يفتح عينيه على مواهب قد لا تتوفر لغيره من أترابه، ويقتبس منذ نعومة أظفاره ركائز قوية في تكوين شخصيته وثقافته وفي اتجاه معارفه.. وكم من أديب أو شاعر أو فنان يستند نجاحه وشهرته إلى تأثير والديه أو أحدهما في توجيهه منذ الصغر.
أما ما ذكرناه من حسنات الشارع وفضائله ـ إن جاز التعبير ـ فيمكن الحصول عليها في المؤسسات الخاصة بالأطفال حيث تتم فيها تربية الأطفال تربية تامة في جو لطيف ومريح.
وهذا يقودنا إلى ضرورة الاهتمام بتحضير قادة تربويين ـ مدربين ومشرفين ومربين ـ تحضيراً تربوياً وسلوكياً يسمح لهم بالحفاظ على الأمانة الغالية التي وضعها الوطن والأهل بين أيديهم من أجل تربية الجيل التربية التي نتمناها والتي تحقق الأهداف المرجوة وتعطي الثمار المنتظرة.